![]() |
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
![]() |
خيارات وادوات |
عبد النور إدريس
2025 / 2 / 12
الحلقة 7: ج /1
في صباح دافئ، اجتمع با حميد مع أصدقائه في بث مباشر على منصة تيك توك، يناقشون موضوعًا شغل عقول الكثيرين: الفرق بين صانع المحتوى والمؤثر. كانت الأجواء مليئة بالحماس، وكل الحاضرين أدلوا بدلوهم في الموضوع. غير أن دور نوري 19 كان يحمل مفاجئات ممتعة، والذي اعتاد أن يضيء النقاش بأفكاره العميقة المستمدة من تخصصه في علم الاجتماع.
عندما جاء دوره، أخذ نوري نفسًا عميقًا وقال:
"إذا أردنا أن نفهم الفارق بين صانع المحتوى والمؤثر، علينا أن ننظر إلى المسألة من زاوية علم الاجتماع الرقمي. هل سمعتم بمفهوم التجمع (la foule) عند غوستاف لوبون؟"
هزّ بعض الحاضرين رؤوسهم، بينما علق أحدهم: "سمعت عن كتاب سيكولوجية الجماهير، لكنه قديم، أليس كذلك؟"
ابتسم نوري 19 وأجاب: "صحيح، لكنه لا يزال مرجعًا مهمًا لفهم سلوك الجمهور على الإنترنت. لوبون يشرح كيف أن الأفراد داخل التجمع يفقدون حسهم النقدي، ويتحولون إلى كتلة تسير خلف قائدها دون تفكير. في عالم تيك توك، يمكننا أن نرى ذلك بوضوح مع المؤثرين الذين يمتلكون قاعدة جماهيرية ضخمة. متابعوهم لا يطرحون الأسئلة، بل يتبعونهم دون تحليل، تمامًا كما وصف لوبون."
تدخل با حميد وقال: "يعني أن المؤثر هو زعيم جماهيري أكثر منه صانع محتوى؟"
أومأ نوري 19 قائلاً: "تمامًا! لكن لننظر الآن إلى صانع المحتوى. هو مختلف لأنه لا يعتمد على التأثير العاطفي وحده، بل يبني مجتمعه بناءً على المعرفة والقيمة التي يقدمها. هنا يأتي دور إميل دوركايم الذي تحدث عن نوعين من التضامن في المجتمعات: التضامن الآلي والتضامن العضوي."
سأله أحد المتابعين الفضوليين: "وما الفرق بينهما؟"
أجاب نوري 19: "التضامن الآلي يحدث في المجتمعات التقليدية حيث يشترك الجميع في نفس القيم والعادات، تمامًا كما يحدث في تجمعات المؤثرين، حيث يتبع الجمهور القائد دون تفكير نقدي. أما التضامن العضوي، فهو ما يحدث في المجتمعات الحديثة، حيث كل فرد يحتفظ بشخصيته المستقلة لكنه يتعاون مع الآخرين لتحقيق أهداف مشتركة. وهذا بالضبط ما يفعله صانع المحتوى، فهو لا يسعى لجذب المتابعين فقط، بل إلى خلق بيئة تفاعلية تساهم في تبادل المعرفة وتنمية الأفراد."
تدخل ym ، محاولًا تبسيط الفكرة: "يعني أن المؤثر يجمع جمهورًا يشبه القطيع، بينما صانع المحتوى يبني مجتمعًا قائمًا على التفاعل والتفكير النقدي؟"
ابتسم نوري 19 وأشار بإصبعه قائلاً: "بالضبط! لذلك، عندما نرى شخصًا لديه ملايين المتابعين، لا يجب أن ننخدع بالعدد. السؤال الحقيقي هو: هل يبني محتوى هادفًا أم أنه مجرد قائد لجماعة تتبعه بلا تفكير؟"
ساد الصمت لوهلة قبل أن يعلق أحدهم: "هذا يغير نظرتي تمامًا لمنصة تيك توك!"
ضحك با حميد وقال: "إذن، لنتفق على شيء واحد: ليس كل من يملك متابعين مؤثرًا حقيقيًا، وليس كل صانع محتوى يحتاج إلى جمهور ضخم ليكون ذا قيمة!"
وانتهى البث على وقع أفكار نوري 19 التي تركت الجميع يفكرون بعمق في عالم المحتوى الرقمي، وكيف يمكن للمعرفة أن تكون سلاحًا ضد الانجراف الأعمى خلف المؤثرين.
صانع المحتوى ونظرية القهقهة،ج/2
في ليلة يتماوج فيها الضوء بين أزقة البث المباشر على تيك توك، اجتمع با حميد وأصدقاؤه حول طاولة النقاش، يترقبون شرارة الفكر تتوهج في هذا الفضاء الرقمي. كان موضوع الليلة يدور كما الصباح حول الفرق بين صانع المحتوى والمؤثر، سؤال بسيط في ظاهره، لكنه مثل ماء عميق يعكس السماء ويخفي تياراته الجارفة.
كالعادة، بدأ الجميع في الإدلاء بآرائهم، إلى أن جاء دور نوري 19، الذي كان صوته يشبه وترًا يُشد بمهارة على آلة الفهم. نظر إلى الشاشة وقال:
"لنبدأ من الأساس، من طبيعة الجمهور نفسه... هل فكرتم يومًا في الفرق بين التجمع والجماعة؟"
ساد الصمت لحظة، ثم جاء صوت با حميد مستفسرًا: "وضح أكثر، خويا نوري؟"
أخذ نوري نفسًا عميقًا وشرح:
"غوستاف لوبون تحدث عن التجمع كظاهرة نفسية، حيث يفقد الأفراد تميزهم ويذوبون في كتلة تتحرك بدافع التأثر العاطفي. على تيك توك، نرى هذا بشكل واضح مع المؤثرين الذين يملكون قاعدة جماهيرية ضخمة، جمهورهم لا يسأل، لا يحلل، لا ينتقد، فقط يتبع. أما صانع المحتوى، فهو مختلف، إنه يبني جماعته لا على التأثير اللحظي، بل على المعرفة والقيمة، مثلما شرح إميل دوركايم من قبل."
تدخل ym، أحد رواد البثوث الذكية، مبتسمًا وقال: "ذكرتني بمثال مثير: صاحبة القهقهة على تيك توك!"
نظر إليه الجميع بدهشة، وتابع:
"في أحد لايفات ملاحي، كانت هناك فتاة لم تكن تملك شيئًا سوى ضحكة مميزة، قهقهة انطلقت عفوية، ثم بدأت تنتشر، تتكرر، تتضاعف، حتى تحولت إلى سمة. ومع الوقت، أصبحت صاحبة القهقهة مؤثرة، بل رمزًا يُقلده الآلاف. لكن السؤال هو: هل بدأت كمؤثرة أم أن الاجتهاد والاستمرارية خلقا حولها ما يشبه الأسطورة؟"
نظر إليه نوري 19 بإعجاب وقال:
"ما تذكره يجعلني أفكر في أثر الفراشة butterfly effect ، تلك النظرية التي تقول إن رفرفة جناح فراشة في إحدى دروب الموزمبيق مثلا ، قد تتحول إلى إعصار في صحاري المكسيك. ضحكة عابرة، بدأت كنبضة بسيطة في فضاء تيك توك، لكن لأنها مرت بمرحلة حاضنة من التفاعل والاستمرارية، تحولت إلى قوة تأثيرية لا يستهان بها. إنها ليست مجرد قهقهة، بل أصبحت نظرية القهقهة، نموذجًا لكيفية تحول التفاعل البسيط إلى تأثير كاسح."
ضحك ym وهو يهز رأسه: "يعني أن تيك توك قد يحول الهامش إلى مركز، واللاشيء إلى ظاهرة!"
هز نوري 19 رأسه مؤكدًا: "وهذا هو الفرق بين صانع المحتوى والمؤثر، الأول يبني محتواه على الفكرة، والثاني قد يُخلق من العدم بفعل التفاعل الجماهيري."
ساد الصمت للحظة، كما لو أن الجميع يستوعب الدرس العميق المنساب بين الكلمات. ثم علق أحد المتابعين:
"هذا يغير نظرتي للمنصة تمامًا… هل نحن من نخلق المؤثر أم أنه يخلقنا؟"
ضحك نوري وقال: "السؤال الآن… هل نضحك، أم نخشى قهقهتنا القادمة؟"
ثم انقطع البث بلمسة زر طائشة من بين أصابع با حميد، تاركًا خلفه ظلال أفكار تتراقص في رؤوس المشاهدين، كما لو أن أثر الفراشة قد بدأ لتوه…
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |