المثقف الاصطناعي: عندما يكتب الذكاء الاصطناعي بدلاً عن الكاتب

أزاد خليل
2025 / 2 / 12

الساعة السادسة بعد مغيب الشمس، هنا في أقصى شمال الأرض، حيث أقيم في منافي الاسكندنافي، الجو في الخارج قارس البرودة، إذ تدنت درجات الحرارة إلى ما دون الصفر. أمسك بشاشة هاتفي، أتنقل بين الصفحات ومواقع الأخبار العاجلة، أزمة سياسية هنا، زلزال مدمر هناك، اقتصاد ينهار وتحديات مناخية تتفاقم، بينما تتصدر زوايا المقالات آراء النخب الفكرية.

لكن فجأة، اسمٌ يقفز أمامي مثل ضفدع ضل طريقه عن مستنقعه قبل عنوان مقال له. أعرفه جيدًا، تمامًا كما يعرف تاجر الذهب الفرق بين المعدن النفيس والنحاس، وكما يفرق خبراء العسل بين الأصلي والمغشوش، وكما يميز بائع القماش بين الحرير والبوبلين. لم يكن الأمر مفاجئًا بقدر ما كان صادمًا، فرؤيته بين من يحملون لواء الفكر والمعرفة إهانة للكلمة وامتهان للثقافة. فهذا الشخص لم يكن يومًا محبًا للقراءة، ولا متمكنًا من الكتابة، ولا حتى قادرًا على تكوين جملة مفيدة دون أخطاء.

ومع ذلك، ها هو اليوم يتحدث عن العولمة، الفدرالية، واللامركزية، وعن الوطن ودم الشهداء، مستخدمًا مصطلحات سياسية تبدو لامعة لكنها خاوية، كمبنى ضخم بلا أعمدة. ما الذي تغيّر؟ كيف تحوّل من شخص بالكاد يفهم أبجديات السياسة إلى “كاتب” و”محلل” تُنشر مقالاته في مواقع محترمة؟

السر؟ التكنولوجيا!

لقد أصبح الذكاء الاصطناعي سلاحه السري، وعصاه السحرية التي يكتب بها ما يعجز حتى عن فهمه. جمل منمقة، مقاطع مكتوبة بأسلوب محترف، مصطلحات معقدة تبدو وكأنها خرجت من عقل أكاديمي مخضرم. لكنه، في الحقيقة، لا يفعل شيئًا سوى إدخال بضع كلمات إلى خوارزميات الذكاء الاصطناعي، فتنتج له مقالًا كاملًا، متماسكًا ظاهريًا، لكنه مجرد هيكل فارغ لا يحمل أي بصمة فكرية.

ثم يبدأ “جهده البحثي المضني”، رحلة مرهقة من النسخ واللصق، يضيف سطرًا هنا، يحذف كلمة هناك، ويضع توقيعه في النهاية وكأنه عبقري زمانه. وهكذا، في غياب التدقيق والتحرير الحقيقي، يتحول من مجرد شخص بلا معرفة إلى “كاتب مقالات”، يُنظر إليه على أنه مفكر، وربما خبير سياسي في المستقبل!

الكتابة بين الإبداع والسرقة الفكرية

الكتابة ليست مجرد حروف تُرص، بل هي نتاج عقل يبدع، وفكر يتعمق، وبحث يستغرق ساعات وأيامًا لفهم القضية المطروحة. لكن في زمن التكنولوجيا، بات بإمكان أي شخص أن يختصر هذه الرحلة الفكرية إلى مجرد بضع نقرات على لوحة المفاتيح، فينتج مقالًا يبدو محترفًا، لكنه في حقيقته لا يختلف عن طعام بلا طعم ولا رائحة.

المأساة الحقيقية ليست في هؤلاء فقط، بل في المنصات التي تحتضنهم!

كيف يمكن لموقع إخباري محترم أن يسمح بنشر كلام فارغ كهذا؟ كيف تمر هذه “المقالات” دون تدقيق حقيقي؟ أليس من المفترض أن يكون هناك حد أدنى من المعايير؟ متى أصبحت الصحافة تساوي بين الكاتب الحقيقي ومن يستعين بخوارزميات لا روح لها؟

المشكلة لا تتوقف عند استخدام الذكاء الاصطناعي في الكتابة، بل تمتد إلى عدم القدرة على التمييز بين المقال التحليلي العميق وبين الهُراء الإنشائي المكرر. فكيف يمكن أن يناقش شخص ما موضوعًا بحجم الفدرالية أو العولمة أو نظام سياسي مركزي ولا مركزي في بضعة أسطر، ثم يضع 1/2/34 وكأنها نقاط عبقرية ملخصة؟ وكيف تكون الخاتمة مجرد جملتين أو ثلاث، لا تقدم أي إضافة للقارئ؟

الحشرات الفكرية: وباء يهدد المعرفة

إننا اليوم نشهد عصرًا جديدًا من الطحالب الفكرية، فئة تتكاثر بسرعة مستغلة غياب الرقابة وضعف المعايير. وفقاعات فكرية جوفاء، تدّعي المعرفة بينما لا تملك منها سوى المظهر. هم أشبه بحشرات فكرية، تتسلل إلى المنابر الإعلامية، وتروج لنفسها كأنها نخب سياسية وثقافية وفكرية.

ما يزيد الطين بلة، هو أن هذه الشخصيات، التي كانت حتى الأمس القريب عاجزة عن فهم أبسط المفاهيم السياسية، أصبحت اليوم تحتل مساحة في الإعلام، تتحدث بثقة عن قضايا لم تفهمها، تكتب مصطلحات لم تعِها، وتنشر مقالات مليئة بالكلام المنمق لكنها فارغة من أي مضمون حقيقي.

وفي ظل غياب التدقيق، نجد هؤلاء يتحولون إلى “مفكرين”، بينما الحقيقة أنهم مجرد أصوات نشاز لا تملك شيئًا سوى الضجيج، تمامًا كما لا يمكن للغراب أن يصبح نسرًا، ولا يمكن لابن الحمار أن يكون فارسًا أصيلًا، مهما حاول تقليد مشية الخيول!

حين تسقط الأقنعة

لكن الحقيقة لا يمكن إخفاؤها إلى الأبد. الليل قد يظن أنه يخفي الشمس، لكنه في النهاية لا يستطيع حجب نورها. وكما قال جدي رحمه الله: الشمس لا تُغطى بغربال.

قد يتمكن هؤلاء من خداع البعض لبعض الوقت، لكن العقل الواعي لا يصعب عليه التمييز بين العسل الأصلي والمغشوش، وبين الكاتب الحقيقي ومن لا يملك إلا النسخ واللصق.

نعم، الذكاء الاصطناعي أداة عظيمة، لكنه ليس بديلاً عن الفكر البشري، ولا يمكن أن يصنع مفكرًا من شخص لم يقرأ كتابًا في حياته. وليس لديه رؤية شخصية أو فكر خاص أو أسلوب منفرد يميزه. وكما لا يمكن للطحالب أن تتحول إلى أشجار عملاقة، فإن هؤلاء سيبقون مجرد فقاعات سرعان ما ستنفجر أمام أول اختبار حقيقي للمعرفة.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي