عشقٌ مشروط، ووداعٌ محسوب: أمريكا ومجلس حقوق الإنسان

خليل إبراهيم كاظم الحمداني
2025 / 2 / 5

مع منتصف أربعينيات القرن الماضي، وصل العالم إلى لحظة فارقة في تاريخه، حيث أدرك أن استمرار الجنس البشري يعتمد على استبدال لغة الرصاص والدماء التي كانت تحسم المعارك، بلغة الحوار والتفاهم حول المصالح والأيديولوجيات المتنوعة. وفي هذا السياق، ظهرت فكرة إنشاء منظمة دولية تُعنى بحفظ السلام وتعزيز التعاون بين الدول، لتكون بديلًا عن الحروب التي أنهكت البشرية. وهكذا، وُلدت **الأمم المتحدة**، التي اتخذت من مبنى شاهق في نيويورك مقرًا لها، كرمز لأمل جديد في عالم أكثر استقرارًا.
لكن منذ البداية، بدأت (القوى الكبرى)، بحماسة وشغف، في تشكيل ملامح الشرعية الدولية وفقًا لإيقاع مصالحها الخاصة، مما أدى إلى صراع مستمر بين هذه المصالح والمبادئ السامية التي نص عليها (ميثاق الأمم المتحدة). فالميثاق، الذي كان يُفترض أن يكون الضامن للسلام العالمي وحقوق الإنسان، تم اختراقه مرارًا وتكرارًا، خاصة في ملفات حقوق الإنسان، حيث تم التغاضي عن انتهاكات فاضحة لصالح حسابات سياسية واقتصادية.
ومع بداية تسعينيات القرن الماضي، بدأت تظهر دعوات جادة لإصلاح منظومة حقوق الإنسان الدولية، التي كانت تعاني من أزمات متكررة بسبب ضعف فعالية (لجنة حقوق الإنسان) التابعة للأمم المتحدة. فقد كانت اللجنة تواجه انتقادات حادة بسبب انضمام دول ذات سجلات سيئة في مجال حقوق الإنسان إليها، مما أضعف مصداقيتها. ونتيجة لهذه الدعوات، ظهرت أولى ثمار عملية الإصلاح بإنشاء (مجلس حقوق الإنسان) في عام 2006، كبديل للجنة السابقة، بهدف تعزيز فعالية الجهود الدولية في مجال حقوق الإنسان.
ومع ذلك، ظل مجلس حقوق الإنسان يواجه تحديات كبيرة، حيث استمرت القوى الكبرى في استخدامه كساحة لصراعاتها السياسية، مما أثر على قدرته على تحقيق العدالة والمساواة التي وُجد من أجلها. وهكذا، أصبحت قصة مجلس حقوق الإنسان انعكاسًا للتناقض بين المبادئ الدولية والمصالح الوطنية، وهو تناقض ما زال يشكل التحدي الأكبر أمام تحقيق عالم أكثر إنصافًا واحترامًا لحقوق الإنسان.
ومنذ البدء اتخذت الولايات المتحدة موقفًا ملتبسًا من هذا المجلس بخطوة متأرجحة ومترددة بين التقدم والتراجع، بين الحضور والغياب، بين الادعاء بأن المبادئ هي البوصلة وبين الإذعان لحسابات المصالح الباردة. لم يكن موقفًا ثابتًا، بل أشبه بحركةٍ دائرية تتكرر على إيقاع الإدارات المتعاقبة: رفضٌ عند الولادة، فدخولٌ متحفظ، ثم انسحاب، فعودة، فالخروج مجددًا، وكأن العضوية ليست التزامًا مستقرًا، بل ورقة تُستخدم حين تكون مُجدية وتُلقى جانبًا حين تصبح عبئًا.
هذا النهج البراغماتي لم يكن مجرد تذبذب تكتيكي، بل كان تعبيرًا عميقًا عن فلسفة سياسية ترى المؤسسات الدولية أدوات تُستخدم لا مبادئ يُحتكم إليها. فحين يكون المجلس منصةً لضبط إيقاع الخصوم، يصبح الالتحاق به ضرورة. وحين يتحول إلى منبر يُسلَّط على الحلفاء، يصبح عبئًا لا يُحتمل. إنه موقف يعكس الصراع الكلاسيكي بين الالتزام بالمؤسسات والهيمنة عليها، بين المشاركة كشريكٍ مؤثر، والانسحاب حين لا تُلبّي المنظومة التوقعات الأمريكية.
حين وُلد المجلس عام 2006، وقفت واشنطن عند العتبة، رافضةً الانضمام تحت راية الإصلاح غير المكتمل، محتجة بأن المجلس لا يملك الضمانات الكافية لمنع الدول المنتهكة من التحكم في قراراته. ثم، بعد سنوات من القطيعة، عادت الولايات المتحدة في عهد باراك أوباما، رافعة لواء "الإصلاح من الداخل"، محاولةً توجيه دفة المجلس بعيدًا عن التسييس والانحياز، على الأقل وفق منظورها. لكن هذه العودة لم تدم طويلًا، إذ جاء الانسحاب مرة أخرى في عهد الرئيس دونالد ترامب عام 2018، بحجة استمرار التحيز السياسي ضد إسرائيل وفشل المجلس في إصلاح نفسه.
أما اليوم، فقد عاد الجدل ليشتعل، مع موقف الإدارة الأمريكية الحالية التي أعلنت الانسحاب مرة أخرى، في مشهد يعيد طرح السؤال الأبدي: هل التزام الدول الكبرى بالمؤسسات الدولية مشروط بمدى قدرة هذه المؤسسات على عكس سياساتها، أم أن هذه المؤسسات هي مساحات مشتركة لا يُمكن لأي دولة أن تتحكم فيها وفق أهوائها؟ إنه صراع أبدي بين المثاليات المعلنة والمصالح الصامتة، بين لغة القانون الدولي ولغة القوة التي تسري في عروق السياسات الكبرى.
دعونا نبدأ مع قرار انشاء المجلس بالرقم 251/ 60 حيث تم اعتماد مشروع القرار لإنشاء مجلس حقوق الإنسان بأغلبية 170 دولة مؤيدة، مقابل 4 دول معارضة، و3 دول ممتنعة عن التصويت. وكانت الدول المعارضة هي الولايات المتحدة، إسرائيل، جزر مارشال، وبالاو، بينما امتنعت كل من بيلاروس، إيران، وفنزويلا.(في محضر الجلسة (A/60/PV.72) ما يفيد ان وفدا جورجيا وناورو أبلغا الأمانة العامة بأنهما كانا ينويان التصويت كمؤيدين ) في حينها قدم المندوب الأمريكي جون بولتون عدة مبررات لرفض الولايات المتحدة مشروع إنشاء مجلس حقوق الإنسان، أبرزها:
1- ضعف الإصلاحات في المجلس الجديد : إذ اعتبر بولتون أن المشروع لا يُجري تحسينات كافية مقارنة باللجنة السابقة، حيث لم يعالج المشكلات الأساسية التي أدت إلى فقدان لجنة حقوق الإنسان مصداقيتها.
2- غياب معايير عضوية قوية تمنع الدول المنتهكة لحقوق الإنسان من الانضمام : حيث أشار بولتون إلى أن المجلس الجديد لا يتضمن ضمانات كافية لمنع الدول التي ترتكب انتهاكات جسيمة ومنهجية من الحصول على عضوية المجلس كما ان الاقتراح الأمريكي يطالب بأن يتم انتخاب الأعضاء بـأغلبية الثلثين بدلًا من الأغلبية البسيطة، لضمان أن الدول التي تنتهك حقوق الإنسان بشكل ممنهج لا تستطيع بسهولة الفوز بمقاعد في المجلس.
3- عدم وجود آلية فعالة لاستبعاد الدول التي تنتهك حقوق الإنسان : وهنا انتقد بولتون المجلس كونه لا يمنع الدول التي تُفرض عليها عقوبات من مجلس الأمن بسبب انتهاكات حقوق الإنسان من الترشح للعضوية، مما قد يجعل المجلس ملاذًا للدول التي تريد حماية نفسها من الانتقاد الدولي.
4- إجراءات تعليق العضوية غير كافية : كما أوضح بولتون أن القرار يتطلب أغلبية ثلثي الأصوات لتعليق عضوية أي دولة في المجلس، وهو معيار أكثر صرامة من مجرد الأغلبية المطلقة المطلوبة للانتخاب، مما يجعل من الصعب محاسبة الدول التي تنتهك حقوق الإنسان بشكل مستمر.
5- غياب آليات جديدة لمكافحة التسييس والانحياز : حيث اعتبر بولتون أن المجلس الجديد لا يعالج مشكلة تسييس عمل لجنة حقوق الإنسان السابقة، والتي اتهمتها الولايات المتحدة بالتحيز ضدها في بعض القضايا، خصوصًا فيما يتعلق بالقرارات التي تنتقد إسرائيل.
كانت الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي طلبت تصويتًا مسجلًا، معبرة عن معارضتها القوية لإنشاء المجلس بالصورة التي تم طرحها. على الرغم من ذلك، أكدت أنها ستعمل مع الأعضاء الآخرين لتحسين أداء المجلس في المستقبل وجعله أكثر فاعلية وموثوقية.
النهج البراغماتي للولايات المتحدة في دعم أو معاداة الآليات الحقوقية
الولايات المتحدة، كقوة عظمى، تتبع نهجًا براغماتيًا في تعاملها مع قضايا حقوق الإنسان، حيث يتم تقييم دعم أو معاداة أي آلية حقوقية بناءً على مدى توافقها مع المصالح الأمريكية. هذا النهج يتجلى في عدة جوانب:
1. الدعم الانتقائي للآليات الحقوقية: حيث تدعم الولايات المتحدة الآليات الدولية لحقوق الإنسان عندما تخدم مصالحها، مثل استخدامها كأداة ضغط ضد الدول المنافسة (مثل الصين أو روسيا) في قضايا مثل حرية التعبير أو حقوق الأقليات. و في المقابل، ترفض الولايات المتحدة أي انتقادات توجه إليها أو إلى حلفائها في مجال حقوق الإنسان، كما حدث في حالة انتقادات المجلس لإسرائيل.
2. الانسحاب من الاتفاقيات الدولية: فقد انسحبت الولايات المتحدة من عدة اتفاقيات حقوقية عندما رأت أنها تتعارض مع سياساتها الداخلية أو الخارجية، مثل:
- اتفاقية باريس للمناخ (2017): بسبب تأثيرها على الصناعة الأمريكية.
- المحكمة الجنائية الدولية (2002): خشية محاكمة جنود أمريكيين.
3. استخدام حقوق الإنسان كأداة سياسية:حيث تستخدم الولايات المتحدة قضايا حقوق الإنسان كجزء من أدواتها الدبلوماسية لتحقيق أهداف سياسية، مثل فرض العقوبات على دول مثل إيران وكوريا الشمالية بسبب انتهاكات حقوق الإنسان.
4. التناقض بين الخطاب والممارسة: على الرغم من التزام الولايات المتحدة بالترويج لحقوق الإنسان عالميًا، إلا أن سجلها الداخلي (مثل قضايا العنصرية، وحقوق المهاجرين، واستخدام العقوبات الاقتصادية التي تؤثر على المدنيين) يواجه انتقادات واسعة.
في 8 فبراير 2021، أعلنت إدارة الرئيس جو بايدن عودة الولايات المتحدة إلى مجلس حقوق الإنسان كعضو مراقب، كجزء من سياسة إعادة الانخراط في المنظمات الدولية. جاءت هذه الخطوة لتعكس تغيرًا في النهج الأمريكي بعد انتهاء عهد ترامب، حيث تسعى إدارة بايدن إلى استعادة دور الولايات المتحدة كقائدة للقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان على الساحة الدولية.
وفي 4 فبرير 2025 أصدر أمرا تنفيذيا من مجلس مجلس حقوق الانسانن كما أمر بانسحاب بلاده من وكالة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين الفلسطينين (الأونروا)، وحظر تمويلها
وتأتي قرارات ترامب الأخيرة في إطار سلسلة انسحابات، اتخذها الرئيس الجمهوري منذ توليه لمنصبه في 20 يناير 2025 ، حيث سبق أن أمر بانسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية و اتفاقية باريس للمناخ.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي