فوز ترامب.. انتصار للشعبوية الأمريكية

فهد المضحكي
2024 / 11 / 30

ساعدت الأزمات الاقتصادية التي واجهتها الولايات المتحدة منذ الأزمة المالية في عام 2008، والركود الاقتصادي اللاحق، اللذين أثرا على الأمريكيين من الطبقة العاملة، ولا سيما أولئك الذين يعيشون في المناطق الريفية والصناعية، على تزايد موجة السخط بين مختلف شرائح الأمريكيين على المؤسسة الأمريكية، الأمر الذي استغله ترامب لتعزيز شعبيته بين الناخبين الذين شعروا بتخلي الحزبين السياسيين الرئيسين: الديمقراطي والجمهوري، اللذين كان ينظر إليهما على أنهما أكثر توافقًا مع مصالح الشركات من احتياجات المواطنين العاديين.
ولكي نوضح ذلك، للباحث المتخصص في الشؤون الأمريكية عمرو عبدالمعطي رأي نشر على موقع مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، خلاصته أن ترامب بلور حملاته الانتخابية لأعوام 2016 و2020 و2024، على استقطاب الناخبين الذين كانوا محبطين، ما اعتبروه نظامًا سياسيًا «فاسدًا». وجذب شعاره «اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» القائم على العودة إلى ماضٍ أفضل، بشكل خاص الناخبين البيض من الطبقة العاملة الذين شعروا بالتهميش بسبب العولمة والتغيرات الأمريكية الديموغرافية. وقد وفر اعتقاد أغلبية الناخبين الأمريكيين، وفقًا للعديد من استطلاعات الرأي، بأن البلاد تسير على الطريق الخطأ، وتنامي الغضب من أداء الحكومة الفيدرالية، أرضًا خصبة لرسالة ترامب المناهضة للمؤسسة الأمريكية.
فعلى عكس السياسيين الذين غالبًا ما يتنقلون بين الهياكل المؤسسية والحزبية القائمة، صور ترامب على أنه شخص من خارج النخبة والمؤسسة الأمريكية، الأمر الذي كان محوريًا في جاذبيته بين قطاع كبير من الأمريكيين من خلال تأطير ترشيحه على أنه انفصال عن الوضع الراهن، وتقديم منظور جديد للحكم وصنع السياسات.
ولم يستهدف خطابه النخب الديمقراطية بسبب، بل أيضًا الشخصيات المؤسسية داخل الحزب الجمهوري، والتي كانت متشككة في ترشيحه، وتوحيد أولئك الذين شعروا بالغربة بسبب الخطاب السياسي الديمقراطي والجمهوري التقليدي.
واللافت أن هذه الرؤية تكشف لنا بوضوح أن ترامب بلور حملته الانتخابية لعام 2024 لاستهداف الناخبين الذين أصيبوا بخيبة أمل متزايدة من الهياكل السياسية التقليدية. ووضع عودته للبيت الأبيض مرة ثانية كمواجهة ضد ما وصفه بأنه «مؤسسة فاسدة»، مدعيًا أن انتصاره «سيعيد أمريكا» لمواطنيها. ولذلك ركزت الحملة على عدد من القضايا الأساسية التي أكدت على موقفه المناهض للنخبة السياسية الأمريكية. فلم تستهدف رسائله الانتخابية الحزب الديمقراطي فحسب، بل أيضا أعضاء حزبه الذين وصفهم بأنهم شخصيات مؤسسيه تعيق جدولة أعماله. ومن خلال وصف نفسه بأنه مرشح «مناهض للمؤسسة» مرة أخرى، استدعى شكلا من أشكال الشعبوية التي ناشدت كلا من الجمهوريين التقليديين، والناخبين المستقلين الذين شعروا بالغربة من الخطاب السياسي السائد.
وترتكز خطاب ترامب الاقتصادي حول «القومية الاقتصادية» التي تركز على إعادة الوظائف للولايات المتحدة، والحد من الاعتماد على الاقتصادات الأجنبية، وانتقاد الاتفاقيات التجارية القائمة مثل نافتا.
كما وعد بإعطاء الأولوية للعمال والصناعات الأمريكية، على عكس السياسات التجارية التي جادل بأنها تركت العمال ضعفاء، وهو ما يتعارض مباشرة مع تركيز المؤسسة على العولمة والتجارة الحرة. وقد كانت لرؤيته القائمة على «القومية الاقتصادية» صدى لدى الناخبين في المناطق الصناعية الذين شعروا بأن الإدارات الديمقراطية والجمهورية السابقة تخلت عنهم، والمعارضين للسياسات الأمريكية في الخارج والمرتبطة في كثير من الأحيان بالنخبة السياسية.
وقد ارتبط بذلك دعوات ترامب لتخلي الولايات المتحدة عن الالتزامات التي تثقل كاهلها، وتفرض ضغوطًا على دافعي الضرائب من الأمريكيين، والتي تؤيدها النخبة المؤسسية الأمريكية لحماية النظام الدولي الليبرالي الذي لعبت واشنطن الدور الرئيس في تأسيسه في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945، وما فرضته من عبء مع استثمار الإدارات الديمقراطية والجمهورية المتعاقبة الكثير من الموارد والاهتمام لحماية وصون الأمن والاستقرار الدوليين، بينما يستفيد خصوم ومنافسو الولايات المتحدة من ذلك بدون تحمل أي تكلفة، وبما يساعد عديدًا من الدول، ولا سيما روسيا والصين، على بناء قوتها لتصبح راهنًا قوة متحدية للولايات المتحدة.
ويضيف إلى ما سبق، لقد استغل ترامب تنامي تيار بين الناخبين الأمريكيين يرفض رؤية التيار المؤسسي والنخبة لدور أمريكي أكثر تدخلا في الشؤون الدولية وإعادة بناء الدول، في مقابل تدهور الأوضاع الأمريكية الداخلية وتراجع مستوى الخدمات والبنى التحتية، للترويج لشعار «أمريكا أولاً» الذي لاقى قبولاً واسعًا من قطاع كبير من الناخبين الأمريكيين.
وناشدت رسائل ترامب الانتخابية الناخبين الذين شعروا بأن القيم الأمريكية التقليدية تحت الحصار من قبل الليبرالية، التي تروّج لحقوق المثليين والإجهاض، والهجرة وسياسات الهوية، والقضايا الثقافية التي دفعت عديدًا من الأمريكيين للشعور بالغربة؛ بسبب تغيير المعايير الاجتماعية، وقد استغل ترامب ذلك لتعزيز فكرة أنه وحده يمكنه حماية الهوية الأمريكية، وهو ما ربطه بمواقفه المتشددة من الهجرة، واقترح بناء جدار على طول الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، وتنفيذ ضوابط أكثر صرامة على الهجرة.
ولاقى هذا الموقف قبولاً متزايدًا بين الناخبين المهتمين بالأمن القومي والتغيير الثقافي، وتحدى ترامب بشكل مباشر سياسات الهجرة الأكثر اعتدالاً التي تفضلها المؤسسة السياسية الأمريكية.
وطوال حملته الانتخابية لعام 2024، واجه ترامب بقوة وسائل الإعلام الرئيسية، ووصفها بأنها متحيزة ومتواطئة في الترويج لروايات المؤسسة كما فعل خلال حملتيه الانتخابيتين السابقتين. وأكد هذا العداء تجاه وسائل الإعلام على التزامه بأيديولوجيته الشعبوية، وتعزيز قدراته على التواصل المباشر مع مؤيديه من خلال منصات التواصل الاجتماعي في تخطي لوسائل الإعلامية التقليدية.
ومن خلال التحكم في روايته الخاصة والانخراط مباشرة مع المؤيدين، تمكن ترامب من الحفاظ على وجود دائم في الوعي العام وتشكيل الخطاب السياسي بشروطه الخاصة، وهو ما تردد صداه بين العديد من الأمريكيين الذين سئموا من الصواب التي تروج له وسائل الإعلام التقليدية، ووصاية النخب الأمريكية.
وغالبًا ما استخدم ترامب ألقابًا مهينة لخصومة ومنافسيه، وعبارات مبالغ فيها للفت الانتباه وإثارة ردود الفعل. وفي حين أن هذا النهج كان استقطابيًا، فإنه أثبت فعاليته على التغطية الإعلامية وكسر معايير الخطاب السياسي، ما عزز من صورة ترامب كشخصية مناهضة للمؤسسة واستعداده لتحدي الوضع الراهن. وكثيرا ما استخدم لغة «تشيطن» المؤسسات الأمريكية مثل الكونجرس ووسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية، وهي كيانات ينظر إليها تقليديًا على أنها ركائز الديمقراطية الأمريكية. ومن خلال تصويرها على أنها «فاسدة» وتخدم مصالح أعضائها، زرع ترامب عقلية «نحن ضدهم» التي حفزت قاعدته الانتخابية.
وفي مقابل ذلك، يقول على الرغم من نجاح ترامب في الاستفادة من تنامي السخط بين الناخبين للمؤسسة والنخبة الأمريكية والتي مكنته من الفوز في الانتخابات الرئاسية لعامي 2016 و2024، فإن العمل على تعزيزه يفرض العديد من التداعيات السلبية على مستقبل النظام السياسي، وتراجع النموذج الأمريكي.
إن أبرز أهم عواقب استثمار ترامب في التيار المناهض للمؤسسة تتمثل في زيادة الاستقطاب داخل المجتمع الأمريكي. فلم تظهر الانقسامات التي تفاقمت خلال فترة رئاسته الأولى في الصراع الحزبي فقط، بل أيضا في الاستقطاب الاجتماعي على أسس عرقية. وغالبًا ما كان الخطاب الذي استخدمه عنصريا، وأجج المشاعر القومية التي يتردد صداها مع شعور شرائح من الأمريكيين بالتهديد من التحولات الديموغرافية التي تشهدها الولايات المتحدة مع تنامي موجات من الهجرة. ورغم أن استهداف ترامب للمؤسسات والنخبة الأمريكية وهجماته المتكررة على وسائل الإعلام باعتبارها «أخبارًا مزيفة»، ورفضه للأحكام القضائية التي تتعارض مع أجندته قد أسهمت بصورة رئيسية في فوزه في 5 نوفمبر، فإنها تسهم في تعزيز مناخ من عدم الثقة تجاه المؤسسة الديمقراطية، وتقويض الضوابط والتوازنات التي تعد السمة الرئيسية لنظام الحكم الأمريكي، وتفرده عن الأنظمة الديمقراطية الليبرالية الأخرى التي لها باع طويل في الدفاع عن القيم الليبرالية والديمقراطية.
ويرسخ انتصار ترامب للشعبوية داخل التيار السياسي الأمريكي، مما قد يشجع الشخصيات السياسية الأخرى على اعتماد لغة مماثلة مناهضة للمؤسسة. ويمكن أن يؤدي هذا التحول إلى إعادة توجيه السياسة الأمريكية بعيدًا عن الحكم القائم على توافق الآراء ونحو أطر أكثر تصادمًا واستقطابًا.
خلاصة القول، عكس انتصار ترامب رفض الناخبين الأمريكيين للنخب التقليدية، والدعوة إلى العودة إلى القيم الأمريكية التأسيسية كما يرونها. ويمثل لحظة حاسمة في الصراع المستمر بين الشعبوية والنخبوية في الولايات المتحدة. ويبقى التساؤل الذي يشغل الكثيرين داخل الولايات المتحدة وخارجها حول ما إذا كانت الديمقراطية الأمريكية تستطيع التكيف مع تيار ترامب أو مقاومته، هو الفيصل في تحديد مستقبل الولايات المتحدة خلال السنوات الأربع لدونالد ترامب في البيت الأبيض.
في مقال سابق عنوانه «الدولة العميقة في الولايات المتحدة»، قلنا قبل أن يتولى ترامب الرئاسة عام 2016، لم يعارض ما يسمى الدولة العميقة، لكنه يعارض استخدامها ضده وضد جماعته. فالأجنحة التي يمثلها الرؤساء الذين خدمهم مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي السابق جيمس كومي. أي الأجنحة التي مثلها بوش وأوباما. ويعرف ترامب أنه في حال تمكنه من تنصب أفراد من مناصب رئيسة في مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة الاستخبارات المركزية ووزارة الدفاع الداخلي وغيرها من الوكالات (الأمنية والعسكرية)، فإنه سيتمكن هو وخلفاؤه من استخدامها ضد خصومهم. وهو لا يختلف في هذا عن أي رئيس أمريكي آخر، فهو يدرك من يسيطر على الدولة العميقة يسيطر على الولايات المتحدة. فالصراع الذي نشهده بين المؤسسات الحكومية ليس سوى جزء من صراع نفوذ بين نخب السلطة الأمريكية.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي