اطْحَن ْالدولار! للقاص إدريس عبد النور

عبد النور إدريس
2025 / 2 / 1

مغامرات باحميد في حلقات
"اطْحَنْ الدولار"الحلقة 5
للقاص إدريس عبد النور



جلس نوري19 في غرفته المضاءة بضوء شاشة هاتفه، يتأمل تيار التفاعل الرقمي الجارف الذي صنعه تيك توك. منذ سنوات وهو يغوص في الإنسانيات الرقمية، يحلل كيف تتحول العفوية إلى سلطة، وكيف يمكن لصيحة جوفاء أن تصبح قانونًا داخل نظام خوارزميات عمياء، لا يرى سوى الأرقام والتفاعل.

فتح التطبيق، تسلل إلى البث الذي ظل يراقبه منذ أسابيع بما هو مختبر لتجاربه: "لايف باحميد". شاشة تتراقص تحت وطأة الأضواء الزرقاء، صوت مشوش، رجل يتأرجح بين الصراخ والتوسل، و200 متابع يحدقون، يضغطون(يكبسون)، يكتبون تعليقات بلا معنى. وكأن الزمن صار فيروسيًا، يعيد تدوير نفسه دون غاية.

قبل حميد طلب نوري للانضمام إلى الكيست. لم يعره انتباهًا، إذ كان مشغولًا بهتافه المتكرر:

"أوثطلعوني إلى مئة ألف تكبيسة!"

صدى صوته ارتطم بالفراغ الرقمي، بينما ظلت أصابعه ترتجف فوق الشاشة. ليس خوفًا، بل جوعًا، جوعًا لتلك الأرقام الصغيرة (قلوب التكبيس) التي تصعد ببطء، مثل طقوس بدائية لاستجلاب المطر.

لم يمضِ وقت طويل حتى ظهر وجه آخر على الشاشة: SMART. وجه هادئ، عينان تحللان كل تفصيلة، نبرة واثقة. لم يكن مجرد مستخدم، بل قارئ محترف لخوارزميات المنصة، وصاحب الجملة الشهيرة التي يرددها كلما سُئل عن النجاح في تيك توك:

"اطْحَن ْالدولار!"

ألقى نوري سؤاله الأول دون مقدمات:

— "سمارت SMART، كيف يمكن لبث مثل لايف باحميد أن يحقق هذا الكم من المتابعين رغم أنه لا يقدم أي محتوى بالمعنى التقليدي؟"

ابتسم سمارت، وأجاب بثقة من اعتاد فك شفرة العالم الرقمي:

— "تيك توك لا يهتم بالمحتوى، بل بالإيقاع. الخوارزميات لا تفكر، لكنها تتعلم، وتتعلم مما يبقي الناس في المكان نفسه لأطول وقت، سجناء الرقمي. باحميد يصنع توترًا دائمًا، يخلق لحظة لا تكتمل أبدًا، ويترك المتابع معلقًا بين الفعل ورد الفعل، بين المشاركة والانصراف، وكلاهما لا يحدثان بسرعة كافية."

نوري كان يعلم ذلك، لكنه أراد أن يذهب أعمق، ويستمطر كل الأفكار:

— "ولكن، هل هناك بُعد نفسي لهذا التفاعل؟ لماذا يبقى الناس رغم أنهم يدركون أن ما يشاهدونه عبثي؟"

تأمل سمارت للحظة، ثم قال:

— "هناك ما يُعرف بـ التأثير الاجتماعي الرقمي. نحن لا نتفاعل مع المحتوى، بل مع الآخرين الذين يتفاعلون معه. كل شخص هنا يرى الآخرين يتفاعلون، فيشعر بالحاجة لأن يكون جزءًا من هذا الحشد العابر. إنها القبيلة الرقمية، حيث يكون الانتماء مؤقتًا لكنه قوي. تيك توك لا يبني مجتمعات، بل يبني لحظات من الانتماء السائل، وهذا سبب هلامية مفهوم صديق ب TikTok."

وقبل أن يرد نوري، جاء صوت باحميد مرة أخرى، كأنما شعر بأن البث بدأ ينجرف بعيدًا عن فوضويته المألوفة:

"اعْطيوْ لهاد اللي فالكيست 100متابعة!"

ضحك نوري وقال لسمارت:

— "إذن، باحميد ليس مجرد شخص يصرخ، بل هو مهندس رقمي بالفطرة. يستخدم القواعد النفسية للمنصة دون أن يعي ذلك."

أومأ سمارت موافقًا:

— "إنه يطحن الدولار دون أن يدرك كيف يفعل ذلك. في هذا العالم، لا تحتاج إلى وعي بما تفعله، بل إلى استمرارية تفعل بها ما لا تدرك."

خارج البث، في العالم الحقيقي، كانت الليلة تتقدم، لكن في عالم تيك توك، لا يوجد زمن حقيقي. فقط تكبيسات متراكمة، وضغطات عشوائية، وأصوات متقطعة، تحرك اقتصادًا خفيًا حيث يُشترى الانتباه بصرخة، وتُباع الدقائق بتمرير إصبع على الشاشة.

أما باحميد، فقد واصل هتافه، غير مدرك أنه، وهو يغرق في زحام البث، قد أصبح درسًا حيًا في فلسفة السوق الرقمية.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي