|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
جلبير الأشقر
2024 / 10 / 30
في تعليقنا على الضربة الانتقامية التي سدّدتها الدولة الصهيونية لإيران في 19 نيسان/ أبريل الماضي، نظرنا في الطبيعة المحدودة شبه الرمزية لتلك الهجمة، التي اكتفت باستهداف منظومة دفاع جوّي مكرّسة لحماية مفاعل تخصيب اليورانيوم الإيراني في نطنز. وقد فسّرناها آنذاك بأن حكومة نتنياهو آثرت «أن تؤجل موعد ضربة واسعة النطاق … نزولاً عند رغبة واشنطن ولاعتبارات اقتصادية وعسكرية ملازمة» تتعلّق بالتعويض عمّا كلّفه التصدّي للهجمة الإيرانية التي سبقت الردّ الإسرائيلي بستة أيام. وقد أضفنا حينها: «علاوة على ذلك، أشار الإعلام الأمريكي والإسرائيلي إلى أن الرئيس الأمريكي بايدن أعطى نتنياهو الضوء الأخضر للهجوم على رفح مقابل امتناع إسرائيل عن تسديد ضربة كبرى لإيران في الوقت الراهن. وهذا يشير إلى أن الدولة الصهيونية سوف تستكمل حرب الإبادة التي تخوضها ضد غزة منذ ستة أشهر ونصف، قبل أن تصبّ مجهودها العسكري على إيران وعلى ذراعها اللبناني، «حزب الله» وهو أمر محتوم.» («الهجمة الإسرائيلية المؤجلة على إيران»، 2024/4/23).
وهو ما حصل بالفعل، إذ إن قوات الاحتلال الإسرائيلية اجتاحت رفح في السادس من أيار/ مايو، ثم استكملت سيطرتها على القطاع وانتظرت انقضاء الفترة الصيفية قبل شنّ هجومها واسع النطاق على «حزب الله». وكانت إسرائيل قبل ذلك الحين قد صعّدت استفزازها لإيران باغتيالها إسماعيل هنية في قلب طهران في 31 تموز/ يوليو. فتردّدت إيران في الردّ على هذا الاغتيال لأحد حلفائها في عقر دارها إلى أن اغتالت إسرائيل حسن نصر الله في بيروت وبصحبته العميد في «فيلق حرس الثورة الإسلامية» الإيراني، عباس نيلفروشان، وهو ثاني عميد للفيلق تغتاله إسرائيل بعد محمد رضا زاهدي الذي قتلته في القنصلية الإيرانية في دمشق في الأول من نيسان/ أبريل، في العملية التي دفعت طهران إلى شنّ هجمتها الانتقامية الأولى على إسرائيل في 13 الشهر ذاته.
هذا وقد رأت طهران أن تصعّد نوعياً هجمتها الانتقامية الثانية على إسرائيل في الأول من الشهر الجاري باستخدام أوسع للصواريخ البالستية التي لا تستطيع القوات الصهيونية التصدّي لها جميعاً، وقد أطلقت منها حوالي 200 صاروخ (في نيسان/ أبريل، فلتت من منظومة الاعتراض الإسرائيلية 9 صواريخ من أصل 55 صاروخاً بالستياً دخلت الأجواء فوق تلك المنظومة – أنظر المقال سابق الذكر). كان التصعيد محتّماً بعد أن أخذت طهران تفقد ما كان لها من مصداقية، لا سيما في أوساط مناصريها من الشيعة العرب، واللبنانيين على الأخص. بيد أنها حرصت على إبقاء هجمتها هذه المرة أيضاً ضمن حدود لا تجلب عليها هجوماً إسرائيلياً واسع النطاق بمشاركة أمريكية مباشرة. وتعلم طهران أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن ليست في وارد المشاركة بمثل هذا الهجوم قبل الانتخابات الأمريكية، خشية من أن يرتدّ الأمر على نائبة الرئيس ومرشّحة حزبه، كامالا هاريس.
فقد أصرّ بايدن على نتنياهو كي تبقى الهجمة الإسرائيلية محدودة هي الأخرى بما لا يُلحق حملة نائبته بأذى. طلب منه تجنّب المنشآت النفطية الإيرانية خشية من أن تردّ طهران بما يعطّل تصدير النفط من الخليج برمّته ويسبّب أزمة حادة في سوق النفط العالمية وارتفاعاً حاداً في أسعاره، بما يكون مفعوله كارثياً على حملة هاريس. كما طلب بايدن من نتنياهو ألّا يسدّد ضربة مباشرة للمنشآت النووية الإيرانية، علماً أن إسرائيل بمفردها ليس لديها القدرة على تدمير تلك المنشآت. فإن التعرّض لها بدون تدميرها قد يكون مفعوله الوحيد استعجال إيران في تصنيع سلاحها النووي. أما ما وعد بايدن نتنياهو به هذه المرّة، فلم يُفصح عنه إلى الآن. لكنّ قرار الإدارة الأمريكية إرسال منظومة دفاع جوّي مضاد للصواريخ الباليستية «THAAD» إلى إسرائيل، مع مئة جندي لتشغيلها، شكّل خطوة نوعية في تحويل المشاركة الأمريكية في العدوان الصهيوني الجاري من غير مباشرة إلى مباشرة، من خلال نشر جنود أمريكيين إلى جانب القوات الإسرائيلية، ناهيكم من تعزيز القوات الأمريكية الجوّية المتواجدة في المنطقة بأسراب إضافية من طائرات F-16 و F-15E و A-10.
فإن طبيعة الهجمة التي نفّذها سلاح الجو الإسرائيلي يوم السبت الماضي بالغة الدلالة فيما يتعلّق بالمستقبل القريب. ذلك أن تلك الهجمة، وهي أول اعتداء على إيران تعلنه الدولة الصهيونية رسمياً، تركّزت على تدمير الدفاعات المضادة للطائرات المحيطة بالعاصمة طهران وبالمنشآت النووية الإيرانية وتدمير خلّاطات الوقود العملاقة التي بها تصنع طهران الوقود الذي تستخدمه صواريخها (وقد أسفرت الهجمة، علاوة على ذلك، عن قتل أربعة جنود إيرانيين). أي أن الهجمة الإسرائيلية شكّلت بكل وضوح تمهيداً لهجمة لاحقة على إيران بإضعافها قدرات إيران الدفاعية وقدرتها على تصنيع المزيد من صواريخ أرض-جو والصواريخ البالستية.
أما الآن فقد بات نتنياهو ينتظر انتخابات يوم الثلاثاء القادم ليقرّر خطوته التالية: فلو فاز ترامب سوف يستشيره ليرى إن كان الأخير على استعداد لتنفيذ هجوم مشترك أمريكي-إسرائيلي واسع النطاق تكون غايته الرئيسية تدمير المنشآت النووية الإيرانية، الأمر الذي يحتاج إلى قاذفات القنابل الاستراتيجية B-2 التي يملكها سلاح الجو الأمريكي وحده والتي تستطيع حمل القنابل مخترقة التحصينات GBU-57، وهي قنابل تزن الواحدة منها قرابة 15 طنّاً ولا تحوز إسرائيل عليها هي أيضاً. أما لو فازت هاريس، فمن المرجّح أن يسعى نتنياهو جهده لجرّ بايدن إلى تنفيذ الهجوم المذكور بمعيّته. وقد يشكّل هذا الهجوم عندئذ الهدية الأخيرة والأكبر التي يقدّمها بايدن للدولة الصهيونية بعد أن خدم مصلحتها طوال نصف قرن، في مثابرة فريدة شكره نتنياهو علناً عليها عند زيارته الأخيرة له في البيت الأبيض في نهاية شهر تموز/ يوليو الماضي.