رحيل الوالد

عبدالإلاه خالي
2024 / 11 / 30

مضت السَّنة الدراسية واجتزتُ الامتحانات متفوقا، لكنني لم أتمكن من مغادرة القاهرة بسبب الظروف الاستثنائية للحرب. بعد يومين وبينما أنا جالس بالغرفة، إذا بي أسمع طرقات على الباب! فتحت فوجدت الناظر يسلمني برقية وَصَلَتْ للتو من المغرب. قرأتها فَصُعِقْت:
ـ « أبوك على فراش الموت، تعال بسرعة! »
صدمني الخبر لدرجة أنني شككت في الأمر، فالوالد تَرَكتُه معافى لا يشكو من علة.. ترَكْتُه يتنقل بين قاعات المحاكم ومكاتب المحامين، إذ كان قد رفع دعوى قضائية ضد بوجمعة زوج أختي سعاد..
يقول بوجمعة أن سعاد هجرت بيت الزوجية وتاهت بين المومسات مما اضطره لتطليقها غيابيا، ولم يكتف بذلك بل زعم أن ابنتهما منية ليست من صلبه فرفض حيازتها بعد أن جاء بها وتركها لنا بباب البيت! حجة معتلة لستُ أدري أي شيطان غبي أوحى له بها..
التحقًتْ بنا منية فردا جديدا في الأسرة وشاع خبرها في الحي بسرعة.. قد تكون هذه الواقعة هي سبب وعكة الوالد والفضيحة التي أثقلت كاهله حتى ناءَ جسده بِحَمْلِها..
استرجعتُ من إدارة الكلية مبلغا ماليا هزيلا كنتُ قد دفعته في بداية العام واجبا عن أتعاب الإقامة، وحجزتُ تذكرة بأول باخرة تغادر ميناء القاهرة منذ يوم الهزيمة..
تحرَّكَتِ الباخرة في ذلك اليوم من شهر أغسطس. كان يوما شديد الحرارة والرطوبة، والبحر أمامي ناعسا خائر القوى ممتدا إلى ما لا نهاية. اسْتَدْعَتْ ذاكرتي صُوَرَ أبي: رأيتُه يقوم مبكرا، يتناول طعاما خفيفا وهو يدير مؤشر الراديو يمينا ويسارا بحثا عن المحطة المناسبة ليستمع إلى نشرات الأخبار، ثم يخرج فيجلس بباب الدرب صحبة أقرانه من الشيوخ المتقاعدين والعجزة المقعدين، ينهمكون في شتم الزمن الحالي ورثاء الحب الضائع والتنبؤ بصيف قائظ أو بأمطار طوفانية والتدخل في حياة الجيران ورصد فتات الزمن الذي مر بسرعة؛ رأيتُه كذلك يعود من المحكمة فيتهاوى على الفراش مهموما شبه ضائع وهو يقول:
˗ ‹‹ بالكاد أسدُّ حاجيات البيت فكيف أواجه أتعاب المحامين ونفقات المحاكم؟ ››
لم تتوقف ذاكرتي عن ممارسة نشاطها إلا حينما رستِ الباخرة في ميناء طنجة. كان ظلام الليل قد تلاشى إلى لون رمادي وظهر شعاع برتقالي في الشرق. لفت نظري خبَرٌ بجرائد الأكشاك عن انتحار المشير عبد الحكيم عامر.. فكرتُ في الأمر قليلا ثم مضيتُ في طريقي نحو محطة القطار.
فور وصولي إلى البيت، أقبلَتْ عليَّ أمي متحاملة على أوجاع ألزمَتها الفراش منذ أن غادرتُ المغرب. احتضنتني بقوة ولم تتركني إلا بتدخل من أختي وفاء. قالت والدموع في عينيها:
˗ ‹‹ قبل شهرين حاز بوجمعة ابنته منية فتنازلنا عن الدعوى، لكن يبدو أن هذا حدث متأخرا.. ››
ثم أخبرتني أنها عاجزة عن الاهتمام به وتبكي الموت الذي لا يجيئها حتى لا تراه هكذا.
قبَّلتُ رأسها ورجوتُها أن لا تبكي ثم تسللتُ بهدوء إلى الغرفة التي يرقد فيها..
رأيتُه فَذُعِرْت: تَغيَّرَ فيه كل شيء، ملامح وجهه تكاد لا تبين، لحيته الشيباء تغطي وجنتيه الغائرتين بضباب يزيد وجهه شحوبا ونحولا، عيناه البنيتان شاخصتان في اللا شيء، صدره يرتفع وينخفض في أنفاس هزيلة متقطعة، ذراعاه مسدلتان على فخديه الضامرتين داخل السروال. لا أصدق أن هذا هو أبي. منذ سنة فقط كانت العافية تتفجر من ثنايا جسده والنشوى والحياة تملآن قسمات وجهه؛ أما الآن فإن المرض الرهيب قد امتص دمه وأكل لحم جسده. على الرغم مني انحدرتْ دمعة على خدي. اقتَرَبْتُ منه وجلستُ بجانبه على حافة الفراش. أمسكتُ بكفه ثم قلت:
- ‹‹ أنا ادريس يا أبي، كيف حالك؟ ››
رفع وجهه ناحيتي دون أن يتغير انفعاله في شيء. عيناه هائمتان تحيط بهما دائرتان سوداوان تنم عن أثر السهر والإرهاق والقلق المتواصل. كفُّهُ باردة مجمدة وعظامها تبرز من تحت جلد واهن مجعد فتجعلها أشبه بكف مومياء محنطة. ما أبعد الفارق بين هذه الكف وما كانت عليه قبل شهور. بل ما أعظم الفارق بين الجسد المسجى بجواري وبين الرجل القوي المعافى الذي كان. ذلك الجسد الرياضي ذو القوام الفارع والصدر العريض انكمش مع العلة، تضاءل وجف حتى لم يبق منه غير هيكل عظمي لإنسان مسكين. قفصه الصدري يستطيع الناظر أن يحصي ضلوعه دون مشقة. كل ما فيه تغير، لونه الخمري المشبع بحمرة الصحة قد امتقع وبات في لون الليمون.
ضغطْتُ كفّهُ الضائعة في كَفّي وقلت:
- ‹‹ أبي، أنا ادريس، ألا تريد أن تكلمني؟ ››
فتح عينيه البُنِيَتَيْن ثم أغمضهما، ومن تحت الرموش نَزَّتْ عَبْرة ساخنة شقّت طريقها على تجاعيد وجهه. كان بكاؤه هذه المرة مرّا محرقا.
جلست أمي إلى جوارنا وقالت:
- ‹‹ حينما أدرك الطبيب أن العملية الجراحية ترَفٌ لا يُدركه أمثالنا وَصَفَ له مسكنات كان يلتهمها دون احترام للمقادير كلما أحس باحتراق جسده ››.. تنهّدَتْ قبل أن تضيف بتأثر: ‹‹ لو كان لدينا المال الكافي لأجرينا له العملية.. ››
قلت لها بأنني سآخذه غدا إلى المستشفى فدَعَت لي بالرضى والتوفيق.
صباح الغد استيقظتُ مبكرا. لابد أن أفعل شيئا ما! اقترضتُ خمسين درهما من قدّور وخمسين أخرى من حميد وحملناه دون أن يبدي قبولا أو رفضا. كان هذا دليل استسلامه الأخير. فَحَصَهُ مُمرضان بأسئلة لم يأبه لها فحقناه بحقنة وأخذا المائة درهم كمقابل.. فيما بعد قالت أمي أن الحقنة عجَّلت بموته لإراحته من العذاب.
صباح الغد دخلتُ غرفته. كانت جفناه نصف مرتخيتين وعيناه تنظران إلى الخواء في ثبات مخيف. اقتربتُ منه. لم يكن قفصه الصدري يعلو ويهبط. تيقنتُ من توقف أنفاسه فسرى رعب بداخلي: لقد مات أبي! مات ولم يشعر به أحد من أهل الدار. ظللتُ لِلَحظة دون حراك. تأبى عليَّ رجولتي أن أنوح وأبكي. ناديتُ وفاء. جاءت مسرعة منفوشة الشعر. وجهها أصفر وعيناها منتفختان. رأتني جاثيا بجانبه. قالت ببرودة غامضة:
- ‹‹ ياك لباس؟ ››
ـ ‹‹ مات أبي! ››
هرَعَتْ نحوه صارخة ثم سقطت مغشيا عليها. استفاقت أمي واستفاق الجميع وسرعان ما غرقت الدار في بحر من الصراخ والعويل. لم أنتبه لكل أولئك الناس في البداية. تجمهروا بعد سماعهم للخبر بسرعة غريبة. كلماتهم رغم استخفافها بالدنيا كانت تزيدني خوفا وفزعا. وقف أمامي الطاهْر، عانقني وقال بصوت مسموع وكأنه يخاطب الآخرين:
كل ابن أنثى وإن طالت حياتُه يَوْماً على آلة حدباء محمولُ
فإذا حمَلْتَ إلى القبور جنازةً فاعلم بأنك بعدها محمولُ
لُفَّ الجسد الواهن في غطاء أبيض وَوُضِعَ في نعش ليتخطى عتبة البيت بلا رغبة في العودة مرة أخرى. سِرْتُ في الطريق وراء الجنازة لا أعرف مكانا، لا أعرف إنسانا، لا أعرف معنى.. إن الوضوح كمعنى عقلي ليس غير نور مصباح ضئيل في مجاهل الوجود الكبير الذي هو عتمة كلية شاملة. فمن يستطيع أن يجيب: ما الوجود؟ ما الإنسان؟.. من يستطيع أن يجيب: من أين جاء؟ وإلى أين المصير؟..
في المقبرة وقف الحفارون يهيلون التراب وأربعة قراء يصيحون كالقدر المخيف وَوَجْهُ أبي أصم لا يعي حرفا من كل هذا العبث.. مضى الوقت سريعا وهم يقرأون كلماتهم دون خشوع. لفت نظري مقدم الحومة، لم أتصور يوما أنه يعرف الموت..
حُفِرَ قبر صغير ببرودة ولامبالاة كما لو كانت ستوضع فيه قطعة من الصخر. ألقيتُ النظرة الأخيرة على وجه أبي. بدا لي ناصع البياض، طاهرا أكثر من أي وقت مضى. أحسستُ بالجرح الداخلي يتمزق ويدمي أكثر حين قلت له وداعا ولَمْ يُعِرْني أي اهتمام! مددوا جسده النحيل فوق التراب ووضعوا عليه الحجر في عملية آلية. بدت لي الدنيا صغيرة وتافهة، أشبه بكوخ ندخله دون أن نفكر يوما أننا سنغادره. همس الحاج عبد الرحمان في أذني بأنْ حان وقت تقبل التعازي وأخذني برفق لأقف على رأس جدار بشري. وقف أخي أحمد بجانبي وبعده اصطف ثلاثة أصهار متحازنين. تكونَتْ سلسلة طويلة من البشر وبدأتْ تعانقنا قاذفة في وجوهنا توصيات الصبر والسلوان..
انقرضَت السلسلة فانفض الجمع وبقي أبي وحيدا.. أهذه هي الدنيا؟! أليست الحياة مسرحية؟!.. عبث..

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي