مدينة موراكامي وأسوارها الغامضة: مختصر لفلسفة الحياة والموت

زينب سلمان
2025 / 2 / 5

كالعديد من عشاق الكاتب الياباني هاروكي موراكامي، كنت أترقب صدور روايته الجديدة "المدينة وأسوارها الغامضة" بفارغ الصبر. ولحسن حظي، حصلت عليها كهدية في عطلة أعياد الميلاد، مما أتاح لي فرصة قراءتها بتمعن وإعادة قراءة بعض أجزائها أكثر من مرة.
يُعد موراكامي أحد أشهر الروائيين المعاصرين، ويتميز بأسلوبه الفريد الذي يستخدم فيه الرمزية والعوالم المتوازية لاستكشاف موضوعات عميقة مثل الهوية، العزلة، والزمن. في روايته الأخيرة، التي صدرت في بريطانيا أواخر عام 2024 عن دار نشر "هارفيل سيكر"، مترجمة إلى الإنجليزية عن اليابانية بواسطة المترجم فيليب غابريل، يعود موراكامي لاستخدام هذه العناصر المعتادة، ولكنه يضيف إليها موضوع الفقدان بأسلوب يعكس رؤيته الشخصية وفلسفته عن الحياة والموت.
برأيي الشخصي، لم يخلق موراكامي في هذه الرواية عالماً جديداً كما فعل في أعماله السابقة، بل قدم تصوراته الشخصية عن عالم ما بعد الموت، وأغنى هذه التصورات بالرموز التي سمحت للقارئ بتفسيرات متعددة، مما جعل الرواية تجربة غنية ومفتوحة للتأويل.
الرمزية كأداة فلسفية
كالعادة، استخدم موراكامي الرمزية كإحدى أدواته الرئيسية لنقل أفكاره حول الوجود والموت. من بين الرموز الرئيسية التي ظهرت في الرواية، نجد المدينة التي تتغير مساحتها وشكلها حسب تعامل الشخصيات معها. هذه المدينة تمثل تمثيلاً مجازياً لعالم ما بعد الموت أو كمرحلة انتقالية بين الحياة والموت.
الجدران التي تحيط بالمدينة ترمز إلى الحواجز النفسية والوجودية التي تفصل بين الذات والعالم الخارجي، وبين الوعي واللاوعي. أما التخلي عن الظل، فأنا أختلف مع العديد من محللي الرواية الذين يرونه رمزاً للتضحية بشيء للوصول إلى فهم أعمق للانتماء. أرى أن الظل يرمز إلى الجانب المظلم في الإنسان، والتخلي عنه يشير إلى العجز عن ارتكاب الشرور كشرط أساسي للانتقال إلى العالم الآخر.
المكتبة: أكثر من مكان
المكتبة في هذه الرواية ليست مجرد مكان لحفظ الكتب، بل هي مساحة لتحرير الأحلام القديمة. هذه الفكرة تعكس ارتباط موراكامي العميق بالذاكرة والماضي، حيث تصبح الأحلام جزءاً من الهوية التي يجب تحريرها أو التخلي عنها للانتقال إلى مرحلة جديدة.
ترمز المكتبة إلى المعرفة المتراكمة التي يجب على الشخص التعامل معها قبل الانتقال إلى العالم الآخر. لقد أتى ذكر المكتبة مراراً في أعمال موراكامي السابقة، وربما يعود ذلك إلى ارتباطه الشخصي بالمكتبات، حيث ذكر في مقابلاته أنه قضى طفولته في قراءة الكتب وعمل في متجر تسجيلات موسيقية. هذا الارتباط جعله يقدّس الأماكن التي تحتوي على المعرفة المحفوظة.
مع ذلك، أعتقد أن استخدام المكتبة كملاذ لشخصياته المتوحدة والغريبة الأطوار قد أوقعه في فخ التكرار وأفقده عنصر الدهشة والجاذبية في بعض المواضع. كان يمكن لموراكامي في هذه الرواية أن يبتكر رمزاً روحانياً موازياً للمكتبة في استحصال المعرفة الروحانية، خاصة وأنه يناقش الانتقال إلى عالم ما بعد الموت. ومع ذلك، وبحرفيته العالية وخياله الخلاق، نجح في جعل القارئ يتأمل ويتساءل عما تمثله المكتبة في كلا العالمين، مما يقود إلى استنتاج أن المعرفة هي الطريق الوحيد للخلاص.
العوالم المتوازية: بين الواقع والخيال
تتكرر فكرة العوالم المتوازية في روايات موراكامي، حيث غالباً ما تكون أماكن غامضة تتداخل مع الواقع، مما يخلق إحساساً بالسريالية. في "المدينة وجدرانها الملتبسة"، تمثل المدينة المحاطة بالجدران عالماً موازياً أو بعداً آخر، حيث تختلف قوانين الواقع فيها.
هذا التداخل بين العوالم يثير تساؤلات حول طبيعة الواقع وما هو حقيقي. البطل في الرواية ينتقل تدريجياً من العالم الواقعي إلى المدينة الغامضة، حيث يجد نفسه في رحلة وجودية تدفعه إلى تقبل حتمية الموت. الانتقال الأول إلى المدينة يمكن اعتباره حدثاً نفسياً أو رمزياً، يمثل حالة الاكتئاب العميق أو العزلة التي يمر بها البطل بسبب فقدان حبيبته. أما الانتقال الثاني، عندما يخبره الصبي أنه يمكنه العبور بالكامل إلى العالم الآخر إذا رغب بذلك بشدة، فهو يمثل لحظة موته الفعلية.
الغموض كجزء من فلسفة الموت
موراكامي، كعادته، يترك العديد من الأحداث غير مفسرة، مما يخلق إحساساً بالغموض واللايقين. هذا الغموض يعكس طبيعة الموت نفسه، حيث لا توجد إجابات واضحة عما يحدث بعد الموت. الرواية تدفع القارئ إلى التساؤل عن طبيعة الواقع وما هو حقيقي.
المدينة المحاطة بالجدران يمكن اعتبارها تمثيلاً مجازياً للحياة ما بعد الموت أو كمرحلة انتقالية بين الحياة والموت. التخلي عن الظل للدخول إلى المدينة يرمز إلى التخلص من الذات القديمة أو الجسد المادي أو الجانب المظلم من النفس البشرية، كما يحدث عند الموت، حيث يفقد الشخص جزءاً من هويته أو وعيه السابق.
شبح مدير المكتبة يبدو وكأنه كيان وسيط بين الحياة والموت، ربما كمرشد روحي يساعد الشخصيات على فهم طبيعة المدينة، مثل الشخصيات الإرشادية التي تظهر في الأساطير. كذلك، اختفاء الصبي الذي كان يرتاد المكتبة، مع امتلاكه قدرة غريبة على قراءة الكتب بشغف، قد يشير إلى انتقاله إلى مستوى آخر من الوجود. ربما يمثل الصبي الجانب النقي من الروح الذي يبحث عن الحقيقة، لكنه في النهاية "يختفي"، مما قد يرمز إلى فقدان الاتصال بالعالم الحي.
التأمل في الموت: رحلة وليست نهاية
بعد سنوات من كتابة قصص عن الاختفاء، العوالم الموازية، والأرواح التي تعيش بين الواقع والخيال، يبدو أن موراكامي وصل في هذه الرواية إلى مرحلة القبول والتأمل الهادئ لفكرة الموت. الرواية ليست مجرد سرد خيالي، بل هي رسالة وجودية عن كيفية تقبل الفقدان، وكيف يمكن للموت أن يكون رحلة بدلاً من مجرد نهاية.
البطل في الرواية يتقبل حتمية الموت في النهاية، والدليل على ذلك هو النهر الذي يعبره ويصغر في السن حتى يصبح يافعاً. هذا العبور الزمني يؤكد أن موراكامي أراد أن يقدم ترابط العالمين من خلال استحضار رموز اشتركت في تقديمها الديانات المختلفة، والتي أشارت إلى أن بعد الموت سيعود الإنسان إلى مرحلة عمرية مبكرة.
موراكامي يجعل الموت تجربة ليست مخيفة، بل غامضة، وربما حتى شاعرية، وكأنها امتداد للحياة بطريقة أخرى. في النهاية، يبدو أن البطل لم يكن في رحلة داخلية فقط، بل كان بالفعل يعبر إلى العالم الآخر، وكان يدرك ذلك ويتقبله تدريجياً.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي