![]() |
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
![]() |
خيارات وادوات |
محمد عبد الكريم يوسف
2025 / 1 / 3
لعنة الطائفية
مقدمة
الطائفية، تقسيم الناس على أسس طائفية - دينية أو عرقية في كثير من الأحيان - كانت لعنة ابتليت بها البشرية لقرون من الزمان. هذه القوة المدمرة لا تعزز العنف والكراهية فحسب، بل إنها تعمق الانقسامات الاجتماعية، مما يجعل الوحدة شبه مستحيلة. من شوارع بيروت أثناء الحرب الأهلية اللبنانية إلى المناطق المضطربة في العراق وسورية، كانت عواقب الطائفية وخيمة. إنها تؤدي إلى خسارة الأرواح، وتشريد المجتمعات، وفي نهاية المطاف، تفتيت المجتمعات. يستكشف هذا المقال الحقائق المحزنة للطائفية وجذورها وتأثيراتها، وربما بصيص أمل في الشفاء.
جذور الطائفية
غالبًا ما يمكن إرجاع أصول الطائفية إلى المظالم التاريخية، والصراعات السياسية على السلطة، والتفاوتات الاجتماعية والاقتصادية. في كثير من الحالات، استغل أولئك الذين يسعون إلى السلطة الاختلافات الدينية، مما أدى إلى جو من عدم الثقة والعداء. على سبيل المثال، في الشرق الأوسط، وجد المسلمون السنة والشيعة أنفسهم تاريخياً على خلاف، حيث تلاعب الزعماء السياسيون بالهويات الدينية لتعزيز سلطتهم.
يلاحظ الباحث فالي نصر في كتابه "إحياء الشيعة" أن الانقسام السني الشيعي ليس خلافا عقائديا بحتا بل هو انعكاس لديناميكيات القوة السياسية في المنطقة عبر التاريخ. ومع ظهور الجماعات الشيعية المتمكنة حديثا بعد الغزو الأميركي للعراق في عام 2003، تصاعدت التوترات الطائفية. وأبرز صعود جماعات مثل القاعدة في وقت لاحق كيف يمكن لهذه الانقسامات أن تؤدي إلى العنف والإرهاب المتطرفين.
وعلاوة على ذلك، لعبت القوى الاستعمارية تاريخيا أدوارا مهمة في تفاقم الخلافات الطائفية. فخلال الانتداب البريطاني في العراق، على سبيل المثال، نفذت السلطات الحاكمة سياسات تفضل طائفة على أخرى، الأمر الذي أدى فقط إلى تعميق الانقسامات القائمة. وتستمر هذه الإرثات المؤلمة حتى يومنا هذا، مما يخلق حلقة مفرغة من الاستياء.
الخسائر البشرية
إن التكلفة البشرية للطائفية مذهلة. إن آلاف الأرواح البريئة تزهق سنويا في صراعات متجذرة في الانقسامات الطائفية. والحرب الأهلية السورية، التي بدأت في عام 2011، توضح مدى السرعة التي يمكن أن تتصاعد بها مثل هذه التوترات إلى عنف واسع النطاق. ففي البداية، كانت المطالبات بالديمقراطية هي الدافع وراء الصراع، ثم تحول إلى حرب وحشية تتسم بالعنف الطائفي، حيث تتنافس مجموعات مختلفة على السيطرة على أساس هوياتها الدينية. ويجد المواطنون أنفسهم عالقين في حلقة مفرغة من الخوف وعدم الثقة؛ وتتمزق الأسر وتشرد مجتمعات بأكملها.
ويحمل اللاجئون الفارون من العنف الطائفي معهم عبئا ثقيلا من الصدمة. ويكشف تقرير صادر عن مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن أكثر من 6.7 مليون سوري نزحوا بسبب الصراعات المستمرة، ويعيش العديد منهم في ظروف محفوفة بالمخاطر في البلدان المجاورة. وكثيرا ما تعكس قصصهم شعورا عميقا بالخسارة ــ الوطن والأحباء والهوية. كما تناقش الدكتورة منى م. مكرم عبيد في عملها "ثمن الطائفية"، فإن هؤلاء الأفراد يشهدون على حقيقة مفادها أن العنف الطائفي لا يؤثر فقط على الهياكل المادية بل يفكك نسيج الاتصال الإنساني ذاته.
التأثير النفسي
إن العواقب النفسية للطائفية عميقة وطويلة الأمد. إن الخوف المستمر من العنف والاضطهاد يخلق ثقافة من جنون العظمة، حيث ينظر الأفراد إلى الآخرين من خلال عدسة طائفتهم بدلا من إنسانيتهم المشتركة. ومن الجوانب المهمة في هذا الأمر الصدمة بين الأجيال التي يعاني منها أولئك الذين نشأوا في مناطق الصراع. فالأطفال الذين نشأوا وسط العنف قد يستوعبون الخوف والعداء، مما يؤدي إلى إدامة دورة الكراهية.
تسلط أبحاث الدكتورة فاتن هـ. عليان الضوء على أن الأطفال المعرضين للعنف الطائفي غالبًا ما يطورون تحيزات عميقة الجذور ضد أعضاء الطوائف المعارضة. ويمكن أن تتجلى مثل هذه التحيزات بطرق ضارة مختلفة، بما في ذلك كراهية الأجانب، والفصل المجتمعي، والسلوك العنيف. إن التأثيرات النفسية طويلة الأمد يمكن أن تعيق جهود المصالحة، حيث تظل الأجيال القادمة عالقة في صراعات آبائهم وأجدادهم.
العواقب الاجتماعية والاقتصادية
إن الطائفية لها أيضا آثار مدمرة على التنمية الاجتماعية والاقتصادية. ففي المناطق التي مزقتها الحرب، يتم تدمير البنية التحتية، وانهيار الخدمات الأساسية، مما يترك المواطنين بدون الضروريات الأساسية. ويركد الاقتصاد، وتصبح الفرص للشباب محدودة، مما يخلق حلقة مفرغة من الفقر والحرمان من الحقوق.
يعتبر الاقتصاد العراقي مثالا صارخا لهذه الظاهرة. لقد أدت سنوات من الصراع الطائفي إلى شل النمو الاقتصادي، مما تسبب في انتشار البطالة والاعتماد على المساعدات الأجنبية. وكما لاحظت الخبيرة الاقتصادية الدكتورة سهاد ج. خان، فإن الشباب في العراق معرضون للخطر بشكل خاص. وبسبب حرمانهم من التعليم والوظائف المستقرة، فإن العديد من الشباب لا يملكون سوى خيارات قليلة، مما يجعلهم عرضة للتطرف.
الجهود المبذولة لتحقيق المصالحة
على الرغم من التحديات الهائلة التي تفرضها الطائفية، فقد بُذِلت جهود لتحقيق المصالحة والشفاء. وقد نشأت منظمات ومبادرات شعبية تهدف إلى تعزيز الحوار بين الطوائف المختلفة، مما يدل على أن الأمل لم يُفقَد بالكامل. وتعمل البرامج التي تركز على الحوار بين الأديان والتفاهم المتبادل، مثل تلك التي تقودها جائزة عبد الرحمن السميط للتنمية الأفريقية، على تعزيز التعايش السلمي بين المجموعات المتنوعة.
إن الأمثلة من لبنان، حيث عملت المجتمعات على تحقيق المصالحة وإعادة بناء الثقة على الرغم من الحرب الأهلية الدموية، تقدم دروسا قيمة. وقد أظهرت المبادرات التي تربط الشباب من مختلف الخلفيات الطائفية من خلال التعليم والتبادل الثقافي وعداً في إصلاح العلاقات. وفي حين تواجه مثل هذه المساعي عقبات خطيرة، فإنها تذكرنا بأن التعايش ممكن.
الخلاصة
لا تزال لعنة الطائفية تطارد العديد من المجتمعات في جميع أنحاء العالم. والألم الذي تسببه واضح في الأرواح المحطمة والمجتمعات المجزأة التي خلفتها. إن الرحلة نحو الشفاء محفوفة بالصعوبات، ومع ذلك فهي رحلة تستحق أن نخوضها. وكما يظهر لنا التاريخ، فإن البشرية لديها القدرة على الارتقاء فوق انقساماتها. ومن خلال تعزيز التعاطف والتفاهم والحوار المفتوح، يمكننا أن نأمل في كسر حلقة الطائفية. ولعل قصصنا المشتركة عن المعاناة والقدرة على الصمود هي التي ستمكننا من إيجاد طريق إلى السلام.
المراجع
Nasr, Vali. The Shia Revival: How Conflicts within Islam Will Shape the Future . W.W. Norton & Company, 2006.
Alian, Faten H. H. “Impact of Sectarian Violence on Children: Psychosocial Understanding.” Journal of Child Psychology 42, no. 3 (2019): 345-360.
Kahn, Suhad J. “Economic Consequences of Sectarian Conflict: The Case of Iraq.” Middle East Economic Review , vol. 10, no. 2 (2020): 98-114.
Makram-Ebeid, Mona M. “The Price of Sectarianism: Human Costs in the Levant.” Crises and Conflicts: A Sociopolitical Perspective , 2018.
United Nations High Commissioner for Refugees (UNHCR). “Global Trends: Forced Displacement in 2019.” UNHCR, 2019.
Al-Sumait Prize for African Development. “Promoting Peaceful Coexistence in Africa.” Annual Report , 2021.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |