|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
الحسين سليم حسن
2024 / 11 / 13
القمع
رواية
توطئة
نحن الآن في بدايات عام 2024 في سوريا وها أنا أكلمكم من غرفتي الصغيرة في اللاذقية ، الكهرباء مقطوعة وشبكة الانترنت كذلك ، وشجرة عيد الميلاد دون أضواء .على الطاولة أمامي مجموعة أعداد قديمة من مجلة دبي الثقافية تعود إلى زمان فات وولى قبل أن تختفي الثقافة الحقيقية كجزء من حالة العدم التي أطاحت بالبلاد ، والتي هي نتيجة حتمية لخمسين عاما" من الواحدية .
لقد نهشتنا الواحدية على نحو أكاد أجزم فيه أن أكثر ما يدمر الإنسان والحضارة هي الواحدية ،وأن أسوأ أنواع الديكتاتوريات هي ديكتاتورية الحزب الواحد ،لأنها تشمل في مضمونها جميع أنواع الديكتاتوريات ،الدينية منها والعسكرية .
أمامي أيضا" مجموعة كتب لجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ،أحتفظ بها منذ الصغر ،حين كانت الثقافة القادمة من لبنان مرحب ومؤهل ومسهل بها وليس قبل أن تمنع السلطة هنا حتى القنوات التلفزية اللبنانية لكونها بعيدة عن ثقافتنا في رأيها .
(مبادئ دخيلة، ترويج للشذوذ والانحراف والمثلية) كما تصدح به خطب الجمعات على شاشات التلفاز عبر القنوات المدعومة بمال المحافظين .
الديكتاتورية الدينية أخطر من الديكتاتورية العسكرية ،يقول أدونيس ،لكن ماذا عن ديكتاتورية تجمعهما معا" ؟ مزيج من ديكتاتورية الحذاء والنص الديني،توتاليتارية تجمع بين هتلر وستالين مع نفحة من فاشية موسوليني ،وماداعش سوى انعكاس لها في المرآة .
لدينا داعش وفي أفغانستان طالبان ،ثم نتصل بإيران ونطلب منها المساعدة ، إيران تعدم معارضيها أيضا ! ألم تسمع السلطة بذلك ؟ وبفتوى الخميني والتي تقضي بهدر دم الكاتب الهندي البريطاني سلمان رشدي ؟ إذا" أي ديكتاتورية نحن يا أدونيس؟
إنها سلطة العدم يا صاح ،هيرودوس الذي لايقبل بزمان غير زمانه ،ونحن الشعب نصلب، وباراباس يطلق سراحه .
كم نحتاجك يا أدونيس،أنت وجورج طرابيشي ،نحتاج الفرد السوري الحر والمثقف ،لم مصير الفرد الحر في بلادنا النفي والبعد عن الوطن ؟
الفرد الحر المعتد بنفسه الآن يقتل ويسرق ويغتصب ويتعاطى الحشيش ،هذا هو نموذج الحرية السائد في أسخف أوجهها ،كما نموذج الفن المنحاز الذي يطبل للسلطة ، والذي ملأ مسارحنا وشاشاتنا السينمائية .فنحن هكذا ،لا نحترم الفن إلا حين يقود إلى غاية أو هدف ما ،مال أو مكانة اجتماعية أو شيء من هذا القبيل ،وهذا ما رسخه فينا حكم الحزب الواحد بعدائه للثقافة والمثقفين .
الإعلام كاذب ومنافق ،ويصر على الاستمرار في كذبه رغم أنه يعلم بأن أمره مفضوح .
والفن التشكيلي ،واحسرتاه على الفن التشكيلي ،وسط كل هذا الدمار والدم .ولو أن بيكاسو كان على قيد الحياة لغير حتما" عنوان لوحته (الجورنيكا) إلى سوريا .
ما حاجتنا إلى الفن النخبوي ،طالما أننا نأكل ونشرب وتتزوج نسوة محشوات بالبوتوكس يا صاح ؟
تقول إحدى صديقاتي النازحة من مخيم اليرموك في دمشق وهي تخرج صورة لعازف بيانو يعزف وسط الركام والرماد (هذا هو الفن في أبهى وأصدق صوره وأنت تتحسر على الفن التشكيلي يا صاح ، لقد عجز الأدب الروسي عن التعبير بشكل أفضل) .
إحدى القنوات التلفزية الموالية للسلطة تعرض الآن مسلسل (رجال العز) وفي المساء ستعرض (المال والبنون) ونغرق نحن في الظلمة ،كما غرقنا في السلع التجارية .
فحين يفلس المرء فكريا" ،يبدأ بالاعتقاد بأن كل شيء قد يحل بالمال ،وقد ينطبق هذا الحال على مجتمع بأكمله أو بلاد بكاملها وليس على فرد واحد .
حين بدأت الحرب الأهلية خرجت لنا الإيديولوجيا الإسلامية لتخلفنا عن ركب الحضارات ،فقتلت وأحرقت وهدمت المدن وقطعت الشجر وخربت آثار البلاد ،فنزح البشر عبر الحدود ، وفروا مهزومين في القوارب المطاطية عبر البحار هربا" من براثن الإرهاب .
ثم سرعان ما تحولت السلطة إلى أداة قمع لكل أنواع المعارضات لتحافظ على زمانها الخاص ،زمان يستحوذ على كل الأزمنة ،كل الإيديولوجيات وكل الشرائع .لكنها لم تقمع سوى نفسها وقتلت أبناء طائفتنا العلوية التي أنتمي إليها (أين أنت يا بدوي الجبل ،أنادي عليك كما نادت المرأة المكلومة :وامعتصماه ) .
لكن من يقمع غيره يقمع نفسه أولا" دون أن يشعر ،ومن يعتاد على القمع ويرضخ له مصيره التحول إلى قامع ،فالقمع لا يولد سوى القمع ،كما الإرهاب لا ينتج عنه سوى الإرهاب .
كان البرلمان_ومازال_ يحتكره أصحاب الثروات و رؤساء العشائر الذين غالبا" يكونون من الأميين ، ،والسلطة في أيدي الضباط الكبار .
(كل الحق على أديب الشيشكلي فهو أول من رسخ الديكتاتورية العسكرية السورية حتى قبل حكم الحزب الواحد)هناك رأي يقول.
وابتدأت بعدها وعود الإصلاح ،أي إصلاح هذا والرؤوس تتدحرج في الشوارع ؟ وما كمية الجهل التي كانت تغرق فيها السلطة ؟
ثم خرج الشيوخ للوعظ والإصلاح الديني من الطرفين واقتصر خطابهم على الصوفية فقط ،لم يذكر أحد ابن خلدون وابن رشد وغيرهم من العقلانيين وكان هذا خطأ" فادحا" و زاد الطين بلة.
وزحفت الكتب الدينية إلى معارض الكتب في الجامعات والمراكز الثقافية التي صارت تصدح بأغنيات تبجل الفدائيين من الأحزاب الدينية التي تقاتل إلى جانب السلطة .
المسيحيون من الروم الأرثوذكس قاتلوا إلى جانب السلطة أيضا" ، في صفوف فرق الدفاع الوطني ،خوفا" من تمدد الأصولية الدينية أو رغبة منهم على التأكيد أن وجودهم راسخ في جذور هذه الأرض ،ثم دخلت قوى العبث والشر بحجة حمايتهم .
وعاشت القرى المسيحية الكاثوليكية على الحدود التركية تحت رحمة الإسلاميين ،ووضعت نساؤهم الحجاب رغما" عنهن ،وأصبح كل ما يتعلق بالمرأة وتصوراتها وأحلامها غير ذي أهمية ومهملا" ،حتى في مناطق السلطة العلمانية ،حيث لهثت النسوة والفتيات خلف عمليات التجميل وتكبير الصدر لإرضاء الذكر بحقن أردافهن وأجسادهن بالبوتوكس ،مستسلمات للزمن الذكوري الذي انبثق فجأة دون أية رحمة .
وما زلت أذكر ذات مرة حين كنت أتابع مسلسلا" يحكي قصة الفنانة اللبنانية صباح ،قالت لي إحدى صديقاتي في الجامعة : وكيف تتابعين مسلسلا" يحكي عن عاهرة ؟!!!
فضلا" عن النساء اللواتي اختطفن وسبين من قبل داعش ،واللواتي اغتصبن في جحور الإرهاب أو في معتقلات وسجون النظام .
عاد فجأة الحنين للماضي العثماني و مجد جهله حتى في الأعمال الدرامية واستيقظوا فجأة للحديث عن مجازر حماه بينما كان أناس الزمن الحالي يقتلون .
ثمة رأي يقول : (الشرق هو الآفة بأديانه وخرافاته وعاداته وتقاليده وتمجيده للعنف والمال)
وفي رأيي يجب أن يبقى ما نؤمن به من الغيب ضمن الغيبيات ،وما نعيشه من المعلوم والمدرك مفصولين ،أي يجب أن نفصل ما بين اللامعقول (الذي لا نملك القدرة على تفسيره ) ،ومابين المعقول (الواقعي الذي نمتلك القدرة على التحكم به ) ،ودون ذلك تبقى فكرة الإيمان لا معنى لها ،وتفقد مصداقيتها ،ونصبح لعبة في أيدي الخرافات التي تسيرنا كما ترغب وحينها سنصطدم بالواقع حتما" ، ولكن هذا الفصل لا ينبغي أن يكون فصلا" كاملا" ،وإنما من المستحسن أن نعتبر تلك الغيبيات بمثابة قصص وحكايات (من غير المؤكد صحة حدوثها) نتعظ منها وتخدمنا في الحياة الواقعية،أي بمعنى آخر يجب أن تصبح تلك الغيبيات طوعا" بين يدينا نحن ،وتصبح مفهومة ومنصهرة في دواخلنا ،حتى نصبح أسيادها ونتحكم نحن بها ،بدلا" من أن تحكمنا هي ، وبذلك يحقق الإيمان غايته الأسمى في رأيي ،وهذا الكلام ينطبق على كل ما يفرض علينا في الحياة فرضا" وليس محصورا" في الغيبيات ،وكل ما نتربى عليه ونلقن به في الصغر ،او في جميع مراحل حياتتا وضمن أي مؤسسة أو مجتمع أو منظومة فكرية ،وبذلك نصبح قادرين على تحويل أي بروباغندا من شأنها استصغارنا ،إلى أداة قوة تسمو بنا نحو القيمة الإنسانية المرتجاة .
لكن ماذا عن بروباغندا السلطة بفكرها القومي القبلي والتي على الرغم من ظهور هويات وثقافات متعددة إبان الحرب_ ومنهم الأكراد الذين تدعمهم أميركا ويقاتلون داعش_ مازالت مصرة على أننا ثقافة واحدة ، يجمعنا تاريخ واحد و هوية واحدة و مصير واحد و ولاء مطلق للحاكم الإله الذي يحتكر الدين والعلم و الأخلاق؟
(الديمقراطية لن تجلب إلا حكم الإخوان المسلمين ) تلك حجة السلطة ،لكن ها هم في مصر قد أطاحوا بالإخوان وتبين أنهم يقرؤون طاغور ونيرودا ،إذا" شعوبنا مثقفة إلا أن السلطات معتدة بنفسها ومغرورة،و لا تعترف إلا بمثقفيها ،الذين يحومون حولها .
المثقفون الحقيقيون وحيدون في المقاهي ملتزمين الصمت فالثقافة تسري في العروق ،لا يخطب بها اللسان .ولو أرادوا الكلام فكيف يتكلمون وتهمة الخيانة العظمى تلاحق كل من يدلي برأيه ؟ ،والمحاكم الميدانية تقرر أحكام الإعدام كما الآلة التي لاتتعب .وهذا إن دل على شيء فهو يدل حتما" على انتصار فكرة من قتلوا ،فحين تؤذيني ،لايعني هذا سوى أمر واحد ،هو انتصاري بفكرتي عليك .
ثم تخرج السلطة وتتحدث عن انحدار الغرب ، هل تعيش السلطة في الخيال ؟
وما نحن في نظر الغرب سوى شعوب آسيوية مثيرة للشفقة ،تعيش تحت رحمة الديكتاتوريات الدينية والعسكرية .
المعارضة المثقفة التي يعول عليها احتضنتها بيروت مع بداية الحرب،أما معارضة الداخل ،فقد قبلت بدورها البسيط لإسكات جوع ماضيها القمعي مع السلطة .
وسرعان ما انتفض القاتل الذي يسكن دواخل المعارضة الشرسة ،فالبؤس ربما يحمل في جعبته الأفكار الخلاقة كما في الثورة الفرنسية ،أما القمع فلا ينتج عنه سوى التشظي والانفجار .ثم يطلق البعض على ما جرى تسمية (الربيع العربي) ، عن أي ربيع يتحدثون ؟ ربيع يهدي وروده لمن يقتل ؟
ما الذي يعبر عن ما جرى لنا يا ترى ؟ الفلسفة؟ الشعر ؟ كوننا شعوب مقموعة حزينة ،أم الرواية الممنوعة عنا والتي توثق ممارسات وجرائم الديكتاتورية والإرهاب ؟ .وهل من توثيق ينفع والتاريخ تكتبه السلطة ؟
بالنسبة لي ،كنت أعلم مسبقا" أننا نعيش في بلاد تحكمها قوى الشر والجهل والظلام ،وكنت متمردة في جميع مراحل حياتي إلا أنني في خضم الحرب عشت في زمن شاعري يخصني وحدي ،وكنت كغريب كامو قد يقلق وحدتي ويقض مضجعي شعاع شمس حارق .
التزمت غرفتي ولذت بالشعر والرقص والموسيقى و روايات الطفولة _فحين يصعب الانتماء يبدأ دور الأدب _أمثال : (هايدي وتوم سوير) رامية" وراء ظهري صورة جان جاك روسو وعقده الاجتماعي البعيد كليا" عن بلادنا ، و كل حماقات الحرب ،عابرة" إلى الحياة من بوابة العاطفة .نعم ،فالكلام العاطفي هو الأصدق والأقرب إلى الواقع ،حتى ولو بدا العكس .
قبل الحرب اقتصر تعاطفنا فقط على الأعمال الدرامية التي اكتشفنا لاحقا" أنها كانت بعيدة تماما" عنا ،وكنا نتعاطف مع معاناة فلسطين وها هي فلسطين اليوم تدمر ونحن نوجه بنادقنا وطائراتنا وقذائفنا على أبناء شعبنا .
أما اليوم نجلس في المقاهي نعزف على العود ونغني حزانى،وغدونا مثقفين كوزموبوليتيين يثير مشاعرنا ما حدث في فرنسا من هجمات إرهابية ،بينما نتغاضى عما يحدث في بلادنا من موت ودمار،كما أجلس أنا في أحد المقاهي الثقافية الرخيصة مع صديق لي .
وتارة تنتابني رغبة كما بطلة رواية ذهب مع الريح لمارغريت ميتشل بأن أعود إلى منزل الطفولة الذي تهجرنا منه بفعل الحرب ،هناك في إدلب حيث تسيطر الجماعات الإسلامية ، والتي تهجرنا منها لكون جداي علويين، وأن أبدأ من جديد حتى لو اضطرني الأمر لقتل شخص ما كما فعلت بطلة الرواية .
لقد شكلت السلطة هذا الشعب كما ترغب ،وجعلت كل فئة وطائفة تختص في أمر معين ومن يتمرد على ذلك و يحاول أن يكون مختلفا" مصيره الإقصاء والنبذ أوالقتل.
ولعل أكبرمثال على الفرد المختلف ومعاناته هو ما نحن عليه في منزلنا ،حيث أعيش اليوم عاطلة عن العمل مع عمتي العانستين وعمتي الأرملة وعمي المنفصل عن زوجته ،خمسة سوريين ناجين من الحرب ،خمسة سوريين مختلفين ما زالوا محبين للحياة ومتمسكين بها ،في مكان وزمان لا يرحمان المرء المختلف .وهذه حكايتي مع القمع الذي أثقل حمولته فوق صدري،وسعي الدؤوب للتحرر منه وتنشق الهواء النقي بحرية من جديد.
_١_
حين ولدت توفيت والدتي بعد أيام ،فعهد أبي بتربيتي إلى شقيقاته غير المتزوجات في منزل جدي الذي يقع في بلدة على الحدود السورية التركية ،وهكذا نشأت في منزل كبير زاخر بالشخصيات الملونة ،وتسنى لي أن أعلم عن كل شيء ،بفضل ما يزخر به بيت برجوازي من أحداث وقصص وحكايات ،كأن أعرف عن الدين وقصص الأنبياء والرسل بفضل إحدى عماتي التي كانت تدرس التربية الإسلامية ،وعن الخرافات وحكايات البطولات من جدي وجدتي ،أما اخبار البلدة فقد كانت تأتي لنا بها عمتي الكبيرة التي تستيقظ صباحا" وتذهب للعمل ولا تعود إلا حين يأتي المساء ،لكونها قد تولت في الماضي مسؤولية إدارة أراضينا الزراعية ،أما قصص وأسرار البيوت فكانت من اختصاص عمتي التي عهد لها مسؤولية البيت .
وهكذا وبفضل الرخاء الذي كنا نعيش فيه تسنى لي التلذذ بتوسد الخيال كما يحلو لي ،لأنسج قصصا" أخرى غير ما يحدث حولي رغبة في صنع قصصي الخاصة تماما" مثلهم .
وكان ذلك في زمن كاد أن يتحول فيه حكم البعث وواحديته إلى دين ،ونمط حياة إلى درجة الخدر المطلق .
وبينما كنت أدرك ما يفعله البعث في الخارج ،كنت أواصل تلذذي في نسج الحكايات في منزل يحفز على الإبداع والمساءلة قبل أن يرضخ العقل للأفكار الجامدة الجاهزة التي تقاتل التميز وتحول الفرد إلى نعجة في قطيع .
استيقظوا في السابعة صباحا" ،هيا،الأمر للجميع ،حيوا العلم في المدارس ورددوا شعارات الحزب الواحد والوحيد ،هيا خذوا جرعتكم الصباحية من الخدر ،يمنع ارتداء أية ثياب أخرى سوى البذلة الرسمية الزرقاء القبيحة ،هيا بوجه صارم ومتجهم ،انصهروا في اليوم السوري على نحو يليق بعظمته ،وهزوا برؤوسكم موافقين على كل قرار أو اقتراح من الأشخاص المناسبين الذين وضعوا في أماكنهم المناسبة ،حتى لو تعلق الأمر بأن تبصموا على ورقة اقتراع أيا" كانت دون النظر إليها ،فهذا وحده ما سيضمن لكم قوتكم ،عماوتكم وحدها !
حتى لو وصل بهم الحد إلى تزويجك ربما على ذوقهم ،أو اختيار الفرع الدراسي المناسب لك ،فما من داع لأن تزعج نفسك وتسأل عما تريده حقا" ،فهم يفكرون ويقررون عنك مسبقا"،حتى لو أردت ،طريقة و طقوس صلاتك .
هيا عد إلى بيتك الآن ،ولا تقرأ ،فالعلم والثقافة خلقا فقط لتتوظف وتقبض راتبا" ،فالمال والبنون زينة الحياة الدنيا ،هذه الآية مناسبة لأفكار الحزب ،فلنحتفظ بها ،إلى جانب الأفكار التي جلبناها من كل حدب وصوب ولصقناها بالحياة اليومية ،بما يضمن تماشي الحزب مع التطور والتجدد ههههه !
احترام المرأة كذلك مهم ،فلتذهب إلى الاجتماعات الحزبية وتتشبه بالرجال ،نعم هذا يضمن قوة الدولة والحزب ،نعم فالأنوثة ضعف لا يليق بنا ، ولاتليق بنا النساء القطط المائعات ،كما لايليق بنا من يتشبه بالنساء ،تلك فكرة أخرى من الدين الإسلامي جيدة ومفيدة لنا ،فلندعمها ولنوافق عليها ! وأهلا" أيضا" بالمحجبة الشريفة الطاهرة .
إياك والتحدث في الطوائف ،فنحن كلنا طائفة واحدة ودين واحد وحزب واحد ،هيا حاول أن تنفض عنك كل ما تربيت عليه واستعد للولوج إلى منظومتنا الفكرية ،جنة البعث الأرضية ،وتذكر أننا قد حذرناك مسبقا" من عواقب العصيان .
هكذا كانت طفولتنا ،من لم يكن مع البعث ليس سوريا" ،وليس مسلما" سويا" وليس مسيحيا" مخلصا" للوطن ،وليس مثقفا" نافعا" ،وإنما غبي يضيع وقته في الترهات ،وليس رجلا" وإنما هشا" من فصيلة الرخويات .
الفعل ثم الفعل ثم الفعل ،اجتمع بنا وأعلن ولائك التام ،تملك الدنيا والآخرة ،انزوي بنفسك واقرأ كتبا" لا تمت لنا بصلة ،سنخونك ونسمك بصفة (الجحشنة) ،أو اللوطية أو الاخونجية .
لا تتعب نفسك بالبحث عن الشكل الصحيح للدين ،نحن أدرى بالشكل الصحيح للدين الإسلامي ،فنحن الدين نفسه ،ولا تتعب بالبحث عن أصلك وفصلك وقوميتك ،فنحن كلنا عرب ،وهذا فقط ما يشرف ،العرب الفحول الصناديد ،الشيء المضمون المحتم الذي يمكنك الإمساك به بين يديك ،في هذا الوجود المبهم .
هكذا عشنا طفولتنا في المدارس ،كنا مخدرين تماما" ولم نكن نعلم أن كل هذا يفعل من أجلهم فقط ،من أجل أن يضمنوا مستقبلا" جيدا" لهم ولجيوبهم وجيوب أبنائهم ،أولئك الذين كانوا يتشدقون لنا بشعارات الاشتراكية الزائفة .
ولم يكن من سبيل لأن نستيقظ إلا باستكشاف عوالم أخرى ،لمن يتسنى له ذلك ،مثلي أنا .حيث سمح وجودي في منزل حكاء ،إلى جانب الكتب والمجلات التي كانت تغرق علي بفضل رغبتي الشديدة وإصراري على توسد الخيال دوما" ،خيال مقاوم لفعل التنميط الذي يمارس حولي دون أن أدرك كنهه لصغر سني حينها .
كان في داخلي رغبة في بناء عالم من الخيال يخصني وحدي ،عالم بقواعد أخرى مضادة ،على الرغم من أنني كنت مستسلمة للدور الذي وضعوه لي ،متفوقة في دراستي ،بأنوثة مكبوتة ،ومنضمة إلى حزبهم دون أن أعلم ،ودون أن أوافق ! صامتة دوما" ،ألوذ بالخيال والفن علاجا" للكبت وحدة الرأي ومحاولات إعاقة المستقبل .
_٢_
سمعت اللبارحة أحد رجال السلطة يصرح (لابد من ايديولوجيا ، لأن مادونها تطرف ، ولكن أليس وجود حزب واحد في السلطة طوال خمسين عاما" هو قمة التطرف ؟ أليس إرهابا من نوع آخر يقتل الإنسان والحياة والإبداع وينتج الإجرام والإرهاب .
ثم يصفق له أعضاء حزبه ، تخيلوا يصفق له الجميع ، وهو على غير دراية بأن المنتصر الحقيقي لا يصفق له أحد .
يصفقون له بينما تعتقل فتاة جامعية هنا في اللاذقية لإدلائها برأي على الفيس بوك ، والشرطة العسكرية ترتكب الفظائع بحق الشعب السوري ، تخيلوا وهم مازالوا يصفقون .
تقارير وتقارير تنشر عن الفظائع التي ترتكبها الشرطة العسكرية السورية ، وهم مازالوا يصفقون !
شهدت بنفسي إحدى هذه الانتهاكات حين رافقت أحد أصدقائي إلى شعبة التجنيد ،وتم حجزنا تحت أشعة الشمس الحارقة أمام مقرالشعبة بحجة الازدحام ، وراحوا يكيلون علينا بالخطابات الاستفزازية أمثال (أنتم شعب من الأبقاروالغنم ويجب زربكم تحت الشمس تماما" كالحيوانات ).وحين اعترض أحدهم كبحوا جماحه بشراسة فأطلق شتيمة على الحارس فقاموا بجره إلى مقر الشرطة العسكرية القريب متوعدين بتمزيق جسده .
كان منظرا" مرعبا " دفعني إلى التقيؤ ،في طريق العودة إلى الجامعة ، التي كانت بدورها يحرس مداخلها مجموعة من الأميين الذين لا يعرفون قراءة الإسم المطبوع على البطاقة الجامعية ، البطاقة الجامعية التي تعبر عن شخصيتنا في نظر عميد كليتنا الفيلسوف الحكيم ،هذا ما أفحمني به حين رأى بطاقتي الجامعية مهترئة في قاعة الامتحان !
تخيلوا أنا لا قيمة لي بدون تلك البطاقة التافهة ! هكذا تربينا ونشأنا ، على هذه الأفكار الفلسفية العظيمة ، أن بطاقة أهم منا ، نحن الذين من لحم و دم ، ومشاعر ، نحن الأرواح التي على صورة الله !
لا قيمة للإنسان في ظل هذا النظام الفاشي البعثي الجاهل ، وهذا ما أدركناه مذ كنا صغارا" ،حين ذات مرة دهس الموجه الرسمي في مدرستنا بقدميه طالبا"جزاء على ما تلفظ به لسانه من (تلطيشة) لإحدى الطالبات ، تخيلوا هذا السبب الخطير ؟! مراهق يمتدح صديقته ، ثم يستغربون كيف انبثقت داعش من صلب هذا النظام الأصولي القادم من الجحيم .
لذا ليس علي أن أتعجب من أن الطالب الذي احتل المرتبة الأولى في الجامعة لدينا كان يتحسس عندما نتحدث في شأن داعش ؟! تخيلوا من النخبة لدينا ؟!!
أو حين تابعت في الدراسات العليا كانت رئيسة البرنامج تتكلم أثناء المحاضرة عن حرق شياطيننا ! ما هذه النخبة المشرفة ؟! لقد نشروا القبيسيات والمعتوهين في صفوف التعليم العالي ، وهذه جاءت كخطوة تدميرية متأخرة لحكم البعث ،وذلك إبان تغير توزع الثروة و انتقالها إلى جيوب المحافظين (أي جيوب من قتل) ، وكان على النظام البعثي أن يرضيهم كخطوة حتمية للتماشي مع التجدد والتطور ههههه!!
الداعشيات يتسلمن المناصب التي لها مسؤولية تنشئة الجيل القادم ،وهنا في اللاذقية تعتقل امرأة فقيرة الحال تخبز الفطائر على التنور لأنها شتمت رئيس الدولة ، ثم عادت جثة هامدة ، مزرقة جراء تعرضها لتعذيب جسدي رهيب .
ثم يأتي أبناء الضباط الذين تربوا بين المحافظين في دمشق ، ويتعاملون مثلهم كما لو أنه هذا هو التطور الجديد الذي عليهم أن يتماشوا معه ههههه، وينظرون باستعلاء إلى أبناء بيئتهم الحقيقية التي خرجوا منها ،بنظرة من ملك الحقيقة المطلقة التي جلبوها من بيئة الحيتان المحافظة في العاصمة العظيمة (لكنها أكثر مدن سورية تخلفا") ،ويتحولوا إلى حيتان أشد شراسة منهم ،وثمة منهم أطباء وصيادلة و من نخبة المجتمع كما يظنون أنفسهم .
هكذا عشنا في الرعب ، نحسب لكلماتنا ألف حساب ،نحن النخبة المثقفة ،نكدح بضراوة لنعيش وسط هذه الهيستيريا الدينية العسكرية ،وسط هذا الانعكاس البراق لداعش ،والدليل على ذلك أنهم يعفونك من الخدمة الإلزامية لو أصبحت رجل دين ،إذا" لديك خياران لا ثالث لهما لكي يكون لديك قيمة في المجتمع من منظورهم الضيق الأفق ،عليك أن تقرر كي يعرفوا كيف سيتعاملون معك بحيث يضمنوا خدرك المطلق ،لضمان بقاء الحكم المطلق في أيدي أصحاب الحكم المطلق !
(هل علي أن أنافق وأتحول إلى رجل دين كي أنجو من الخدمة الإلزامية ؟!!! يالهذه السخافة ) يقول أحد أصدقائي من النخبة المثققة
ولم يكن في أيدينا سوى أن نصمت ( وخصوصا"الإناث منا)كي نستمر في العيش ،وأن نستوعبهم على عقولهم التافهة ،بعقولنا الغارقة بين الكتب ،وبكل ما هو جميل ومضاد لظلامهم ، مثل أوراق هشة تقاوم زوبعة محملة بالحجارة القاتمة ،كي لا يسحبنا تيار التفاهة كما سحب الأخريات ،أولئك اللواتي بعن أنفسهن للعهر المغلف بالدين والشرف أو الوطنية ،أو اللواتي بعن أنفسهن للزمن الاستهلاكي التافه الذي نعيشه .
وهذا في رأيي لا ضيرفيه ،فما المشكلة في الصمت ؟طالما أن الأنبياء والرسل والمفكرون العظام والفلاسفة خادعوا في موضع ما مجتمعاتهم العمياء التي عاشت في جهل، وظلم وظلام، دامسين .
(٣)
القمع يتغلغل في الأشياء، ويتسلل ليمارس سطوته حتى على المشاعر ،فمثلا" حين بدأت الحرب راحت القنوات التلفزيونية الموالية للسلطة تعرض أمهات استشهد أبناؤهن على أيدي الإرهاب الإسلاموي ،وهن قويات ثابتات يتمنين بكل ثقة بأن يقدمن بقية أولادهن فداء" للوطن !
ماهذه الوحشية بأن تحرم أمهات من الحزن على أبنائهن ،أي أم ثكلى تصرح بهذا مالم يتم تلقينها ماعليها قوله ؟،لقد جعلوا من الأمهات راضيات بوسام اخترعوه بأنفسهم وخدعوا الناس به .وأي أم تنسى ولدها الشهيد أو تصبح قادرة على التضحية بالمزيد ؟
نعم ،فمشاعر الأنثى غير هامة ويجب تحويلها فورا" إلى مشاعر وطنية ،أي مشاعر ذكورية .
كما النسوية التي بتنا نسخر منها إبان الحرب بعد تصاعد الأفكار الدينية والعسكرية ،وتم تغييب النسوية سواء من السلطة أو من الإرهاب الإسلاموي .
مع أن النسوية هي الفعل المقاوم الوحيد للتوحش الديني العسكري الذي يعيشه العالم اليوم ،وهي بمثابة رمز للدفاع عن الحياة والحق وعن الضعفاء ضد ثقافة الموت والباطل و طغيان القوي .
ثم تخرج السلطة وتصرح :لا يجوز لأي شاب أن يتخلف عن الخدمة العسكرية فهو بذلك يأخذ حق شهيد آخر !
ولماذا لا نعمل على درء استشهاد أي منهما ؟ في رأيي أقترح أن يتخلف الاثنان عن الخدمة ،وبهذا نحفظ حقيهما كليهما ،دون التضحية بأحد ،من أجل تصحيح أخطاء نظام بعثي فاشي وجاهل ،أو من أجل أن تزدهر وتنتفش قلة من الناس على حساب الآخرين و يروحون ويجيئون متباهين بخوائهم وسفاهتهم .
حين تخرجت من كلية الصيدلة عملت في إحدى الصيدليات في منطقة تدعى الزراعة ،والتي تعتبر وكرا" لأولئك الذين امتهنوا الإجرام والترهيب والدعارة لبسط نفوذهم ،وتعرضت لتهديدات كثيرة منهم داخل الصيدلية ،لمجرد عبوس وجهي مثلا" ،فقد كان لزاما" علي بأن أداعب خصاهم ربما ههه حتى أبدو لطيفة ،وأحيانا" بأمر من الصيدلانية المالكة هههههخخخخ!!!!
نعم فالمعتاد على القمع طوال خمسين عاما" ،لن يفهم بلغة أخرى سوى لغة (الفاعس والمفعوس) ،وهكذا نشأ أبناء هذه المدينة لايجرؤون على قول شيء ،نشؤوا على أنهم مسوخ بشرلا حقوق لهم سوى بالطاعة العمياء . ومهما حاولت تغيير قناعاتهم لن يسمعوا منك شيئا" ،فكما نعلم أن من أصعب الأمور في الحياة إقناع عبد بأنه ليس عبدا" ! أو إقناعه بأن لقمة العيش أو المال مهما بلغت وفرته لن ترفع من مستوى الإنسان الذي يقبل العبودية .
لقد زرعوا في قلوبهم القلق والحذر من الطوائف الأخرى ،فغدوا أكثر تدينا" وتعصبا" وخوفا" ،وهذا ما ناسب حكم البعث الحديدي ،وهذا ما أفضى لاحقا" إلى تفكك وتشرذم الشعب السوري وتقسيم البلاد كما حصل الآن ،وجهل كل طائفة عن الأخرى ، وطغيان الثروة لدى قلة قليلة من محافظين منافقين من كل طائفة .
أما نحن الذين تربينا على المبادئ التي جاءت في الكتب في بيوت دافئة حكيمة ، نحاول إيجاد العزاء تارة بالسفر ،وتارة بالخنوع التام لوحش رأسمال الحيتان الذين ظهروا بعد الحرب ،ثم نقف فجأة لننظر إلى أنفسنا ونرفض كل هذا وننفجر في وجه كل شيء ، ثم نستكين تارة لأقلامنا وتارة لذاكرتنا التي أرهقها القمع .
(٤)
مجتمع القمع الأصولي لا يتطور ولا يبدع ويكرر ذاته دوما" ،ولا ينتج سوى الأصولية سواء معه أو ضده ،ويصل حتما" إلى مرحلة شلل فكري واقتصادي ،تجعله بالضرورة مجتمعا" خاضعا" ،لا سيدا" لذاته ،ولا يملك سوى التعسف كوسيلة لإثبات نفسه .
وهذا هو حال المجتمع السوري إبان حكم البعث ؛القادم من بيئات أصولية إسلامية غالبا" ولذا نتجت عنه تلك المعارضات الدموية .
فمن المعروف عن الديكتاتورية في سوريا أنها ديكتاتورية الحزب الواحد إلا أن جذورها عسكرية بداية ثم دينية ؛ لأن حكومة البعث كانت دوما" حكومة تقدمية صارمة تصفق للأقوى ولمن يخدم مصلحتها وتدهس الأضعف دون رحمة .
فالديكتاتورية الدينية والديكتاتورية العسكرية كلاهما تنتجان عن خواء ما ؛فالأولى تنتج عن خواء عملي ؛والثانية عن خواء نظري ؛فما بالك لو اجتمع الاثنان كما في الديكتاتوريات الإسلامية ؛عندها سيحكم الواقع خواء عملي ونظري أي الوهم والمغالطات والحكم على الواقع كما هو هكذا بكل بلاهة ..لذا هذه الديكتاتوريات هي الأشرس والأكثر دموية والأخطر على الإطلاق ..
قد يخرج أحدهم ويعترض على هذا الرأي ويقول : لا نحن مشهورون بعلمانيتنا .أرد عليه : حين تبقى المبررات طوباوية ،فنحن مازلنا في مجتمع محافظ وأصولي مهما حاولنا إثبات تحضرنا وعلمانيتنا وتبجحنا بذلك …
مازال رجال السلطة يرتادون الجوامع ويهللون للأصولية الدينية ؛فأي علمانية هذه ؟!
إن أسخف أنواع النسوية والعلمانية هي التي ظهرت في سوريا إبان الحرب التي عصفت بها ؛ حيث يمكن وصفها بالتجارية البحتة والتي تهدر الأموال على أشياء فارغة وسطحية وتافهة ؛وهذا أحد أهم أسباب انهيار الاقتصاد فيها ..
هذا ما اختبرته في الأوساط الطبية التي عملت فيها هنا في مدينتي اللاذقية …
يحاول دوما" نظام البعث الفاشي استدراج المحافظين والتقرب منهم سواء من المسلمين أو المسيحيين ؛ولعل توجهه الشرقي الأرثذوكسي الجديد يعقب التوجه السني المحافظ لضمان قوة جديدة ترمم هشاشته الاقتصادية وكل ذلك على حساب الأقليات الدينية التي لم تنخرط في المؤسسة العسكرية.
ثم يقفزون إلى بعض المستشفيات ويصورون زياراتهم وهم يطلعون على أحدث التقنيات التي وصلت سوريا ؛كي نبرهن لأنفسنا أننا على مايرام وأننا أصبحنا دولة علمانية و متطورة ؛ دون أن نسأل أنفسنا من يستفيد من كل هذا ؟ وهل حقا" نخدم جميع الناس به ؛أو هو مجرد بريستيج يخدم القلة .
أكتب عن كل هذا بحزن ؛وأشعر أن أحدا" ما هو من يملي علي ما أكتبه ؛هل بدأت أؤمن أنا الملحدة ؛إيمانا" معزيا" كما يؤمن سكان هذا البلد ؛ الذين وجدوا سكينتهم في الإيمان الصوفي ؛كحل أخير لمقاومة حديدية نظام البعث وظلمه وظلامه .
(٥)
طوال سنوات حكم البعث لم ينتج سوى ثقافة اللامعنى ،كان يبحث دوما" عن الحياة الرخيصة مقابل الخلود ؛فسخف دور الإنسان وقدرته .لذا من غير المفاجئ عدم وجود الإنسان المبدع الخلاق في سوريا في ظل حكم البعث ؛سوى الموجودين خارج البلاد .والدليل أن الجميع يخططون مسبقا" للسفر ،كل متميز وكل مبدع يفكر في هذا كأولوية ، لأنه لا يثق في إمكانية الإبداع وسط الرعب والقمع .
لا يثق أحد منهم في إمكانية الخروج من الدائرة الضيقة التي رسمها البعث وحد بها مساحة التفكير وسخفها ،وقيد الحريات وأطاح بكل مختلف ومبدع حر .
نظام أصولي قادم من الجحيم ! أعيد وأكررها ؛حتى علاقات الحب لم تسلم منه .أي حب هذا ؟ لقد أصبح عبارة عن تجارة بحتة ،الزواج صفقة تجارية أما الحب الحقيقي فهو عهر في قاموس الأصولية البعثية .
الزواج من أجل المال ليس عهرا" وهذه الفكرة جاءت من الدين الإسلامي طبعا ، العهر هو الممارسات الجنسية خارج إطار الزواج !
لا حقوق للمثليين ، لا حقوق لمغايري الهوية الجنسية ،ثم نصفق وندعي أننا علمانيون .
عشت عدة علاقات مسمومة مع شبان نشأوا مع هذا النظام البعثي ؛وفي كل مرة كان ينظر إلي باحتقار إن لم أمارس الجنس فورا" ،حينها أوسم بصفة العاهرة واللعوب ، مع أنه حتى لو مارست الجنس كنت سأوسم بصفة العاهرة أيضا" .
فالمرأة عاهرة طالما أنها ضعيفة في ظل نظام فاشي يقدس الأقوياء ،وهذا يعود بالضرورة إلى أصوله الدينية .
إذا" علي أن أصرح ببعض أفكاري عن الدين ،لأنه في رأيي كل أنواع القمع أصلها ديني حتى القمع العسكري ؛وما لم ننقد الدين سنبقى ندور في دائرة مفرغة من القمع وتكرار أنفسنا .
يدهشني من يقول : أن الدين الذي تخلق عليه قدر ؛ ألم تخلق جاهلا" أميا" ومع ذلك تعلمت وطورت نفسك واخترت مهنتك؛ فلماذا اذا" لا تفكر في الدين وتحاول تجاوزه واختيار أفكارك بنفسك ؟!
لا أعارض أن الدين يجب أن يكون موجودا" في فترة من فترات الحياة ، لا خلاف إلا أنه لا ينبغي تقبله بعماوة فهذه أصولية ،الحقيقة الوحيدة في رأيي هي وجود الله ، وغيره كله من صنع ومزاجية البشر ، أي الأديان حسب بيئة و ظروف كل نبي نزلت عليه ،والله خلق لنا العقل ،لنتجاوز ونفكر ونختار القيم المناسبة لنا كل ما عرفنا أكثر وقرأنا نكتشف أن الدين وجهة نظرمن وجهات نظر مختلفة لذا الدين لا يناسب كل زمان والدليل أن أمور كثيرة موجودة في الدين تجاوزناها..وخصوصا" الدين الإسلامي..
و أكبر مثال هو المثليون،فالمثلية ممنوعة في الأديان إلا أنه في العالم الحديث والمتحضر المثلية موجودة والمثليون لهم حقوق .و لم يعد يعتبرونهم مرضى نفسيين كما يدعي البعض .ومن منا سليم نفسيا" مئة بالمئة ؟
أو مثال آخر :يحق للزوج أن يتزوج أربع نساء في الإسلام ؟ ألم يسأل أحدهم لم هذا الرقم بالذات ،لم أربع وليس خمس ؟! أو ثلاث أو مليون ؟!!!!!
لا يمكن الخوض في مسألة الدين مطلقا" في ظل نظام البعث الأصولي ،وهذا من أكبر أخطائه ،والذي جعلنا ندفع أثمانا" باهظة من دمار وخراب لبلادنا ،لأنه في عمقه أصولي ،و مناصريه من الأصوليين من كل دين .
_٦_
منذ صغري ،وحين كنت أهرب إلى الخيال والكتب ، كنت أحاول دوما" كتابة أدب نخبوي ، إلا أنني حالما تمشيت في شوارعنا التي تعيش تحت رحمة الديكتاتورية ،هزمني الواقع وافترستني الواقعية .
وهكذا كنت أؤجل كل بوح ،وأقرأ وأقرأ ،حتى تبرقشت بالأفكار والثقافات وانصهرت في داخلي وتوحدت لتتبدى أناي ،هكذا ،مختلفة في الوجود .
وحين عزلتني الحرب رغما" عني ،قررت أن أبوح ،متحدية الخوف شيئا" فشيئا" ،واكتشفت حينها أنني كنت أكتب كتبا" لأقرأها في أوقات وحدتي التي كثرت بعد الحرب والخيبة ،أو ربما كانت على الدوام كثيرة .
وحين نشرت أولى رواياتي ،جاءني النقد من كل حدب وصوب ،الشيوعيون وصفوها بعدم النضج ،والمحافظون استهجنوها وصدموا بها ،مع أنني جعلت من نفسي رقيبة جيدة على كلماتي ،الأمر الذي أنقذني من مقص الرقابة ،التي توصف على الدوام بالداعشية .
فها هم منذ أيام قليلة ،ألقوا القبض على أصحاب منصات اجتماعية بتهمة تقديم محتوى مسيء يتعارض مع قيم المجتمع السوري وتقاليده بحسب ذريعتهم !
نظام جاهل وسخيف وبمعاييره المزدوجة يعلم الكذب والنفاق ويشجع عليه ،فأن تحصل الأمور المسيئة للمجتمع في الواقع لا مشكلة ،بشرط ألا تظهر للعيان ،حينها يجب المعاقبة عليها هههههه!
حين يكون النظام فاشيا" وسخيفا" ،والرقابة داعشية ؛ والسلطة لا تملك شيئا" يعول عليه سوى سلطتها والكلام والكلام دون توقف بما يجعلها مثيرة للشفقة ،حينها يصعب البوح أو يؤجل بالضرورة .
وكيف نبوح ؟ وحتى مراسيم العفو لاتشمل المعتقلين السياسيين ،نعم لأن نظاما" أصوليا" لا بد من أن تكون عدوته الأولى هي الكلمة ، وأن يأخذ في الحسبان الأفكار أكثر من الأفعال ،وهذا كله مرده إلى أصوله الدينية الساذجة ،والتي تفضل الوهم على الحقيقة وتعيش في زمانها الخاص ووفقا" لأوهامها ومغالطاتها .
لذا كانت مدينة بيروت ملاذي للفرار ،لكي أكتب بحرية أكبر وأختبر ما في داخلي من أفكار مقموعة ولأكتشف ذاتي الأدبية وتمردات المعنى و الأسلوب والشكل فيها ، والتي لم أكن لأتمكن من اختبارها في ظل الديكتاتورية ،كون الإبداع يتعارض مع القمع ،ومع كل ما يحجم الإنسان و يسخف دوره وحتى يقتله أو يشوهه .
في بيروت ؛لم أكتشف ذاتي الأدبية فقط وإنما اكتشفت نفسي بكل ما للكلمة من معنى ،وأدركت كم أن الواحدية طمست هويتنا تماما" وصهرتنا في وعاء أفكارها المتعفنة والمقيتة والمحدودة .
_٧_
أصبحت (ادلب)_ حيث نشأت_ في قبضة الأصوليين وانهار الفكر فيها وحصر الجهل فقط في عدم المعرفة الدينية ! وحين يحصل هذا حتما" تبدأ معه الكوارث ، ويتحول البشر حتما" إلى وحوش ،بقلوب وعقول متحجرة،عمياء ،بفكر متعفن كريه .
وفي اللاذقية الخاضعة للنظام حيث جامعتي ومحطتي الأخرى نبتت أصولية أخرى من نوع آخر لا تختلف كثيرا" عن نقيضتها في ادلب .
فجميع المجتمعات الأصولية مصابة بنوع من البارانويا الجماعية ،مما يجعلها تعيش غالبا" في الوهم لا في الواقع ..
والإنسان المتعافي في مجتمعات مريضة يدفع أثمانا" باهظة ،لذا كان علي المغادرة .
شعرت حينما اختبرت بيروت للمرة الأولى ،بأنني في الجنة التي يتحدث عنها الأصوليون ،وأنني غادرت تلك السحابة المظلمة التي سجنت نفسي فيها ضمن حدود رسمها خوفي وكبريائي والرغبة بعدم التلوث بكل ماهو مدنس ،وأنني انكشفت للحياة والألوان وللأحلام البعيدة والهواء المنعش .
هذا حقا" ما شعرت به حينما سحبتني السيارة التي أقلتني إلى لبنان معها في دروب خلابة كدروب طفل يطير في عالم من سحر .
وحين كنت أجوب شوارع بيروت العتيقة بمفردي ، لم أكن أشعر بأنني أمشي وحيدة وإنما كان ينتابني شعور بأن كل من حولي هم مقربون مني ،أصدقاء أو أهل أو شيء من هذا القبيل ،وأن كل الشوارع والشرفات والبيوت كانت منزلا" وموطنا" لي ،وتؤهل بي على الدوام وكأنها بمثابة تعويض عن عمر بارد من القمع والعزلة المفروضة بلؤم وقسوة .
لقد عانقني البحر هناك ،وربت على كتفي ومنحتني الشوارع دفء شمسها الناعمة ،ولحنها البهيج المزركش كما لو أنه لحن قادم من زمن مابعد حداثي لم يولد بعد ،شيء يجعلك تعيش ربما في المستقبل ،أو في زمن يستوعبك ويحتويك وحدك ،جاعلا" منك أنت وحدك أسطورته وحكايته الفريدة .
أما بالنسبة لي فقد كانت بيروت أسطورتي التي نسجتها بنفسي ،حياتي التي كتبت أقدارها بحروف من كتب وشوارع ونسمات بحرية ،أو أصوات أناس وثقافات وزهور تصول وتجول في تدفق الذاكرة الغزير .
لقد كنت طفلة بيروت التي كتبت وعاشت مستقبلها المشرق المبتغى في اللحظة الراهنة ،اللحظة التي منحتها إياها تلك المدينة كهدية ثمينة جزاء لصبر عظيم ،وكان ما يجعل من تلك اللحظة أبدية و نادرة ومقدسة هو أنها حلوة على الدوام ،ومتجددة وبراقة كنجمة لا يمكن لضوئها أن يخبو .
وكيف يخبو ضوءها ؟ وهي التي تحضن كل أضواء الأزمنة وتتحلى بالقدامة والحداثة وما بعد الحداثة ،في شوارعها نفحة اليوتوبيا و أحيانا" شراسة الواقعية الشديدة وسحر الحياة المبتدعة ،لكنها دافئة على الدوام ولا تعرف التخلي أو التوحش وإن أرادت أن تعتد يوما" بنفسها و تقرر أن تكون أنانية فلا تفعل ذلك دون أن توزع جمالها وسحرها على كل القلوب ،لتبث فيهم من جديد الرغبة في الاستمرار ، وضحكة خفية لا تفهمها إلا لغة القلب ،الذي التأمت جروحه على يديها ،وأصابعها الخفية التي تكتب بكل اللغات وتمتطي أجنحة كل العوالم .
-٨
لماذا عدت إذن ؟ طالما أنك وجدت في بيروت وطنا" آخر ؟
أجيب بكل بساطة: عدت لأنني لم أقوى على مسامحة هذا النظام ،على كل ما فعله ببلدي .فالمسامحة الحقيقية لشخص لا تقود للعودة إليه بل إلى نسيانه ،وأنا لم أسامح ،لذلك عدت .
عدت لكي أنتقم ،أنتقم من النظام الأصولي و من أجهزته الظلامية ومن تجاره الحيتان،وكان أقوى انتقام هو أن أبقى في بلادي وأعيش إلى جانب المظلومين مثلي ؛أولئك الذين عاشوا غير مرئيين ،مهمشين ،سواء بقرار منهم ،أو رغما" عنهم هكذا قد أقوى على المسامحة يوما" .
وهذا ربما لم يحصل كثيرا" واقتصر فقط على بضعة مساندات لأناس هجرتهم الحرب أو سرقت منهم أهلهم ومن يحبون .
لكن ما اعتبرته دوما" أعظم ما قمت به كان ما حصل في تلك الليلة الشتوية المظلمة ،حينما كنت أستقل حافلة للنقل العام ، وأوقفتنا دورية ما ،لم أعلم لمن كانت تابعة ،شرطة أو أمن أو شيء من هذا القبيل ،وطلبت بطاقات الهوية الشخصية من الشبان الذين يستقلون تلك الحافلة .
حين اعترضت بعفوية دون حتى أن أفكر وتفوهت بكلمات حقيقية ،كسرت حاجز الوهم الذي اختبأت خلفه طوال كل هذه السنين :ولماذا ؟ هل ستسوقون الفقراء والضعفاء إلى الموت كعادتكم ،من أجل نظامكم الفاشي الجاهل؟
حينها غضب أحد عناصر الدورية وأمرني بتسليمه بطاقتي الشخصية بعد أن تعرف علي وأخبرني بأنه لو لم أكن الكاتبة المشهورة لاعتقلني .فمنحتها له بكل برود .
حين أدار العنصر ظهره ومشى باتجاه جهاز الكشف نزلت من السيارة ورحت أركض وأركض في طريق جانبية دون أن ألتفت لما تركته خلف ظهري .
كنت أشعر بأنني حقيقية مجددا" ،تعرقت كثيرا" وشعرت بسخونة العرق على جلدي للمرة الأولى منذ زمن بعيد .
كنت حقيقية دون أي خوف،والأهم من ذلك أنني كنت في أشد اللحظات من حياتي احتراما" فيها لنفسي .
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |