|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
محمد عمارة تقي الدين
2024 / 10 / 30
دكتور محمد عمارة تقي الدين
"لا سلام بين الأمم بغير سلام بين الأديان"، تلك هي قناعة العالم الشهير هانز كونج التي بدونها، وفق ما يذهب إليه، لن يتحقق السلام على الأرض، وأنا أقول، لن يكون ذلك بالإمكان من دون إعادة موضعة قيم التسامح والتراحم الإنساني لتستقر في مركز العقائد مُشكِّلة صلب نسقها الفكري.
فعلينا أن نعترف أننا في عالم تتزايد فيه الأصوليات والجماعات الدينية المتطرفة بشكل مُقلق، تلك الأصوليات التي أنتجت أنماطًا دينية سحقت إنسانية الإنسان بمطرقة الجبر والتشدد، واغتالت روحه بسيف التعصب، وأهدرت كرامته تحت سياط الطاعة العمياء، وجعلته محكومًا بجبرية حديدية لا يملك منها فكاكاً، وكائنًا عاجزًا أمام وجوده المتعين خاضعاً لمفردات مصيره ومخلوقًا مسلوب الإرادة كريشة في مهب الريح، في حين أن الأديان في إصدارها الأول جاءت لتضع الإنسان في مركز هذا الكون وبؤرته المركزية، ومن ثم أوكلته بمسؤولياته التي حددها له خالقه.
تلك الأطروحات اللاإنسانية التي كان لها كبير الأثر فيما نشهده من صراعات وحروب في هذا العالم، ومن ثم يتحتم الإصغاء لمعادلة مفادها أنه لن نستطيع إقرار نموذج تراحمي لإدارة هذا العالم، أو حتى الوصول بالعنف والحروب لحدها الأدنى من دون استدعاء جوهر التراحم والتسامح الإنساني الكامن في كل الأديان ليتخذ موقعه في مركز العقيدة كفاعل أساسي، وفي الوقت ذاته علينا إقصاء أطروحات العنف والتشدد التي حاولت اختطاف الأديان.
فهي إذن متتالية من خطوتين: (الإحلال والإزاحة): أي إزاحة أطروحات العنف من مركز العقائد وإحلال أطروحات التراحم والتسامح محلها، ليعود الدين أكثر قربًا من إصداره الأول، إصدار السماء: إنسانيًا قيميًا تراحميًا.
وفي هذا الشأن يرى الطبيب والفيلسوف الألماني ألبرت إشفايتزر أن المستقبل سيكون حتماً للأديان الأخلاقية التي من شأنها أن تُظهر انحيازًا أكبر للقيم الإنسانية الخالدة واحترام كرامته وتأكيد حريته، في حين أن كل دين - أوكل نمط ديني لتكون الجملة أكثر انضباطاً - يقف ضد هذه القيم الأخلاقية ذات النزعة التراحمية سيكون مصيره الخفوت والانكفاء ومن ثم التلاشي، إذ لن يكن بمقدوره مسايرة وتلبية تطلعات البشرية وما يُمليه الواقع من مستجدات لانهائية تزيد حاجة الإنسانية لإحداث تلاحم إنساني عالمي.
فها هي البشرية وقد طارت بجناحين: أحدهما عملاق وهو التقدم المادي، والآخر قزمته صراعات طويلة وأطروحات إقصائية، وهو التقدم الروحي، فاختل الطيران وكادت أن تسقط، هي إذن بحاجة لخطة عاجلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من بقايا الروح التي قوضتها مرحلة ما بعد الحداثة فسقط الإنسان في هُوّة العدمية وفقدان المعنى، وكما يُقال فكل تقدم مادي يتطلب تقدمًا روحيًا يفوقه أو على الأقل يساويه لتستقيم المسيرة الإنسانية.
يقول (باولو كويلو) في واحدة من مقولاته العبقرية: "سوف يتغير التاريخ فقط متى استطعنا استخدام طاقة الحب، تمامًا كما نستخدم طاقة الريح والذرَّة".
وبالعودة للدين واختطافه باتجاه العنف، فمن المهم أن نُدرك أن أيديولوجيات العنف الديني ما كان لها أن تحقق هذا الانتشار الهائل إلا عبر قراءة الدين قراءة خاطئة ومنحرفة.
فواحدة من الجرائم الكبرى التي ترتكبها جماعات التشدد والعنف بحق الدين هي محاولة صبه، عبر تلك القراءة الخاطئة، في قالب أيديولوجي حديدي يستحيل معه أن يُفهم الدين إلا من خلاله، ومن ثم يتم تطويع كل عقائد الدين لتبرير هذه الأيديولوجيا، فنجد أنفسنا في نهاية الأمر أمام دين جديد مخالف تمامًا لدين التأسيس بل ومضاد ومعادٍ له في كثير من الأحوال.
إذ عبر إتّباع إستراتيجية الإحلال والإزاحة، وكما سبق القول، أزاحت تلك القراءة القيم والرؤى الإنسانية التراحمية النائمة في أعماق النسق الديني وفي بؤرته المركزية وأحلت مكانها أطروحات العنف والتشدد ونفي الآخر بإطلاقه ليتمحور الدين حولها ويدور في فلكها، فقد جرى استيعابه داخلها، وأصبح لا يُفهم إلا من خلال أيديولوجيتها العنيفة والمغلقة، وإنه ليس من مخرج من هذا المأزق إلا بإعادة إحياء هذه القيم الإنسانية في الدين وردّها مرة أخرى ردًا جميلًا لمكانتها المركزية.
لقد تأكدت قناعة لديَّ مفادها أن الدين مُجمل يمكن قراءته قراءتين مغايرتين ومتناقضتين تمامًا: قراءة على قاعدة العنف، أو قراءة أخرى على قاعدة التسامح، وكما يقول علي شريعتي:"الدين ظاهرة مدهشة تلعب في حياة الناس أدوارًا متناقضة، يمكن له أن يدمر، أو أن يبعث الحيوية، يستجلب النوم أو يدعو إلى الصحو، يستعبد أو يحرر، يعلم الخنوع أو يعلم الثورة"، من هنا يجب أن تتأسس متتالية مفادها:"أية رؤية ضد الإنسان هي حتمًا ضد إرادة الله، وأية رؤية تؤكد حرية الإنسان وتحترم كرامته هي ذاتها إرادة الله".
يري عبد الجبار الرفاعي، وهو مُحِق في ذلك، أنه ليس من سبيل لإنقاذ تلك النزعة الإنسانية في الدين من دون" التحرر من الصورة النمطية للإله التي تشكلت في سياق الصراعات الدامية والفتن والحروب العديدة بين الفرق والمذاهب باعتباره إله حرب وقتل وإبادة، والسعي لترسيخ صورة رحمانية للإله تستلهم ما يتحلى به من صفاته الجمالية ورحمته التي وسعت كل شيء"، وذلك عبر الانخراط في عقد مصالحة كبرى ومواءمة حقيقية بين من يحمل قناعات دينية وبين ظروف عصره على كل إكراهاتها.
لقد دعا العلامة جمال الدين الأفغاني إلى المساواة بين كل بني الإنسان على اختلاف أديانهم والانطلاق من المشترك بين الأديان السماوية وهو الحض على فعل الخير والابتعاد عن الشرور لتأسيس مجتمع إنساني عالمي جديد، يقول في ذلك:"لا ترى في الأديان الثلاثة ما يخالف نفع المجموع البشرى بل بالعكس تحضه على أن يعمل الخير المطلق مع أخيه وقريبه وتحظر عليه عمل الشر مع أي إنسان كان".
وفي الحضارة الغربية، وعلى الرغم من تاريخها الدموي ضد المخالفين في العقيدة بل وفي المذهب، إلا أن عصورها لم تخلو من المفكرين المنادين بدعوات التسامح الديني وإطلاق الحريات الدينية للجميع، فها هو الفيلسوف الانجليزي التنويري جون لوك كتابه الرائع"رسالة في التسامح" وقد دعا فيه إلى القضاء على بنية التفكير الأحادي وروح التعصب الديني وإقامة صرح الدين وتأسيسه على العقل والتفكير العقلاني يقول لوك:"خلاص النفوس من شأن الله وحده...ثم إن الله لم يفوض أحدًا في أن يفرض على أي إنسان دينًا معينًا... وأن قوة الدين الحق كامنة في اقتناع العقل، أي كامنة في باطن الإنسان".
لقد رأى جون لوك أن قضية التسامح الديني، هي القضية الأخطر التي واجهت المجتمعات الأوروبية في عصره،وأنه ليس من مخرج من دون حسم تلك القضية وإقرار التسامح الديني كأطروحة مركزية تتأسس عليها الحضارة الحديثة، إذ شهدت أوروبا حروبًا دينية غاية في القسوة والعنف، كحرب الثلاثين عامًا التي عاصرها لوك بين الكاثوليك والبروتستانت في ألمانيا، يقول لوك:"لا يجوز استبعاد وثني أو مسلم أو يهودي من الدولة بسبب دينه، إن الإنجيل لا يأمر بشيء كهذا".
ومن ثم أعلنها لوك حربًا شعواء على نزعة الاضطهاد الديني التي استشرت في أوروبا مؤكدًا أنها ليست من المسيحية الحقة في شيء، يقول لوك:"الذين يضطهدون الآخرين باسم المسيح إنما هم في حقيقة الأمر يتنكرون لتعاليم المسيح ... الإكراه هو رذيلة ضد تعاليم المسيح ويجب محاربتها"، ويضيف:"إذا ضل أحدهم فلن يصيبك أدنى ضرر من ضلاله لذلك لا يجوز لك معاقبته بقسوة بسبب أنك تعتقد أنه سيعاني في الآخرة".
لقد باتت الحاجة مُلِحّة، وكما يذهب البعض، إلى الغوص في مستويات التحليل الأكثر عمقاً من أجل دراسة وتمعن الأسباب الحقيقية وراء سيادة الأنماط الدينية المتشددة التي أقصت الإنسان جبراً عن الفعل التاريخي ومن ثم حرمته من صناعة مصيره الأرضي بكلتا يديه، وألقت به في غياهب العدمية، أو حولته لآلة قتل ودمار ضد المُختلف معه أيديولوجياً.
وعليه فلا مفر من إعادة قراءة النصوص الدينية بشكل أكثر مقاصدية وأكثر إنسانية باعتبار أن غاية الله من الإنسان هي عبادته وتحقيق سعادته وطمأنينته واستخلافه على هذا الكوكب، وهي قراءة من شأنها أن تستلهم القيم الإنسانية الرائعة داخل النسق الديني ومن ثم إعادة ضخها كقيم فاعلة في عالم الواقع.
حقيقةً أن البعد الأخلاقي هو بعد كامن في حنايا وتضاعيف النفس البشرية بشكل عميق مُجسدًا حالة من الاستعصاء على الاختفاء والخفوت أو التلاشي والانزواء، وإن لم يعبر عن نفسه في شكل ممارسات واقعية نجده حتمًا يتبدى على الإنسان في صورة مرضية، ولعل ذلك ما يفسر الاضطرابات النفسية لدى المجرمين وفاقدي تلك الأبعاد الإنسانية.
ومن ثم فليكن شعارنا:"دعنا نزاول إنسانيتنا في حدها الأقصى"، أو أن نسعى لتحقيق "لحظات الإنسانية القصوى" باعتبارها هي ذاتها لحظات القرب من الله، فهي إذن واحدة من مقاصد الأديان العليا، وهي ذاتها:"لحظات الوجود القصوى" التي نادت بها الفلسفة الوجودية في صيغتها الإيمانية، أي أن ندور مع الإنسانية حيث دارت ولنتحمل بعضًا من الأعباء الأخلاقية باعتبارنا بشر.
إن إحياء القيم الإنسانية في الأديان وإعادة نثرها فوق هذا العالم هو ضرورة مُلِّحة للبشرية جمعاء في ظل سيطرة منطق القوة على النظام العالمي القائم وغياب العدالة عنه وكأن العالم دولة واحدة يحكمها نظام استبدادي البقاء فيه للأقوى ماديًا وليس الأصلح قيميًا وأخلاقيًا، ووجود بعض الكانتونات الإنسانية داخله لا يمكنها تجاوز أو خرق هذا النسق، وهو ما جرّها إلى الواقع الكارثي الذي تحياه اليوم، ومن ثم فعلى البشرية في لحظتها الراهنة أن تدفع نحو تأسيس نظام عالمي جديد أكثر تراحمية وأكثر ديمقراطية وعدالة، وهو نظام من شأنه أن تتلاشى داخله كل هذه النزاعات الدولية وينحسر العنف إلى أقصى درجة.
ومن دون شك فالأديان بما تحويه من قيم إنسانية أخلاقية تراحمية يمكنها أن تمد هذا النظام الجديد الذي نتغياه بما افتقده النظام العالمي الحالي في هذا الجانب، ومن ناحية أخرى ففي ظل هذا المناخ غير المأزوم الذي نأمله نعتقد أنه من الممكن بناء رؤى وأطروحات دينية ذات نزعة إنسانية أخلاقية من شأنها الوقوف بوجه الأطروحات المتشددة والعنيفة واللإنسانية للنصوص، وهي الأطروحات التي انبثقت عن واقع كانت سمته الأساسية الجهل والظلم والقهر ومن ثم جاءت انعكاسًا له.
كما أنه علينا أن ندرك أننا لسنا بحاجة لمجرد إحياء القيم الإنسانية في الأديان بل العمل على توليد نسق إنساني متكامل من داخل نصوصها لتنضبط بها حركة الحياة، نسق يمكن أن ينسحب علي كل الأديان عبر تأكيد المشترك بينها من قيم التسامح والتراحم والعدالة والأخوة الإنسانية ومن ثم بناءها وتحققها وممارستها الفعلية في الواقع.
فالأمر إذن يتطلب ثورة فكرية كبرى، أي صناعة ثقيلة للعقل الإنساني تأخذ على عاتقها إنجاز تلك الغاية السامية.
يقول الفيلسوف الوجودي مارتين هايدجر:"لن ينقذنا إلا إله جديد"، ونحن نقول لن ينقذنا إلا تصور جديد للأديان وقراءة مغايرة لها، قراءة ترتكز على الأبعاد الإنسانية والتراحمية الكامنة بها.
ومن دون شك فقيم التسامح والأخوة الإنسانية القابعة داخل نسق الأديان يمكن أن تفي بهذا الغرض، وهي القيم المُتسِمة بالوفرة ليس في الأديان السماوية فحسب، بل وحتى في غير السماوية منها.
ومن ناحية أخرى ولتأكيد قيم التسامح الإنساني يجب أن نُقّر بحقيقة وجود الاختلاف والتنوع في الفكر والعقائد، وأن محاولة تنميط العالم وحشده وراء فكرة أو أيديولوجية دينية بعينها هي دعوة محكومة بالفشل، إذ تحمل في طياتها إقصاءً بل وعداءً للآخرين سرعان ما ستتحول لعنف مفرط ضدهم.
وفي التحليل الأخير، علينا أن نُهيئ العقل البشري لهذا البديل المستقبلي ذو النزعة القيمية التراحمية الذي نتغياه ونحثه على الدفع نحوه باعتباره، في اعتقادنا واعتقاد كثيرين غيرنا، هو الحل الوحيد لإنقاذ البشرية من مصير كارثي مُحدق تتجه إليه بقوة.
وأخيراً دعنا نردد مع جون تايلور قوله:"علينا أن نحاول بناء ملامح الطريق الذي يجب اتباعه في المستقبل، لمنع الإنسان من إبادة نفسه".
(محمد عمارة تقي الدين : أكاديمي مصري متخصص في الأديان والصراع العربي الصهيوني)