“حيث صار الأملُ جريمةً، بَكَتِ المدينةُ حتى تلاشى صوتُها”

أزاد خليل
2025 / 2 / 6

تمثال الأمل المنسي
في مدينة لم تعرف سوى الحزن، حيث كان الشارع لا يُفرّق بين خطوات الأرمني والكوردي والتركماني والعربي، حيث تعايش المسلم والمسيحي تحت سماء واحدة، كان هناك تمثال منسي، يقف في قلب الساحة الكبيرة.

كان التمثال يُجسّد رجلًا يجلس على قاعدة حجرية، يحمل كتابًا مفتوحًا بين يديه، عيناه من اللازورد الأزرق العميق، وردهته مغطاة بأوراق الذهب التي تعكس نور الشمس صباحًا، وتلمع تحت الأضواء ليلاً.

كان يُعرف بين الناس باسم “تمثال الأمل المنسي”، لكنه لم يكن مجرّد تمثال جامد. في الليالي الباردة، حين تهدأ أصوات الأسواق وتخفت أضواء الشوارع، كان يئن بصمت، وكأن المدينة ذاتها تتحدث من خلاله.

كان يسمع أصوات البطون الخاوية، وصرخات الأمهات اللواتي فقدن أطفالهن في الحرب، ويرى العيون التي غرقت في الحزن واليأس.

لم يكن التمثال دائمًا من حجر، بل كان رجلاً عاش بين الناس، كتب عن العدل والحرية والمساواة، دافع عن الفقراء والمضطهدين، لكن حين انفجرت الحرب، لم يكن للكتب ولا للكلمات أي وزن. قُتل في أحد النزاعات الطائفية، لكن المدينة لم تنسه، فأقاموا تمثالًا له.

لكن التماثيل لا تُطعم الجوعى، ولا تبني البيوت، ولا تحمي من البرد.

ذات ليلة، جاءت حمامة بيضاء، جناحها مكسور، استراحت عند كتف التمثال، نظر إليها بعينين من حجر، لكنه شعر بها كأنها قطعة من روحه الضائعة.

“هل ترين هذه المدينة؟” همس التمثال بحزن، “إنها تبكي كل ليلة، أهلها جائعون، يرتجفون من البرد، ينامون على الأرصفة. أريد أن أساعدهم، لكنني عاجز. هل تساعدينني؟”

نظرت إليه الحمامة بعينيها الصغيرتين، وسألت بدهشة: “كيف يمكنني مساعدتك وأنت مصنوع من حجر؟”

ابتسم التمثال ابتسامة باهتة وقال: “أنا مغطى بالذهب، وعيوني من الأحجار الكريمة. لو وزعنا هذه الزينة على الفقراء، قد يجدون بعض الدفء، بعض الأمل.”

هزّت الحمامة جناحيها، رغم الألم، ووافقت.

أجزاء القصة
الفصل الأول : رغيف الخبز المسروق

كان آلان، طفل كردي، يختبئ في زقاق ضيق بجوار أحد المخابز. عيناه الواسعتان، الغارقتان في السواد، كانتا تراقبان رغيف الخبز الساخن الذي أخرجه الخباز ووضعه على الطاولة.

لم يأكل منذ يومين، ولم يعد جسده النحيل يحتمل. تسلّل بسرعة، خطف الرغيف، وهرب راكضًا.

لكن الخباز أمسك به قبل أن يبتعد، أمسكه من يده المرتجفة، وصفعه بقوة، وقال بغضب: “أيها اللص الصغير!”

جثا آلان على ركبتيه، ودموعه تنساب على خديه القذرين: “أرجوك، لم آكل منذ يومين… سأعيده…”

لكن الخباز لم يسمع، دفعه بعيدًا، وصرخ فيه: “اخرج من هنا قبل أن أسلمك للشرطة!”

رأت الحمامة المشهد، شعرت بالحزن، طارت إلى التمثال، واقتلعت رقعة صغيرة من الذهب عن صدره، وحملتها إلى حيث كان الطفل نائمًا على الرصيف.

في الصباح، وجد آلان القطعة الذهبية بجانبه، لم يفهم من أين جاءت، لكنه حملها إلى السوق، وباعها بثمن يكفي لإطعام أسرته الجائعة.

كان ذلك أول ما فقده التمثال. لكنه لم يحزن، شعر أن قلبه بدأ ينبض من جديد.

الفصل الثاني : الأرمني الحزين

في زاوية السوق، كان هناك متجر قديم للقماش، صاحبه أرمني مسن يُدعى هاروت. كان يجلس على كرسي خشبي، يحدق في البضائع التي لم يشترها أحد منذ شهور.

كان الناس يمرّون أمام متجره ولا يدخلون. كانوا يهمسون: “إنه أرمني، ليس منّا”.

رأته الحمامة، رأته وهو يطفئ المصباح مساءً، ويرتجف وهو يحسب القطع النقدية القليلة التي تبقت معه. في تلك الليلة، لم يجد مالًا يكفي ليشتري طعامًا لزوجته.

طارت الحمامة إلى التمثال، اقتلعت قطعة ذهبية أخرى، وأسقطتها عند باب متجره.

في الصباح، وجد هاروت القطعة، لم يعرف من أين جاءت، لكنه باعها وأحضر الطعام، وقال لزوجته: “يبدو أن الله لم ينسنا بعد.”

الفصل الثالث: العروس التي لا فستان لها

في أحد الأحياء الفقيرة، جلست فتاة تُدعى زليخة في زاوية غرفتها، تبكي بهدوء.

كان من المفترض أن تتزوج بعد أسبوع، لكن والدها لم يعد يملك ما يكفي ليشتري لها فستان زفاف.

كانت تعرف أنها ستقف أمام الجميع بثوبها القديم، وستكون حديث الناس، ستصبح “الفتاة المسكينة” التي لم تستطع حتى ارتداء فستان في زفافها.

لم تستطع الحمامة تجاهل دموعها، فطارت إلى التمثال، وانتزعت إحدى عينيه من اللازورد الأزرق، وحملتها إلى أحد الصاغة في السوق.

في الصباح، وجدت زليخة فستانًا أبيض معلقًا أمام باب منزلها. لم تصدق عينيها. احتضنته، وبكت.

لكنها لم تكن تعلم أن هديتها كلّفت التمثال إحدى عينيه.

الفصل الرابع: التمثال الأعمى

مرت الأيام، واستمرت الحمامة في أخذ القطع الذهبية من التمثال، حتى أصبح عاريًا تمامًا، لم يبقَ فيه سوى قلبه المصنوع من الرصاص.

وحين أرادت أن تأخذ المزيد، قال لها بصوت خافت: “لم يتبقَ لي شيء، خذي قلبي إن كان سينفع أحدًا.”

لكن الحمامة كانت قد وهنت، لم تعد تقوى على الطيران. وفي ليلة باردة، سقطت بجانبه، هامدة.

في الصباح، خرج سكان المدينة ليجدوا التمثال قد تحطم بالكامل. لم يعد فيه أي ذهب، ولا أي بريق.

وقف أحد رجال السلطة هناك، نظر إليه بازدراء وقال: “لقد أصبح قبيحًا، لم يعد يليق بمدينتنا.”

فأمر العمال بإزالته، ورموه في ساحة النفايات.

لكن قلبه المصنوع من الرصاص لم يذب في النار.

وحين مر طفل صغير، وجد القلب والحمامة معًا، رفعهما بين يديه، وقال بهمس:

“كان هذا التمثال يحبنا أكثر مما أحبتنا مدينتنا.”

ثم أخذهما إلى بيته، ووضعهما في صندوق خشبي صغير، ليبقى ذكرى لمن كان رمزًا للأمل في مدينة لم تعرف الرحمة يوماً .

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي