![]() |
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
![]() |
خيارات وادوات |
كرم خليل
2025 / 2 / 10
أفرزت الحرب السورية من بدايتها نسقًا من الظواهر والمصطلحات المعبّرة عنها، ولعلّ آخر هذه الظواهر ما عُرف اصطلاحًا باسم "التكويع"، فبُعيد سقوط النظام انتقلت فئة من الناس من تأييد النظام السابق إلى تأييد سلطة الأمر الواقع التي أطاحت به، ممثلة بأحمد الشرع، المعروف سابقًا باسم الجولاني، ناهيك عن إظهارها أنّها مع الثورة منذ البداية. أي: التكويع هو مصطلح أوجده الشارع السوري لوصف الناس الذين أبدوا تأييدهم للثورة وسلطات الأمر الواقع بعد سقوط النظام وانهياره، متجاوزين حالة التأييد للنظام السابق التي أبدوها في مختلف المناسبات.
تنوع طيف التكويع
ما يثير الانتباه أيضًا أنّ مصطلح المكوّع ضم العديد من الأنماط، إذ لم يشمل من يتحولون بسرعة من تمجيد السلطة السابقة إلى تمجيد السلطة الحالية فحسب، بل شمل أيضًا من لم يعبّروا عن مواقفهم خوفًا من السلطة، ومن يتجنبون السياسة لتحقيق مصالحهم دون مواجهة. أي: أنّنا أمام حالة تنميط اجتماعي، فكلّ من لم يظهر سابقًا تأييده للحالة الثورية_ بصرف النظر عن مبرراته ومخاوفه_ هو مكوع، ومرتبط بتنميط اجتماعي محدد.
ويبدو أنّ هذا التنميط الاجتماعي يحمل في طياته أضرارًا جمة على النسيج الاجتماعي، فهو يسهم في توحيد الأفراد المختلفين تحت مظلة واحدة، متجاهلًا تعقيدات دوافعهم وخلفياتهم، كما أنّ هذا التعميم يضعف الثقة بين أعضاء المجتمع ويعمّق الشقاق والانقسامات، ما يزيد من التوتر الاجتماعي. إضافة إلى ذلك، فإنّ هذا التنميط يقوض حرية التعبير ويجعل الأفراد يترددون في الإفصاح عن آرائهم خوفًا من الحكم عليهم سلبًا. وعلاوة على ذلك، يعزز هذا التصنيف الشعور بالعزلة والانفصال عن المجتمع، ما يؤثر سلبيًا في الصحة النفسية والتماسك الاجتماعي. باختصار، التنميط الاجتماعي بهذا الشكل يعوق الفهم الحقيقي والمتبادل بين الأفراد ويكرّس الانقسام في المجتمع.
هل المكوعون هم مكوعون حقًا؟
إذا دققنا في مصطلح التكويع، سنرى أنّ فئة من يتحولون بسرعة من تمجيد السلطة السابقة إلى تمجيد السلطة الحالية لا ينطبق عليها اسم "التكويع"، فالتكويع_ كما نرى_ هو الانتقال من نسق إلى نسق آخر مختلف عنه، بيد أنّ هذه الفئة لم تتجاوز أي نسق، بل بقيت في حالة تأييد للسلطة، أي انتقلت من تأييد النظام السابق إلى تأييد سلطة الأمر الواقع التي أطاحت به.
أي: إذا اتفقنا على أنّ المراد بالتكويع هو الانتقال من نسق إلى نسق آخر مضاد، فإنّ هذا المصطلح لا ينطبق على المكوعين "مجازًا"، وذلك لأنّهم لم يغيروا نسقهم، بل بقيوا في حالة التأييد التي كانوا عليها سابقًا، بل كلّ ما في الأمر أنّهم غيّروا من يؤيدونه، من دون أي أسس فكرية أو مراجعة نقدية.
لماذا يكوعون؟
لعلّ السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا يتجه الناس إلى التكويع، أي الانتقال من تأييد سلطة إلى تأييد سلطة أخرى، أو الانتقال من عدم التفاعل مع الثورة إلى تأييدها بعد إطاحتها بالسلطة السابقة؟
قد يتبادر إلى الذهن أنّ هذا التكويع هو بدافع الخوف من أية أعمال انتقامية ضد الموالين للسلطة السابقة، فيُسارع المكوع لإبداء تأييده للسلطة الجديدة والثورة ماحيًا مواقفه السابقة اتقاء لأية أعمال انتقامية، بيد أنّ هنالك ما هو أبعد من هذا التفسير السطحي، فهذه الفئة من الناس لا تستطيع العيش من دون أب سلطوي رمزي، وسقوط الأب السلطوي السابق دفعها مباشرة لتعويضه بسلطة الأب السلطوي الجديد الممثل بالمنتصر على الأب السلطوي السابق. أي: نحن أمام فئة من الناس تختار عبوديتها اختيارًا طوعيًا من خلال استبدال الأب الرمزي السابق بأب رمزي جديد يهيمن عليها.
وما يلفت الانتباه عند هذه الفئة الجديدة التي أطلقنا عليها مصطلح المكوعين مجازًا أنّها تقف في وجه أي انتقاد للسلطة الجديدة التي اتخذتها بمثابة أب رمزي لها وترد على هذه الانتقادات بنفس النسق المصطلحي الذي كانت ترد فيه على انتقادات السلطة السابقة، وهذا نابع في أساسه من رغبتها في تأكيد الولاء لأبيها الرمزي.
بل إنّنا في تعاملنا مع المكوع، نجد أنفسنا أمام ما يُدعى بالشخصية التسلطية، وفقًا لثيودور أدورنو وإريك فروم، وتتميز هذه الشخصية بالخضوع للسلطة وتمجيد القوة ومعاداة الجماعات المعارضة، وغالبًا ما تكون نتيجة تربية قمعية، إذ تجمع الشخصية التسلطية بين الهيمنة والخضوع، وتُعجب بالقوة وتحتقر الضعفاء، ولا تؤمن بالمساواة.
في ضوء ما سبق، يمكن القول: إنّ ظاهرة "التكويع" تحمل في طياتها تحديات وفرصًا على حد سواء. فبينما تُبرز هذه الظاهرة الحاجة إلى فهم أعمق لدوافع الأفراد وسلوكياتهم في ظل التغيرات السياسية والاجتماعية، فإنها تفتح الباب أمام فرصة للتفكير في طرق إعادة بناء الثقة والتماسك المجتمعي. فمن خلال تعزيز الحوار المفتوح والتسامح، يمكننا تحويل هذه الظاهرة من عامل تقسيم إلى فرصة للتواصل والفهم المتبادل، ما يسهم في خلق مجتمع أكثر استقرارًا وتعاونًا.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |