![]() |
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
![]() |
خيارات وادوات |
صادق جبار حسين
2025 / 2 / 16
لطالما شكلت العشائر في العراق جزءًا أساسيًا من البنية الاجتماعية حيث كانت وسيلة لحفظ الأمن والاستقرار في غياب الدولة. إلا أن ضعف القانون وتراجع هيبة الدولة أدى إلى انحراف بعض الممارسات العشائرية مما حولها إلى أدوات تُكرس الفساد والظلم الاجتماعي بدلًا من تحقيق العدل اليوم بات الفصل العشائري و"الدكات العشائرية" والقضايا العشائرية واستغلال الأعراف القبلية وسائل ابتزاز تُقوض سلطة القانون وتحرم المواطنين من العدالة الحقيقية .
يُروى أن شخصًا ألقى القبض على لص دخل بيته لسرقته فكان أمامه ثلاثة خيارات جميعها لا تحقق العدالة .
إذا ضرب الص وسلّمه إلى الشرطة ستأتي عشيرته تطالب بالفصل العشائري بسبب تعرضه للأذى .
إذا لم يضربه وسلّمه إلى الشرطة قد يدّعي اللص أنه كان متواعدًا مع امرأة من العائلة مما يجرّ مشكلة أخرى تُطيح بكرامة صاحب البيت.
وإذا لجأ إلى قتل اللص دفاعًا عن نفسه وعائلته وممتلكاته سيجد نفسه متورطًا في قضية قتل ، حيث يثور أقرباء السارق مطالبين بالقصاص رغم كونه مجرمًا.
أمام هذه الخيارات العبثية خلص صاحب البيت إلى نتيجة مأساوية مفادها أن أفضل ما يفعله عند الإمساك بلصّ هو أن يمنحه "مصروف جيب" ويطلق سراحه حتى يتجنب دوامة الابتزاز العشائري والقانوني .
حيث بات أحد أبرز مظاهر الانحراف في التقاليد العشائرية الحديثة هو استغلال " الفصل العشائري" لتحقيق مكاسب شخصية على حساب العدالة حيث في السابق كانت الأعراف العشائرية وسيلة لضبط النزاعات ومنع الفوضى لكنها تحولت اليوم إلى تجارة مربحة لشيوخ العشائر الذين يسعون وراء الأموال والنفوذ وليس تحقيق العدالة هؤلاء الشيوخ الذين يُطلق عليهم ساخرًا " شيوخ الثريد " أو شيوخ التسعينات لا يهتمون بمظالم الناس بقدر ما يبحثون عن تعويضات مادية حتى لو كان الجاني لصًا والمجني عليه صاحب حق .
في ظل هذا الواقع المأساوي الظالم أصبح القانون عاجزًا عن تطبيق سلطته لأن كل قضية جنائية قد تتحول إلى نزاع عشائري يستنزف الضحية بدلًا من إنصافه ، كذلك خوف رجال القانون من ضباط ومنتسبين من سطوة العشائر وخوفهم من تطبيق القانون خشية ان يتعارض مع مصالح بعض الشيوخ مما يجرهم ويضعهم في مواجهة مع شيوخ العشائر .
أكثر الفئات تضررًا من تنامي نفوذ العشائر هم رجال الشرطة الذين أصبحوا عاجزين عن تطبيق القانون في مواجهة سطوة العشائر وخشيتهم من ردود فعل شيوخها. فكثيرًا ما يتجنب الضباط تنفيذ أوامر القبض على أفراد ينتمون إلى عشائر قوية خوفًا من التعرض للانتقام عبر " الدكات العشائرية " أو الفصل العشائري .
في حادثة وقعت حاولت قوة أمنية اعتقال أحد المطلوبين في محافظة ميسان جنوب العراق لكن سرعان ما تحولت العملية إلى مواجهة مسلحة بعد تدخل عشيرة المطلوب التي لم تكتفِ بتهديد أفراد الشرطة بل هاجمت منزل الضابط المسؤول عن العملية بوابل من الرصاص مما دفعه إلى مغادرة المدينة مؤقتًا حفاظًا على حياته . هذه ليست حالة فردية بل باتت ظاهرة متكررة في العديد من المحافظات حيث يجد رجال الأمن أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مر: إما تطبيق القانون وتعريض أنفسهم للخطر أو غضّ الطرف لتجنب مواجهة العواقب العشائرية .
لم يقتصر نفوذ العشائر على تعطيل دور المؤسسات الأمنية بل امتد ليشمل حتى الصراعات السياسية حيث أصبح اللجوء إلى التحكيم العشائري وسيلة لحل الخلافات بين المسؤولين بدل الاحتكام إلى القضاء ففي إحدى الحوادث الشهيرة نشب خلاف بين نائبين في البرلمان العراقي بسبب تصريحات مسيئة وبدل اللجوء إلى المحاكم تدخل شيوخ عشائرهما لحل النزاع عبر " فصل عشائري" بلغت قيمته مئات الملايين من الدنانير هذه الحادثة تعكس مدى تغلغل الأعراف العشائرية حتى في الطبقات السياسية التي يُفترض أنها تُمثل سلطة الدولة لكنها في الواقع تخضع لنفوذ العشائر أكثر من خضوعها للقوانين الرسمية .
لم يعد استخدام العنف العشائري مقتصرًا على النزاعات التقليدية بل أصبح أداة ضغط وابتزاز تُمارسها بعض العشائر ضد الأفراد والتجار وحتى المؤسسات الحكومية ففي بغداد والبصرة وغيرهما من المدن كثيرًا ما تُهاجم منازل مسؤولين أو رجال أعمال بوابل من الرصاص أو القنابل الصوتية لإجبارهم على دفع "تعويضات عشائرية" غير مبررة وهو ما يُعرف محليًا بـ"الدكة العشائرية" لأسباب أكثرها تافهة كا شجار بين أطفال او نساء .
رغم تصنيف هذه الممارسات ضمن قانون مكافحة الإرهاب إلا أن تنفيذ العقوبات بحق مرتكبيها يظل محدودًا بسبب خوف الضباط والقضاة من العواقب العشائرية ففي إحدى الحالات أُلقي القبض على أفراد من عشيرة تورطوا في "دكة" ضد أحد التجار، لكن سرعان ما أُطلق سراحهم بعد ضغوط مارستها عشيرتهم ، مما يعكس مدى ضعف القانون أمام سلطة العشائر .
إن انتشار الفساد والظلم الاجتماعي في العراق لم يكن نتيجة ضعف القوانين بقدر ما كان بسبب هيمنة العشائر على مؤسسات الدولة ، مما جعل سلطة العرف العشائري تفوق سلطة القانون . طالما استمرت هذه الهيمنة ، سيبقى تطبيق العدالة رهينًا بمصالح الشيوخ وأعرافهم ، ولن يتحقق الإصلاح إلا إذا استعادت الدولة هيبتها ، وفرضت سلطة القانون فوق الجميع ، دون خوف من سطوة العشائر أو تهديداتها .
إما أن يكون العراق دولة يحكمها القانون ، أو أن يبقى بلدًا تتحكم به الأعراف العشائرية ، حيث يصبح الدفاع عن الحق جريمة ، ويُصبح المجرم هو صاحب اليد العليا .
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |