|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
رابح لونيسي
2024 / 11 / 30
لا يمكن أن ننفي مدى التأثير الكبير لتطور قوى الإنتاج على الذهنيات والثقافة وشكل الدولة، فكما أنتجت الثورة الصناعية في أوروبا النظام السياسي الديمقراطي البرجوازي فإن التطور الهائل اليوم لتكنولوجيا الإتصالات سيكون له أيضا تأثير كبير على النظام السياسي وشكل الدولة، شأنه في ذلك شأن الثقافة والذهنيات وغيرها. ان هذا التطور الهائل لتكنولوجيا الإتصالات يمكن أن تصحبه مطالب الشعوب، خاصة في المركز الرأسمالي بحقها في المشاركة الفعلية في صناعة القرار، واستغلال هذا التطور التكنولوجي لذلك بدل اكتفائها بانتخاب ممثلين عنها في المجالس المختلفة، وغالبا ما ينتمي هؤلاء الممثلون اليوم إلى الطبقة البرجوازية البعيدة عن مصالح الجماهير المحرومة، مما جعل الكثير ينتقدون الديمقراطية الغربية وقد كتب مثلا إيف لكلرك في كتابه "الديمقراطية -طريق مسدود-" بأن "الديمقراطية ليست هي حكم الشعب، بل مجرد منافسة على السلطة ضمن نخبة سياسية مغلقة".
فإذا رافق هذا التطور الكبير لتكنولوجيا الإتصالات وعي شعبي أن الديمقراطية في الغرب ما هي إلا أكذوبة ووهم، وبأنها لا تحتوي في حقيقتها أية سلطة للشعب، بل في الوقت الذي تقصيه في الواقع، وتوهمه بأنه يشارك في السلطة، ففي هذه اللحظة سيتغير موقف الطبقات البرجوازية المحتكرة للسلطة في المركز الرأسمالي تجاه تطور تكنولوجيا الإتصالات لأن هذه الطبقات تحتاج إلى هذه الوسائل لخدمة مصالحها، لكن في الوقت لذي تصبح فيه الشعوب تطلب بتسخير هذه الوسائل لخدمتها وإمكانية تحويلها إلى وسيلة لمشاركتها الفعلية في صناعة القرار، فإن البرجوازية تتحول إلى أكبر عدوة لتطوير تكنولوجيا الإتصالات، فتعرقل نموها، لكن هذا لن يتم إلا بإنهاء استغلال المركز الرأسمالي لبلدان العالم الثالث، فلا تجد هذه الطبقات البرجوازية ما تقدمة للطبقات الكادحة مقابل صمتها. إن هذا الطرح هو الوسيلة التي بإمكاننا تضييق الهوة التكنولوجية والعلمية بيننا وبين الغرب، خاصة وأننا في مرحلة جديدة هي عصر تكنولوجيا الإتصالات، ويمكن أن ينشب في هذه الحالة صراع عنيف بين الطبقة البرجوازية التي تتحول إلى معرقلة للتطور العلمي وطبقة العلماء التي ليس في مصلحتها عرقلة هذا النمو.
لا يخفى على أحد أن نشوء الديمقراطية في الغرب كان بهدف خدمة الطبقة البرجوازية وتحطيم طبقة النبلاء، ولهذا أقصيت من الممارسة السياسية في القرن19م كل القوى التي تهدد مصالح البرجوازية، فمثلا لم يُسمح للعمال بحق التصويت في إنجلترا إلا في عام 1884 تحت ضغوط نقابات وتنظيمات عمالية وبعد تعهد هذه القوى بعدم المساس بالنظام الرأسمالي ومصالح الطبقات البرجوازية السائدة واحترام الحريات، والذي لا يعني في مفهوم الديمقراطية الغربية آنذاك إلا حرية الملكية والاستغلال والنشاط الاقتصادي دون حدود، وقد نظر إلى الحرية آنذاك كملكية خاصة فمثلا الأمريكي توماس جفرسون، والأنجليزي جون ستوارت مل... قالوا وكتبوا صراحة أن الحرية هي حرية الملكية الخاصة التي لابد من الحفاظ عليها -حسبهم- ضد أية محاولة للمساس بها حتى ولو كانت من حكومة منتخبة من أغلبية الشعب، ولهذا السبب، فإن حق الانتخاب كان محصورا في بدايته في الملاك فقط لا غير، ونعتقد أن الأسس الفكرية للديمقراطية في الغرب مستوحاة من ديمقراطية أثينا القديمة التي ما هي "إلا سيطرة 40 ألف مواطن حر مقابل 110 ألف من العديد، ويساندهم السوفسطائيون الذين يصنعون الرأي العام، فيظهرون التافة عظيما والعظيم تافها بواسطة قوة الخطابة والكلام"-حسب المفكر الفرنسي روجي غارودي-.
إن الارتباط الوثيق بين الديمقراطية والرأسمالية الاستغلالية في الغرب هو الذي جعل الماركسيون يعتبرون الدولة جهازا في يد الطبقة البرجوازية ضد البروليتاريا، كما لقيت الديمقراطية البرجوازية انتقادات من عدة مفكرين سياسيين كموسكا، وباريتو، وميسانز، وشمبيتر... وغيرهم، إلا أن الماركسيين حاولوا إعطاء البديل المتمثل في الديمقراطية الشعبية بمعنى دكتاتورية البروليتاريا عن طريق الحزب الشيوعي الذي يجسدها، والسوفيتات التي هي مجالس تمثل العمال والفلاحين والجنود. لكن نظام الحزب الواحد أدى إلى نتائج وخيمة لم ينتبه إليها منظرو الماركسية في حينها، حيث سمح بظهور برجوازية بيروقراطية استغلت مناصبها في الحزب والإدارة بهدف الإثراء غير الشرعي، مثلما قمعت الحريات، فانهار الإبداع العلمي والفني والفكري، لأن الحرية ضرورة حيوية لكل نشاطات الإنسان.
أما بالنسبة لمستقبل الديمقراطية في منطقتنا يجب علينا الإشارة بأنه عندما تخلصت بلدان المنطقة من الاستعمار اتبعت بعض دوله الديمقراطية البرجوازية كالباكستان ومصر والعراق وسورية... وغيرها، مثلما اتبعت بعض الدول الأخرى دكتاتورية واضحة متجسدة في الملك أو السلطان أو الأمير مستندين إلى تقاليد بالية، وبعد إفلاس هذه الأنظمة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا، سقط الكثير منها من جراء ثورات وإنقلابات عسكرية، ووجهت الأنظمة الجديدة التي جاءت إلى الحكم فيما بعد نقدا لاذعا لأنظمة الحكم التي كانت سائدة من قبل، ومنها الأنظمة الدميقراطية النيابية، وخاصة الأحزاب التي كانت في قمة الفساد كمصر مثلا، لكن بدل أن تفكر أغلب هذه الأنظمة الجديدة في طريقة مثلى لحل إشكالية الدولة، فإنها لجأت إلى استيراد النموذج السوفياتي المتمثل في نظام الحزب الواحد متأثرين في ذلك بالماركسية-اللنينية .
ومن حقنا أن نتساءل اليوم عن إتباع الحكام الجدد هذا النظام الذي قمع الحريات، فهل كان عن قناعة أم بهدف إستغلال ذلك لأخذ مكان الطبقات الحاكمة من قبل؟، فقد فتح قمع الحريات أمامهم الطريق لنهب الثروات في صمت دون أن يواجههم أحد أو يفضحهم، فهناك قاعدة معروفة اليوم، فكلما قمعت الحريات، فمعناه هناك رجال في السلطة يريدون النهب والسلب لثروات الأمة في الظلام مثل السارق الذي يقوم بفعلته ليلا كي لا ينفضح أمره، لكن يمكن أن يقول البعض بأن نيتهم كانت صادقة، وأنهم رأوا بأن شعوب المنطقة تحتاج إلى مستبد مستنير وعادل كما طرحها محمد عبده في مقالته الشهيرة المعنونة "إنما ينهض بالشرق مستبد عادل"، ونشرته مجلة "الجامعة العثمانية" السنة الأولى، الجزء الرابع، أول مايو (أيار) 1899، وقد ختم محمد عبده مقالتة بقوله "هل يعدم الشرق كله مستبدا عادلا في قومه يتمكن به العدل أن يصنع في خمس عشر سنة ما لا يصنع العقل وحده في خمسة عشر قرنا؟".
فبغض النظر عن نوايا هؤلاء الحكام الجدد، فأنه علينا الإشارة بأن فترة حكم هذه الأنظمة الجديدة قد تميزت بالاستقرار في سنواتها الأولى، ويعود ذلك في نظرنا إلى اعتقاد الشعوب أن هذه الطبقات الحاكمة الجديدة نابعة منها، وبأنها في خدمة مصالح الشعب، ولم تكن تعلم أن هذه الأنظمة الجديدة في أغلبها لم تكن تساهم في إنتاج الثروة والتنمية كما أوهمت الشعوب، بل كانت تعتمد على الريع النفطي والمواد الأولية التي ارتفعت أسعارها، وتوزعه بشكل هرمي انطلاقا من القمة إلى القاعدة، وبانخفاض هذا الريع بسبب الأزمة الاقتصادية في الغرب، وانهيار المعسكر الشيوعي، أضطرت الكثير من هذه الأنظمة إلى الانتقال إلى ما أسمته باقتصاد السوق كوسيلة لتبييض الأموال التي نهبتها أثناء احتكارها السلطة، وإعطاء الشعوب نوعا من الحريات والديمقراطية كبديل للخدمات الاجتماعية التي كانت تعطيها لها من قبل، وقد أخذت هذه الحريات طابع الفوضى المقصودة في بعض الأحيان كوسيلة لدفع الشعوب للمطالبة بالدكتاتور القوي الذي يضمن لها الأمن والإستقرار على الأقل، لكن هل حقا أن هذه الديمقراطية كانت ستحل إشكالية التنمية، وتعطي للشعب حقا السلطة الفعلية ؟ أم هي وسيلة لخمة طبقة معينة من المجتمع ؟ .
إن تطور المسألة الديمقراطية في منطقتنا منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي، تبين لنا بوضوح أنها ديمقراطية نخبة شبيهة بالديمقراطية البرجوازية في الغرب، لكنها ديمقراطية في خدمة الكمبرادورية (أي أصحاب إستيراد-إستيراد) الذين نهب أغلبهم الثروة أثناء الأحادية الحزبية بأساليب شتى، والذين أصبحوا في خدمة إقتصاد الغرب الرأسمالي بتسويق منتجاته. ولهذا فهي لن تسمح بقيام أحزاب تهدد مصالح هذه الطبقة الخادمة للرأسمالية العالمية، والتي يمكن أن يصل المحرومون إلى السلطة من خلالها، وفي هذا المجال يقع ذلك الإقصاء لبعض الأحزاب والتيارات بسبب ارتباطها الوثيق بالجماهير الشعبية التواقة للعدل والحرية. وفي بعض الأحيان يسعى الكمبرادور إلى احتواء قيادات الأحزاب وفصلها عن مطالب وطموحات الشعب الكادح وتحويلها إلى حلفاء له باستعمال شتى الوسائل، وهذا ما يلاحظ من خلال سعي جل الأحزاب في منطقتنا إلى استقطاب طبقة الكمبرادور لأنها بحاجة إلى أموال ضخمة لتمويل نشاطاتها وحملاتها الانتخابية، فتتحول تلك الأحزاب من أحزاب جماهيرية إلى سيطرة الكمبرادور عليها بدل الكفاءات والمستثمرين في القطاعات المنتجة .
إن حل إشكالية التنمية لا يمكن أن يتم إلا بتحويل الكمبرادور إلى مستثمر منتج مثلما وضحنا ذلك بالتفصيل في كتابنا "النظام البديل للإستبداد-تنظيم جديد للدولة والإقتصاد والمجتمع-"، وبإقامة ديمقراطية حقيقية يكون الحكم الفعلي فيها في يد كل الشعب، ويتم تسخير القوانين وأجهزة الدولة لخدمة مختلف شرائح المجتمع وكل مكونات الأمة والمجتمع الأيديولوجية والسياسية والثقافية والطبقية دون استثناء بدل خدمة طبقة الكمبرادور وحلفائهم الجدد كبعض قيادات الأحزاب.
إن الديمقراطية البرجوازية ليست في خدمة الشعب، بل يمكن أن تهدد الوحدة الوطنية لأنها لن تحل المسألة الاجتماعية وإشكالية التنمية الاقتصادية، وستسمح بتوسيع الرأسمالية العالمية بأخلاقها وثقافتها وقيمها ونمطها المعيشي الإستهلاكي وإفقارها للشعوب، مما سيؤدي إلى اضطرابات اجتماعية حادة وانعدام الاستقرار وبروز الكثير من الآفات المهددة للوحدة الوطنية كالانغلاق والتعصب للهوية وبعض التقاليد البالية، لأنه كلما هددت الهوية والذات تمسك بها صاحبها تمسكا سلبيا بدل التمسك الإيجابي المتفتح من خلالها على الحداثة والتطور والتقدم، فيظهر من جراء التوسع الرأسمالي التعصب الطائفي والقبلي بشكل كبير، ما يؤدي إلى حروب أهلية مثلما يحدث في بعض بلدان منطقتنا وإفريقيا السوداء، هذا ما يجعلنا نطرح مسألة فك الارتباط بالرأسمالية العالمية وإقامة نظام سياسي ملائم لذلك يسمح برقابة حقيقية وبمشاركة شعبية واسعة في صناعة القرار، ويدفعنا هذا كله إلى إعادة النظر في مسألة الحريات ومختلف السلطات (التنفيذية والتشريعية والقضائية) والرأي العام والمجتمع المدني ومسألة حقوق الإنسان، فنخلق توافقا بين الدولة والمجتمع بدل هذا الصراع والتناقض الحاد الذي تعيشه منطقتنا، وستدور سلسلة مقالاتنا القادمة حول هذا النظام السياسي البديل الذي نطرحه بتوضيح مفصل لكل ميكانيزماته وآلياته لحل كل هذه القضايا والإشكاليات التي طرحناها.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |