العقل العربي بين الشماتة والكوارث: قراءة في الانهزام الحضاري

بهجت العبيدي البيبة
2025 / 1 / 10

في مشهد يدعو إلى التأمل والأسى، نجد أن بعض أبناء العالم العربي ينظرون إلى الكوارث الطبيعية التي تصيب دولًا بعيدة، مثل حرائق كاليفورنيا، بنظرة غريبة تملؤها الشماتة. إن هذه المواقف، التي لا تقتصر على العوام بل تشمل أحيانًا شخصيات مشهورة وأساتذة جامعات وحاملي درجات علمية رفيعة، تكشف عن أزمة فكرية عميقة، وعن حالة الانهزام الحضاري التي تهيمن على العقل الجمعي العربي.

إن ربط البعض هذه الحرائق بتصريحات الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، وتصويرها على أنها عقاب إلهي، يعكس سذاجة مفرطة وإغراقًا في التفكير الغيبي. إن هذا النوع من التفسيرات يكشف عن عقل عربي مأزوم، يتخبط بين الأساطير والميتافيزيقا، وينتظر المعجزات لإخراجه من حالة التردي التي يعيشها، بدلًا من مواجهة الواقع بفكر مستنير وعقلية علمية.

إننا إذا نظرنا إلى التاريخ، نجد مثالًا عظيمًا يمكن أن يلهمنا في هذا السياق: زلزال لشبونة المدمر عام 1755. لقد وقع الزلزال بينما كان الناس يحتفلون بأحد الأعياد الدينية في الكنائس، ودمّر المدينة بأكملها، مخلفًا آلاف القتلى. لقد كانت تلك الكارثة صدمة عميقة لأوروبا بأسرها، إذ أثارت تساؤلات فلسفية ودينية عميقة حول العدل الإلهي والمعنى من وراء الكوارث الطبيعية.

لكن ما يميز العقل الأوروبي في تلك اللحظة هو أنه لم يستسلم لتفسيرات غيبية أو أسطورية. بل على العكس، كانت الكارثة نقطة انطلاق نحو تحرر فكري وعلمي. لقد أدرك المفكرون الأوروبيون أن الظواهر الطبيعية ليست نتيجة غضب إلهي، بل تخضع لقوانين علمية يمكن فهمها وتحليلها. وكان هذا الإدراك بداية لرحلة شاقة وممتعة نحو تفكيك التفكير الميتافيزيقي والأسطوري، وبناء أسس جديدة تعتمد على العلم والمنطق.

في المقابل، فإننا نجد أن العقل العربي لا يزال يراوح مكانه في أسر التفكير الغيبي. فحرائق كاليفورنيا، بدلًا من أن تكون فرصة للتأمل في الطبيعة وتحليل أسبابها العلمية، تحولت إلى مناسبة للشماتة وانتظار “الانتقام الإلهي”. هذا الموقف يكشف عن فجوة حضارية هائلة بين عقل يسعى لفهم العالم وتحليله بعقلانية، وعقل لا يزال غارقًا في الأساطير وتفسيرات الميتافيزيقا.

إن الشماتة في كوارث الآخرين ليست مجرد تعبير عن تخبط فكري، بل هي أيضًا انعكاس لحالة عميقة من الحقد على الحضارة الحديثة. إن هذا الحقد ينبع من شعور بالعجز عن اللحاق بركب التقدم، ومن إحساس متراكم بالهزيمة. وبدلًا من أن يتحول هذا الشعور إلى دافع للعمل والبناء، يُترجم إلى انتظار سلبي لسقوط الآخرين، ولو كان عبر كارثة طبيعية لا يد للإنسان فيها.

لكن هذه المواقف تغفل حقيقة أن الحضارات لا تسقط بالكوارث، بل تقوم على العلم والعمل. لقد واجهت الدول المتقدمة مئات الكوارث، لكنها استخدمتها كفرص للتعلم والتطور، بينما يكتفي العقل العربي بالانتظار السلبي والتفسيرات الغيبية.

إن العقل العربي اليوم في حاجة ماسة إلى ثورة فكرية مشابهة لتلك التي شهدتها أوروبا بعد زلزال لشبونة. إننا بوضوح شديد نحتاج إلى التحرر من أسر الغيبيات والعودة إلى العلم والعقل كأدوات رئيسية لفهم العالم ومواجهته. إن الكوارث الطبيعية ليست رسائل غيبية، بل ظواهر علمية يمكن فهمها والتحكم في آثارها إذا استُخدمت الأدوات الصحيحة.

إن الفرق بين ما أحدثه زلزال لشبونة في العقل الأوروبي وما أحدثته حرائق كاليفورنيا في العقل العربي هو الفرق بين عقلية تفتح آفاقًا جديدة للتفكير والعمل، وأخرى تغرق في الانتظار والأسطورة. إننا، دون مواربة أو مجاملة، إذا أردنا أن نخرج من حالة التردي الحضاري، فلا بد أن نعيد بناء العقل العربي على أسس جديدة تُعلي من قيمة العلم والمنطق، وتضع العمل الجاد كوسيلة وحيدة للتقدم.

إن دروس التاريخ واضحة، والاختيار أمامنا: إما أن نستفيد من الكوارث كفرص للتعلم والنهوض، أو نبقى أسرى التفكير الغيبي والشماتة السلبية، محاصرين في دائرة التراجع التي صنعناها بأيدينا.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي