![]() |
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
![]() |
خيارات وادوات |
ثامر عباس
2025 / 2 / 4
لعله من قبيل تكرار القول ؛ ان المجتمعات ذات الخزين التراثي المتقادم والانجاز الحضاري المتراكم ، غالبا"ما تميل الى ترجيح كفة (الاستمرارية) التاريخية على كفة (السيرورة) في مضمار نشر (الوعي) بأحقاب تبلور تاريخها ومراحل تمظهر حضارتها ليس فقط على صعيد نخبها الفكرية والسياسية والإيديولوجية الحاكمة فحسب ، بل وكذلك على صعيد مكوناتها السوسيولوجية وجماعاتها الانثروبولوجية المحكومة ، وذلك بصرف النظر عن تجانس الرؤى وتوافق المصالح بين تلك النخب من جهة ، وبين تلك المكونات والجماعات من جهة أخرى . إذ ان معيار النجاح ومقياس النجاعة في هذا المضمار يقوم على (قدرة) الطرف الأول في تسويغ مواقفه وتبرير ممارساته (تحقيق الهيمنة) من جانب ، ومن جانب ثان ، (استعداد) نفسي و(قبول) ذهني من لدن الطرف الثاني ، حيث التماهي الإيديولوجي والخضوع السياسي مع السرديات التاريخية الرسمية التي تروجها السلطة .
ولغرض تبرير الاحتكام لهذه الضرورة وتسويغ الاستجابة لمتطلباتها ، حري بنا ، قبل ذلك ، الإشارة الى الفرق / الاختلاف ما بين دلالات كل من مفهوم (الاستمرارية) من جهة ، وبين نظيره مفهوم (السيرورة) من جهة أخرى . حيث ان الكثير من الكتاب والباحثين لا يراعون هذه الفروق والاختلافات بينهما ، إن لم يميلوا الى المماثلة بين كلا المفهومين كما دلت الكثير من الوقائع والمعطيات . ففيما يتعلق بالمفهوم الأول ؛ فهو يتضمن معنى ان مسار التاريخ هو مسار (خطي) غير قابل للارتداد أو الانحراف أو الانقطاع . أي أنه مسار (تصاعدي) يبدأ من الجزء الى الكل ومن البسيط الى المركب ، وإذا ما حصل خلل ما في هذه (الاستمرارية) لسبب ما ، فان ذلك لا يخرج عن كونه تعبير عن ظرف طارئ أو عارض مؤقت ، حيث لا تلبث تلك الاستمرارية أن تستأنف حراكها باتجاه آفاق التقدم والتطور . هذا في حين يشي المفهوم الثاني بمعنى ؛ ان مسار التاريخ هو مسار مشحون بالتناقضات والمفارقات والصراعات التي من شانها تغيير طبيعة (الحدث) أو ماهية (الواقعة) أو نمط (الظاهرة) من حالة / وضعية الى أخرى ، وفقا"لاشتراطات الظروف الاقتصادية والأوضاع الاجتماعية والأنساق الثقافية والديناميات النفسية والسياقات التاريخية . بحيث يصعب التكهن أو التنبؤ بما ستؤول إليه النتائج والحصائل الناجمة عنها .
ولسنا هنا في وارد تقديم الدلائل وسوق البراهين التي تثبت ان الغالبية العظمى ممن ولجوا حقول التاريخ وتعاطوا مع مواضيعه ومباحثه ، كان خيارهم يرتكز على مفهوم (الاستمرارية) بشكل تلقائي ، رغم كونهم محاطين بهذا الكم الهائل من النكسات والانكسارات والانهيارات ، التي لا تفتأ تقضّ مضاجعهم وتقلق سكينتهم وتثير حيرتهم . ذلك لأن تركيبة (الوعي التاريخي) التي تمثلوا منطقها واستلهموا منهجيتها واستمرأوا قيمها ، حالت دون تمكينهم من الوصول الى مكامن الأسباب الفعلية والدوافع الحقيقية المسؤولة عن صيرورة تلك الأحداث والوقائع والظواهر على هذا النحو المليء بالفواجع والمكتنز بالكوارث . ذلك لأن الإصرار على التمسك بمفهوم (الاستمرارية) التطورية يتعارض جذريا"مع منطق (السيرورة) الجدلية ، حيث ينبغي توقع حدوث (الارتداد) أو (الانقطاع) أو (الانحراف) في كل لحظة وعند كل منعطف .
ولعل ما يفرض علينا مراعاة هذه الضرورة والاحتكام الى منطقها ، هو ان التاريخ لا يعدو أن يكون سجلا"شاملا"يحتوي متنه على كل ما اجترحته – وستجترحه - البشرية عبر مسارها الطويل ؛ من أفعال وأقوال ، من علاقات وتصورات ، من حروب وصراعات ، من ثقافات وحضارات . بمعنى أنه صنيعة إنسانية بامتياز ساهم في تكوينه عاملين أساسين هما ؛ الأول وهو (الإرادة) الذاتية ، والثاني وهو (الوعي) الاجتماعي . وحيث ان الإرادة تسيرها الأهواء المتقلبة والنوازع المتصارعة التي يحركها بندول المنافع والمصالح ، مثلما ان الوعي مرهون بمستوى النضج المعرفي والإدراكي للمجتمع الذي تتحكم فيه الخلفيات والمرجعيات والأصوليات . بات من الحكمة التخلي عن تصور ان حركة التاريخ تعتمد خلال مسارها على مفهوم (الاستمرارية) التصاعدية ، الذي غالبا"ما يفضي لارتكاب الأخطاء في تقييم الأحداث ويقود للفشل في تحليل الوقائع من جهة ، والاحتكام الى مفهوم (السيرورة) الجدلية الذي من شأنه ليس فقط منحنا القدرة على فهم واستيعاب ما يجري في الواقع المعاش من تناقضات اجتماعية وتقاطعات سياسية وصراعات إيديولوجية فحسب ، بل وكذلك يمهد أمامنا منحى الآفاق المستقبلية التي يمكن توقعها والاستعداد لها ، بأقل الكلف المادية والبشرية والمعنوية التي يمكن استثمار رصيدها لاحقا"، كمرتكزات لتسريع عمليات التقدم العلمي والتطور الاجتماعي والرقيّ الحضاري .
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |