![]() |
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
![]() |
خيارات وادوات |
صادق جبار حسين
2025 / 2 / 5
لطالما لُقِّبت الهند بـ"بلد العجائب" لما فيها من تنوع ثقافي وممارسات دينية غريبة وعادات وتقاليد قد تبدو غير مألوفة لبقية شعوب العالم مما يثير تعجب كل من راها . إلا أن هذا اللقب اليوم يبدو أنه لم يعد يليق بها بقدر ما يليق بالعراق ، البلد الذي يتصدر قوائم الفساد في كافة المجالات والأصعدة والفشل الإداري لكنه في المقابل يشهد تصاعدًا مذهلًا في ممارسات دينية غريبة لا تمتُّ بصلة لجوهر الدين الإسلامي المتحفظ بل تتخذ طابع الطقس المسرحي والتعبير الجسدي العنيف حتى باتت محط استغراب العالم .
من أبرز المظاهر التي بدأت تغزو المناسبات الدينية في العراق هي مواكب تسير فيها أنواع مختلفة من الحيوانات ، مثل الخيول والإبل ، في استعراض غير مسبوق باسم "إحياء الشعائر". هذه المواكب تحاول تقليد بعض التفاصيل التاريخية المتعلقة بمعركة كربلاء لكنها غالبًا ما تتحول إلى عروض تفتقر إلى أي قيمة روحية حقيقية بل تبدو وكأنها محاولات لجذب الانتباه وإثارة الحشود في مشاهد أشبه بالمهرجانات الاستعراضية.
المثير في الأمر أن هذه المواكب تستنزف أموالًا طائلة تُصرف على الزينة والإطعام واستيراد بعض الحيوانات في بلد يعاني فيه ملايين المواطنين من الفقر والبطالة وسوء الخدمات الأساسية.
إضافة لهذه المواكب ظهر طقس غريب لم يعرفه المجتمع العراقي أخذ بالانتشار بشكل متزايد خاصة في جنوب العراق ، ما يُعرف بـ"التطين" حيث يقوم المشاركون بتغطية أجسادهم بالكامل بالطين في مشهد أقرب إلى عادات القبائل البدائية منه إلى ممارسة دينية. يرجى منها التقرب الى الله ونيل رضاه ، أو استذكار واقعة دينية يجب استقصاء العبر والموعظة منها لا حركات إستعراضية أقرب الى المهرجانات .
لكن التساؤل الأهم: هل أصبح الدين مجرد طقس جسدي يُقاس بمدى تغطية الجسد بالطين؟ أم أن هناك خللًا فكريًا أدى إلى اختزال القيم الروحية في أشكال مسرحية لا تمتُّ إلى جوهر العقيدة بأي صلة ؟
واكثر طقس ديني مثير هو التطبير حيث
يُعتبر "التطبير" من أكثر الممارسات إثارة للجدل حيث يقوم الآلاف بضرب رؤوسهم بالسيوف والجنازير حتى تسيل الدماء ، في مشهد دموي يثير الرعب أكثر مما يثير التعاطف ورغم التحذيرات الطبية المستمرة حول المخاطر الصحية لهذه الظاهرة، مثل انتقال الأمراض والتسبب في إصابات دائمة إلا أنها ما زالت تُمارس بشكل واسع بل ويُشجع الأطفال واليافعون على المشاركة فيها .
المفارقة أن هذا النزيف الطوعي للدم يأتي في بلد يعاني من انهيار القطاع الصحي حيث تمتلئ المستشفيات بالمرضى الذين لا يجدون العلاج ويضطر الكثيرون للسفر خارج العراق لإجراء عمليات بسيطة بسبب تدني مستوى الرعاية الصحية .
ينتشر هذا الطقس بشكل خاص خلال المناسبات الدينية ويُنظر إليه على أنه وسيلة للتعبير عن الحزن والتواضع .
واحدة من الظواهر الأكثر تطرفًا في العراق مؤخرًا هي مشاهد الزحف على البطن لمسافات طويلة كنوع من التقرب إلى الله أو كفّارة عن الذنوب . يتجمّع المئات وأحيانًا الآلاف ليزحفوا على الأرض لمسافات طويلة في مشهد يثير تساؤلات عن معنى هذه الطقوس وهل هي بالفعل امتداد لعقيدة دينية أم أنها مجرد إفراط في الطقوس الجسدية التي تبتعد عن أي محتوى روحي أو أخلاقي ؟
الغريب أن هذه الطقوس تُمارَس وسط أزمات خانقة يعيشها المواطن العراقي من انقطاع الكهرباء وشحّ المياه وغياب الخدمات الصحية والتعليمية وكأن هذا الشعب قد استُبدلت أولوياته من المطالبة بالحياة الكريمة إلى الانغماس في طقوس مرهقة نفسيًا وجسديًا دون أي جدوى .
المفارقة الكبرى هي أن العراق ليس فقط من أغنى دول العالم بالثروات الطبيعية، بل هو أيضًا أحد أكثر الدول فسادًا وفق تقارير منظمة الشفافية الدولية. حيث يتم نهب المليارات من أموال النفط بينما تعاني البنية التحتية من انهيار تام والمشاريع التنموية معطلة، والفقر ينهش ملايين العراقيين.
ومع ذلك نجد أن الطقوس الدينية تُموَّل بسخاء غير مسبوق حيث تُنفق الملايين على مواكب الطعام والطقوس الدموية والمهرجانات الدينية بينما لا يجد المرضى سريرًا في مستشفى حكومي ويضطر الأطفال للدراسة في مدارس متهالكة بلا مقاعد أو كتب.
ليس من الصعب فهم السبب وراء تشجيع بعض القوى السياسية والدينية لهذه الطقوس فهي تُستخدم كوسيلة فعالة لإلهاء الجماهير عن أزماتهم الحقيقية. فبدلًا من أن يطالب المواطن بحقه في الحياة الكريمة يُدفع إلى الانشغال بطقوس متطرفة تُقنعه بأن المعاناة قدرٌ محتوم وأن الألم والتعبير الجسدي عنه هو السبيل للخلاص .
وفي ظل هذه السياسات يصبح من السهل تمرير ملفات الفساد والاستمرار في سرقة المال العام طالما أن الشعب منشغل بطقوس لا تترك له وقتًا أو طاقة للاعتراض والمطالبة بالإصلاح.
في ظل هذا الواقع يبقى السؤال الأهم : هل سيبقى العراق أسيرًا لهذه العجائب والغرائب أم أن هناك أملًا في استعادة العقل والمنطق؟
هل سيبقى الدين مجرد طقوس جسدية تُمارَس بلا وعي أم أن هناك فرصة لإعادة النظر في أولويات المجتمع والتركيز على بناء دولة حديثة قائمة على العدالة والتنمية بدلًا من الغرق في مظاهر شكلية؟
حتى ذلك الحين يبقى العراق اليوم "بلد العجائب" الجديد لكن للأسف ليس بالمعنى الذي يدعو للفخربل بالمعنى الذي يعكس حجم التراجع والانحدار الذي أصاب مجتمعًا كان يومًا ما منارة للعلم والحضارة .
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |