|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
زكرياء مزواري
2024 / 10 / 31
تعود جذور كلمة "الكانبو" المستعملة في الدارجة المغربية إلى الكلمة الفرنسية (aucun bon). وارتبطت هذه التسمية بسياق المجاعة التي ضربت المغرب خلال الحرب العالمية الثانية، بعد الدمار الذي لحق المستعمر الفرنسي واستيلائه على معظم المحاصيل الزراعية، الأمر الذي أحدث نقصاً حاداً في الغداء للمواطنين المغاربة. وهكذا، اعتمدت الإدارة الكولونيالية الفرنسية لتدبير الأزمة الغذائية نظام "البون"، حيث خصصت لكلّ مواطن حصة محدودة من الطعام. وعُرف هذا العام عند المغاربة ب "عام البون" (Année du bon)، كما أطلق على المواطن الذي لم يأخذ حصته من الطعام "أوكان بون" (aucun bon).
مع مرور الزمن، تطورت الكلمة في الاستعمال اللّغوي المغربي، وأخذت معاني جديدة تختلف عن أصلها الاشتقاقي، فصارت لفظة "الكانبو" مرادفة لكلّ شخص لا يعرف كيف يأخذ حقّه أو يدافع عن نفسه، كما باتت قرينة أيضاً بالإنسان السّاذج الذي يسهل التّلاعب به، والمغفّل الذي تنطلي عليه خديعة الشّعارات الرنّانة.
على هذا الأساس، يمكن توسيع دال "الكانبو" في سياق المجتمعات المتخلّفة التي ينخرها الفساد من القاعدة إلى الرأس على كافة المجالات والقطاعات، ليصير "ما صدق" الدال قادراً على إسماعنا تفاصيل الأشياء ورنّات الظواهر المحجوبة عن عموم النّاس. ولتقريب المعنى أكثر من المتلقي، سنأخذ حقلاً من حقول المجتمع المغربي وهو الحقل التعليمي، تاركين للقارئ الفرصة لإعمال عقله، والبحث عن تطبيقات ملائمة من عنده لهذا الدال.
في البداية ننطلق من خلاصة علمية توصل إليها الدرس الأنثروبولوجي في المغرب مفادها أن "المؤسسات حديثة، بينما العلاقات تقليدية"، لنبني عليها تحليل ما تمت ملاحظاته في السّياق التعليمي، وخاصة على مستوى البحث الجامعي الأكاديمي.
إنّ المؤسسات الأكاديمية التي تُعنى بالشأن العلمي، وتسعى إلى ضبطه وتقنينه، ووضع معايير وقواعد له، هي بنت التربة الحديثة. هذه التربة خلقت فصلاً صارماً بين الذاتي والموضوعي في إنتاج المعرفة، وعملت على فكّ شخصنة المؤسسة، وخلقت جماعات علمية صراعها حول الأنساق النظرية، وليس حول الحسابات الذاتية/النفسانية الضيقة. لكن، حين انتقلت هذه المؤسسات إلى المجتمعات الثالثية عبر بوابة الاستعمار، حضرت من ناحية الشّكل فقط، لتعبر عن درجة تحديث الدولة، وغابت عنها الوظيفة والفعّالية.
لذلك، لا غرابة إن رأينا امتدادات لذهنيات تقليدية في هذه المؤسسات العصرية، فطالب العلم مثلاً، إن هو أراد استكمال دراساته العليا، ينبغي عليه أن يمر بمجموعة من طقوس المرور؛ فشعائر سلك الإجازة تختلف عن سلك الماستر، وطقوس سلك الدكتوراه تختلف عنهما معاً، والطالب "المتفوق" أي "القافز" أو "الشاطر"، هو الذي يعرف كيف يسلك هذه المسالك، حتّى يظفر بأعزّ ما يطلب. أمّا إن أراد الظّفر بمناصب في السّدة العالية، فلتلك طقوس وشعائر أخرى ينبغي له أن يؤديها باحترافية عالية. وقد تطول الأمثلة كثيراً في رصد هذه السلوكات التقليدية داخل هذه المؤسسات "العلمية الحديثة" ك: إحياء علاقات الدم والقرابة والعصبية، أو استغلال تنظيم حزبي أو نقابي أو جمعوي معين، أو اتخاذ التملّق والمداهنة كوسيلة، أو تلبية الخدمات وقضاء الأغراض لأصحاب الحلّ والعقد...إلخ.
أمام هذا الوضع، نصير أمام لعبة اجتماعية داخل تنظيم المؤسسة "العلمية" حبكتها مجموعة من الأيادي الفاعلة، ويكون لزاماً على السوسيولوجي الكشف عن المنطق الثّاوي وراء هذه اللّعبة، إيماناً منه بقاعدة ابستمولوجية مفادها: "لا علم إلاّ بما هو خفي"، أي أن الحقيقة العلمية تكمن في تجاوز الظاهر المتّسم بالتنوع والتعدد إلى حد التعارض، والبحث عن السبب أو المبدأ أو "الأرخي" الكامن وراء ما يظهر. وهكذا، يُرفع القلق على الباحث وهو أمام متغيرات تابعة يبحث لها عن متغير مستقل، وبمجرد إمساكه بهذا الأخير، يستطيع نسج خيط ناظم يضفي به حالة النّظام على الفوضى التي كانت تشتت ذهنه.
على هذا النحو، يمكن تقسيم الطلبة الباحثين في الحقل التعليمي الجامعي إلى قسمين كبيرين: نطلق على الأول قسم "القافزين"، والثاني قسم "لكوانب"؛ الأول هو الباحث الذي عرف خيوط اللعبة في مؤسسته، وبموجبه يصير العلم عنده مجرد وسيلة للظفر بالشهادة الجامعية (الكارطونة)، إما رغبة منه في نيل وظيفة برقم تأجير سمين، أو بغرض التّرقي في سلم الوظيفة العمومية، لذلك تجده في الفترة التي من المفترض أن يخصصها لأطروحته بحثا عن المعرفة وتمشيطاً لرفوف المكتبات طلباً لتقميش مادته العلمية، يبحث عن تشبيك العلاقات وتوسيع دائرتها، وعياً منه أن الطريق الملكي للظّفر بأعز ما يطلب يأتي بهذا الأسلوب، ما دام الفساد بنية تسري روحها في كل المجالات. أمّا الصنف الثاني هو الباحث "الكانبو"، وهو غالباً ما تجده مخلصاً في طلبه للعلم، وذكياً على مستوى ربطه بين الأفكار أو بناء النتائج والخلاصات، وغارقاً وسط المعلومات التي جمّع مادتها الغزيرة ولا يدري أيّها يقدم أو يؤخر، لكن تجده في الغالب أيضاً ساذجاً في طريقة تعاطيه مع الواقع وفاعليه الاجتماعيين، فهو بحكم انغماسه الصادق في البحث، يستهلكه هذا الأخير ويبتلع كل زمنه، ويفقد معها بالتدريج المعايير السائدة في وسطه، وتغيب عنه معرفة الكثير من المياه التي تجري تحت الجسر.
هكذا، تنقلب القيم في المؤسسات العلمية، وتختل المعايير في سياق المجتمعات المتخلّفة، وتصبح حالة الأنوميا الاجتماعية التي تحدث عنها دوركايم كحالة من عدم الاستقرار وانهيار المثل العليا والأهداف هي السائدة، ويصير الباحث "القافز" قدوة للجيل الباحث الناشئ لأنه عرف من أين تؤكلإلى الكتف، بينما يتحول الباحث "الكانبو" (aucun bon) الذي يجهل قواعد اشتغال اللعبة، ولا يعيها إلا بعد فوات الوقت، إلى شخص مثير للشفقة سواء بجلده الدائم لذاته ولواقعه البئيس وتحسره على الوقت الذي قضاه في رسم أحلامه الوردية، أو من خلال تحوله إلى كائن "دوكنكيشوتي" شرسٍ يُحارب الطواحين الهوائية.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |