|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
محمود شقير
2024 / 11 / 29
26
نظّم أحد الزملاء حفلة في الطابق الثامن، في الفسحة المقابلة للمصعد. تجمّعنا هناك، ثمة موسيقى تنطلق من مسجل. جاء بيتر نازاريث وزوجته ماري،
استمعنا إلى الموسيقى ثم رقصنا. رقص بيتر مع زوجته ماري. كانت له روح اجتماعية مرحة. رقص بحركات بطيئة هادئة تليق برجل تجاوز الستين من العمر. رقصتُ مع ماري وكانغ، ماري ترقص جيداً، كانغ وأنا لا نجيد الرقص.
رقص الكاتب المولدافي بأسلوب صاخب، ورقصتْ آيتي رقصاً أنثوياً لافتاً للانتباه. (آيتي أهدتني قبعة من قش تصلح للطقس المشمس الحار، أهدت بقية الزملاء والزميلات هدايا بسيطة مناسبة) الكاتب النيبالي، مينت، رقص أيضاً، أتحفنا بحركات مضحكة أثناء الرقص، ما أدى إلى اندلاق شعره الأشيب الغزير فوق عينيه.
يوراتا اللتوانية لم ترقص. بدت متحفظة متهيبة. ظلت تلوب حولي مثل طفلة مستاءة من شيء لا تستطيع معرفته أو تحديده. قلت في نزق مشيراً لها بيدي: اجلسي. جلست إلى جواري، ولم أبادلها أي كلام. (أمها كانت من أقطاب المعارضة للنظام السوفياتي! طبعاً، ليس لهذا السبب لم أبادلها الكلام، إنما لأن صوت الموسيقى كان يطغى على كل شيء سواه)
عدنا إلى غرفنا بعد انتهاء الحفلة، كنا ندرك أن تجمعنا المؤقت سوف يتحلل بالتدريج إلى أن يتلاشى مع تعاقب الأيام، وكان ذلك محزناً إلى حد ما. الساعة الآن الثانية عشرة والنصف ليلاً. الطقس بارد في الخارج، الريح العاصفة تبدو أقل حدة مما كانت عليه طوال ساعات.
27
اليوم هو الأحد.
عدت مساء أمس من لاس فيجاس.
ركبت الحافلة وذهبت إلى مجمّع تجاري كبير في بلدة كورال فيل، اسمه "كولاريدج مول".
تجولت في المحالّ التجارية بضع ساعات، سلع كثيرة متباينة الأسعار تطل بأناقة من وراء الفترينات، اشتريت هدايا للأهل وللأقارب وللأصدقاء، تناولت وجبة الغداء في مطعم للوجبات السريعة، ثم عدت إلى أيوا.
شعرت بألم في قدمي اليسرى، ربما من كثرة المشي أثناء النهار في المجمّع التجاري. نقعتها في الماء الساخن على أمل أن يخف الألم، لكن من دون جدوى.
صباح اليوم التالي، أخذني بيتر نازاريث وزوجته ماري في سيارتهما إلى صيدلية في المدينة. اشتريت ربطة من قماش. كانت كانغ معنا، جلستُ على أحد مقاعد متجر "أولد كابيتال مول"، وقامت كانغ بلفّ قدمي بالقماش، شكرتها على موقفها الإنساني، وشعرت ببعض التحسّن، لكنني ما زلت غير قادر على المشي بشكل طبيعي.
في اليوم التالي، استمر الألم ولم يتوقّف. وضعت لي كانغ ربطة أخرى على قدمي. شعرت بشيء من الراحة. كم هي طيبة هذه المرأة الشابة! كم هي أليفة، اجتماعية، محبوبة من جميع الزملاء والزميلات! (لم يمنعني الألم من الانهماك في تنظيف المطبخ والحمام وغرفة النوم، تمهيداً لمغادرتها وهي نظيفة تماماً)
28
آخر كتاب قرأته في السكن الجامعي هو لاتيرنا ماجيكا "الفانوس السحري" لإنغمار بيرغمان. هي سيرة ذاتية كتبها المخرج السينمائي مدوناً تفاصيل حميمة، صريحة، وجريئة من حياته. (لفتّ انتباه كانغ إلى أهميّة الكتاب فقرأته وأعجبت به) قرأت له من قبل روايتين ولم أتحمّس لهما.
آخر أنشطتي العامة، ندوة في أيوا حول الوضع السياسي الراهن في فلسطين، أمام حشد من الرجال والنساء المنضوين في عضوية أحد النوادي. وندوة أخرى في كلية هاملتون في مدينة سيدار رابيدس، أمام حشد من طلاب الكلية وطالباتها، وبحضور بعض الطالبات والطلاب العرب والفلسطينيين الدارسين في الجامعة، الذين جاءوا خصيصاً تعبيراً عن اهتمامهم بي.
دُهشت حينما لاحظت أن بعض الطلبة الأمريكيين لا يعرفون شيئاً عن فلسطين! بدا ذلك واضحاً حينما أنهيت مداخلتي ورحت أتلقى أسئلة الطالبات والطلاب. شرحت لهم بعض الحقائق التاريخية التي يعرفها الداني والقاصي، كما لو أنني في حصة مدرسية.
29
ذهبت أنا وكانغ إلى مكتبة الجامعة لمشاهدة بعض أفلام الفيديو.
شاهدت فيلم "ديكاميرون" لباولو بازوليني. الفيلم يعرض حكايات من القرن الرابع عشر، ولا يخلو من طرافة وتسلية. انشغلت كانغ بمشاهدة أحد الأفلام.
غادرنا المكتبة، ذهبنا إلى مطعم فيتوس الذي يقع في مركز المدينة، المطعم يملكه عرب جزائريون، يقدمون وجبات طيّبة من الطعام.
تناولنا طعام العشاء وتحدثنا في شؤون عديدة. قالت كانغ: أصبحت أعرف أشياء عن فلسطين، لم أكن أعرفها من قبل. أشعرني كلامها بطمأنينة ما، وكنت أكنّ لها ودّاً خالصاً.
في طريقنا إلى السكن الجامعي، دخلنا مكتبة للبحث عن كتاب يتحدث عن عقائد الهنود الحمر، طلبته الزميلة الكاتبة ليانة بدر، كنت بحثت عنه في مكتبات أخرى من دون أن أعثر عليه. لم أعثر عليه في هذه المكتبة أيضاً.
اتجهنا إلى موقف الحافلات. الأضواء الملتمعة في انتظار عيد الميلاد، المثبتة على جذوع الأشجار وأغصانها، تضفي على المدينة رونقاً وغموضاً. كان الطقس بارداً، وثمة ضباب يتكاثف فوق البيوت والأشجار وحول مصابيح الشوارع. أيوا تبعث على التأمل في أول هذا الليل.
30
اليوم هو الأحد (22/11/1998)
ها هي ذي الرحلة قد وصلت إلى نهايتها، كما يحدث دائماً.
هاتفتُ عدداً من الأقارب والأصدقاء هنا في الولايات المتحدة، هاتفتهم لكي أودّعهم. كان الوداع مشحوناً بمشاعر دافئة، كما يحدث عادة في مثل هذه اللحظات.
جاءت كانغ واشتركت معي في لملمة كتبي وأشيائي. كانت صامتة هادئة، تنطوي على قدر كبير من رجاحة العقل، التي تليق بامرأة ما زالت في الثامنة والعشرين من عمرها.
غادرتُ السكن الجامعي في مدينة أيوا الساعة الثانية عشرة ظهراً. (الغالبية العظمى من الكاتبات والكتاب غادروا قبل ذلك) كنت حزيناً بعض الشيء، لأنني أغادر أشخاصاً لهم خصال أليفة محبّبة، وأماكن ظلت تتسرب إلى داخلي حتى أصبحت جزءاً مني.
كان البروفيسور بيتر نازاريث وزوجته ماري في وداعي، وكذلك كانغ وبرناردو. ساعدوني مشكورين على حمل حقائبي الثقيلة، ونقلها من الغرفة إلى السيارة التي تنتظر عند مدخل السكن. آه! كم أتضايق من حقائب السفر!
الطقس في أيوا هذا اليوم أمْيَل إلى البرودة، غير أن الشمس تسطع في السماء. هبطتُ درجات السكن الجامعي لآخر مرّة وأنا أرتدي معطفي الصوفي، وأمشي بقليل من المشقّة بسبب الألم الذي لم يغادر قدمي.
كانت لحظة الوداع مؤلمة. تجيش نفسي بمشاعر متضاربة. يحدث معي الشيء نفسه كلما غادرت بلداً وأصدقاء. أحزن لمجرد تذكّري أناساً فارقتهم، وأفرح لمجرد تذكّري أناساً آخرين لن ألبث أن ألقاهم. إنه سحر الحياة التي نحياها في ألم حيناً وفي مسرّة حيناً آخر.
وصلت إلى مطار سيدار رابيدس، جلست أنتظر الطائرة التي ستأخذني إلى مطار سانت لويس ثم إلى مطار نيويورك ثم إلى مطار اللد.
ها أنذا أجلس في صالة المطار، مسترخياً بعد إيداع حقيبتين كبيرتين داخل الطائرة. أجلس ومعي حقيبتان صغيرتان سأحملهما طوال الرحلة، أجلس وأنتظر. غداً، سأكون، من جديد، في الوطن. ثمة شوق يتنامى في داخلي للأهل وللأصدقاء، للأماكن التي غبت عنها زمناً.
وها أنذا أصعد إلى الطائرة ولسان حالي يقول: وداعاً يا أيوا، يا ماي فلور، يا غرفتي الهادئة في ماي فلور، وداعاً يا أصدقائي الذين تركتهم هنا ولن أنساهم.
انتهى
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |