![]() |
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
![]() |
خيارات وادوات |
عبد النور إدريس
2025 / 1 / 30
مغامرات باحميد : وجوه في المرآة العمياء
في حلقات: الحلقة رقم4
قصص قصيرة للقاص: ادريس عبد النور
تحت ظلال خيمة مقهى صغيرة في أغادير، حيث النسيم يتسلل بخفة بين أعمدة القماش الملونة، جلس با حميد أمام فنجانه الصامت. كان الزمان يشبه مرآة متشققة، تعكس صورة الحاضر لكنها تخفي وجوهًا قديمة بين طياتها. بجانبه كان حسن ساعي، ينظر إلى الشارع الذي يغرق في هدوء ما بعد الزوال.
قال با حميد بصوت يشبه الحكمة التي تحملها الرياح:
"هذا العالم يا حسن... أشبه بشبكة عنكبوت. كل خيط فيه يربط بين أشخاص لا يعرفون إن كانوا يصطادون أم يُصطادون."
أجاب حسن مبتسمًا، كعادته التي تخفي خلفها تساؤلاته:
"لكنها شبكة ناعمة، يا حميد. كثيرون يجدون فيها أنفسهم... أو يظنون أنهم وجدوا."
هنا، وبدون مقدمة، دخل نوري 19 إلى المشهد. لم يكن مجرد رجل، بل ظلًّا لفكرة، تجسدًا لروح تسافر بين الواقع وما وراء الشاشة. جلس بهدوء، ورفع عينيه نحو السماء كما لو كان يبحث عن إجابة محفورة بين الغيوم.
قال نوري بصوته العميق الذي يحمل نغمات الفلاسفة:
"العالم الرقمي ليس إلا امتدادًا لذواتنا، لكنه امتداد غريب. كأننا ننظر في مرآة عمياء، نرى فيها ما نريد لا ما نحن عليه."
حدق فيه با حميد مليًّا، ثم قال:
"لكن يا نوري، أليس هذا الامتداد ضرورة؟ العالم تغير، ولا أحد يستطيع العيش خارج هذه الشبكة."
أومأ نوري برأسه، وأخذ رشفة من قهوته الباردة، ثم أجاب:
"الضرورة ليست عذرًا للضياع، يا حميد. المشكلة ليست في الرقمي، بل فينا. نحن من صنعنا هذه الوجوه الزجاجية التي نختبئ خلفها. صرنا نسير في شارع مليء بالوجوه، لكن بلا عيون ترى."
انحنى حسن ساعي للأمام، وقال بفضول طفولي:
"إذن، كيف ترى الذات الرقمية يا نوري؟"
ابتسم نوري، كأن السؤال أيقظ في داخله نيران الحكمة:
"الذات الرقمية يا حسن، هي انعكاس مشوه. كل صورة نضعها، كل كلمة نكتبها، كل مقطع ننشره، هو قناع. نحن نظن أننا نحكي حكايتنا، لكننا في الواقع نكتب سيناريو لحياة نرغب فيها، لا لحياة نعيشها. الرقمي ليس ذاتًا، بل ظلاً للذات... وكل ظل يحتاج ضوءًا كي يظهر."
سكت لبرهة، ثم تابع:
"لكن هنا تكمن الكارثة. الضوء الذي يجعل هذا الظل يظهر، ليس نورًا حقيقيًا. إنه مجرد وهج زائف، يستهلكنا بدل أن يمنحنا حياة."
ساد الصمت. كانت الكلمات تنساب بين الثلاثة كما ينساب ضوء الغروب على الأرصفة. شعر با حميد بثقل الكلمات، كأنها تطوق عنقه، لكنه لم يستطع الرد.
أما حسن، فقد بدا مترددًا، ثم قال:
"لكننا لا نستطيع العودة للوراء. الرقمي الآن هو العالم... هل تعتقد أن هناك خلاصًا؟"
ابتسم نوري ابتسامة حزينة، وقال:
"الخلاص يا حسن ليس في الهروب، بل في الوعي. أن نعرف أننا لسنا هذا الظل. أن نستخدمه، لا أن ندعه يستخدمنا. أن نكون أكثر صدقًا، أقل تشظيًا... أن نجد أنفسنا في المرآة، لا في أعين الآخرين."
كان الليل يزحف ببطء، يلون الأفق بلون داكن كأنه يغلق الستار على المسرح. نظر با حميد إلى حسن، ثم إلى نوري، وقال بهدوء:
"ربما نحن بحاجة إلى هذه المرآة، كي ندرك كم نحن بعيدون عن حقيقتنا."
نهض نوري 19، وكأن كلماته ختمت الحوار. وقبل أن يغادر، قال بصوت يشبه الهمس:
"البعد عن الحقيقة هو ما يجعلنا نبحث عنها... لا تنسَ ذلك، يا حميد."
ثم اختفى بين الظلال، تاركًا خلفه أسئلة عالقة، كضوء يتلاشى ببطء في أعماق المرآة العمياء.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |