|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
علي حسين يوسف
2024 / 11 / 30
في المعلقات العشر، يتجلى الطموح الشعري العربي القديم في استحضار الماضي وجعله معيارا يقيس به الإنسان وجوده وأفعاله. كل مطلع منها هو بوابة لزمن يتحد مع اللغة ليخلق عوالم شعرية تتجاوز حدود الفرد إلى أفق إنساني جامع، حيث يصبح الحنين، الرحلة، والبطولة تعبيرات عن القلق الوجودي والمعنى المتجدد للحياة.
هنا تتجسد أعمق تجليات الفكر الإنساني الشعري في استدعاء الماضي ومساءلة الزمن. مطالع هذه القصائد ليست افتتاحيات فقط، بل هي بوابات إلى عوالم تجمع بين الذاكرة والوجود.
في قول امرئ القيس:
قفـــا نبـــكِ مـــن ذكــــرى حبيـــب ومنــــزل
بسقــــط اللــوى بيـــن الدخــــول فحومــــلِ
نجد النداء للحظتين؛ لحظة الحاضر التي تقف عند الأطلال، ولحظة الماضي حيث الذكرى حيّة. إنها لحظة تتحد فيها الذات مع ما كان، لتعيد تشكيل الحاضر عبر التأمل والحنين.
نجد هنا ملامح البداية التي تصبغها النوستالوجيا وتوق الماضي، حيث يطالب الشاعر رفاقه بالتوقف والبكاء، كأنما الزمن نفسه يستدعي شهادة البشر على فناء آثاره. هنا، يصبح الحنين أداة فلسفية للتأمل في الزوال، حيث تلتقي الحياة بالشعر في لحظة مفارقة بين الحاضر والماضي.
وفي مفتتح معلقة طرفة بن العبد:
لخولــــــةَ أطـــــلالٌ ببرقــــــــــة ثهمَـــــــــــدِ
تلـــــوح كباقــي الوشـــم فـي ظاهـــر اليــــدِ
تظهر العلاقة بين الفناء والذاكرة، حيث الوشم بوصفه دلالة يحمل بقاء الصورة رغم زوال الحدث، مما يطرح جدلية الثابت والمتغير.
أنه استرسال وجودي بين بقايا أثر، حيث يتلاشى الحاضر في ظلال الماضي، وتلوح صورة الأثر مثل وشم لا يمكن محوه. فكرة الوشم، الثابت في مظهره، والمتغير في مضمونه، تطرح تساؤلات عن الهوية والتحول، وكأن الشاعر يخوض صراعا مع الزمن الذي يعيد تشكيل جوهر الأشياء
وفي مطلع زهير بن أبي سلمى:
أمـــــن أُمِّ اوفــــــــى دمنـــــــة لـــم تكلــــمِ
بحومانـــــــــة الــــــــــدرّاج فالمتثلــــــــــــمِ
يستدعي المكان بوصفه معلماً شاهدا على الفناء، لكنه يتجاوز المادي ليبحث عن المغزى الإنساني في استمرار الذكرى.
وهنا يتكامل هذا التناص مع فكرة البقاء والهلاك، حيث يقف الشاعر على الأطلال بوصفها شاهدة على حقبة منتهية، لكنه يسائل الزمان والمكان عن مغزى هذا الوجود العابر. الدار، هنا، ليست مجرد مكان، بل هي كينونة ذات أبعاد فلسفية تشير إلى ثنائية البقاء والزوال
أما لبيد بن ربيعة يعبر عن فلسفة الزوال بقوله:
عفـــــت الديـــــــار محلهــــــــا فمقامهـــــــا
بمنــــــــىً تأبـّــــدَ غولهــــــــــا فرجامهـــــا
هنا يتعمق التأمل الفلسفي في فكرة الخراب والفراغ، حيث تصبح الطبيعة عنصرا مكملا للإنسان في مواجهة المصير. الأرض المهجورة ليست مجرد فضاء، بل هي مرآة تعكس عبثية الصراع الإنساني مع الزمان، وهذا ما يجعلك تواجه أطلالاً لم تعد تسكنها الحياة، وكأنها نصٌ مفتوح لقراءة الزمان.
أما عمرو بن كلثوم في قوله :
ألا هبـّــــــــــي بصحنــــــــك فاصبحينـــــــا
ولا تبقــــــــــي خمــــــــــور الاندرينــــــــــا
فهو يحتفل باللحظة الآنية ويتحدى الفناء بالغناء والخمر، حيث يتحول الاحتفال إلى فعل وجودي مقاوم للعدم.
نجد هنا فكرة تمثل ثورة على الفناء، حيث يتحول الشعر إلى صيحة متمردة تحتفي باللحظة الآنية. يتجاوز الشاعر البكاء على الأطلال ليعيش الفرح كفعل مقاومة ضد الحزن، وكأن الغناء والخمر أدوات لتحدي العبثية
وفي قول عنترة بن شداد:
هــــــل غــــادر الشعـــراء مـــن متــــــردّمِ
ام هــــــل عرفــت الـــدار بعـــــــد توهـِّـــــمِ
يدخل الشعر مساحة اختبار الذات والصراع مع الزمن، ليؤكد أن البطولة والحب جزء من الكينونة ليصبح الشعر سلاحا يستعيد به الشاعر مكانته في عالم مليء بالتحديات. عنترة هنا ليس مجرد عاشق، بل محارب يسعى لإثبات ذاته أمام قوى تسعى إلى تهميشه، ليصبح الحب رمزا للصراع.
أما قول الحارث بن حلزة:
آذنتهــــــــــــا ببينهــــــــــا اسمـــــــــــــــاءُ
رُبَّ ثــــاوٍ يُمَــــــلُّ منــــــــــــه الثــــــــــــواء
يقدم رؤية اجتماعية وفلسفية للثبات والتحول، حيث تستدعي القصيدة مسألة العلاقة بين الفرد والجماعة، والتوتر بين الماضي والمستقبل في سياق الهوية القبلية ليشير إلى التواصل الإنساني بوصفه فعلاً معقداً، يتقاطع فيه الاستقرار مع الحاجة إلى التغيير.
أما الأعشى ميمون في قوله :
ودّعْ هريــــــرة إن الركـــــب مرتحـــــــل
وهـــــل تُطيــــقُ وداعـــــا أيهـــــا الرجــــــلُ
يجعل من الرحيل تجربة إنسانية تتجاوز الفقد المادي لتصبح اختبارا للمعنى وتجسيدا للوداع بوصفه فعلاً إنسانيا شديد التعقيد، حيث يتحول الرحيل من فعل جسدي إلى حالة شعورية تستدعي الحب والفقد والمعنى في آنٍ واحد.
وحين نصل إلى النابغة الذبياني في مطلعه:
يــــا دار مَيـــــــة بالعليـــــــاء فالسنـــــــــدِ
أقـــوتْ وطــــال عليهـــا سالـــــــف الأمــــــدِ
نجد أن المكان يتحول إلى شهادة حيّة على عبث الزمن، فنحن أمام كشف عن علاقة الإنسان بالمكان بوصفه ذاكرة تجمع بين الفرد والزمان، ليصبح الدمار رمزا لاستمرار الحياة في دورة لا نهائية.
وأخيرا عبيد بن الأبرص الذي يقول في مطلع معلقته:
أقفــــــــــر مـــــــــن اهلــــــه ملحـــــوب
فالقطبيــــــــــــــــــات فالذنـــــــــــــــــــــــــوبُ
فإنه يجسد فراغ المكان كمرآة للفناء الإنساني، حيث يصبح الغياب جزءاً من الهوية.
المطلع يؤكد ثبات فكرة الرحيل والزوال في الفكر الشعري العربي، حيث يعبر الشاعر عن العلاقة الجدلية بين البدايات والنهايات
تلك المعلقات تلتقي في إطار وجودي يسائل الزمن والإنسان، ويدمج الشعر والفكر في نصوص تظل شاهدة على انشغالات الإنسان الأزليّة، فهذه المعلقات، وإن تنوعت في أغراضها، تقدم صورة عميقة عن النفس البشرية وهي تسعى لفهم ذاتها في عالم متغير. الشعر هنا ليس مجرد أداة للتعبير، بل هو وسيلة لفهم الكون وإعادة صياغة العلاقة بين الإنسان والزمن.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |