الحرب في السودان: الأثر علي القطاع الزراعي وشروط التعافي.

حسن بشير محمد نور
2024 / 10 / 17

بروفيسور حسن بشير محمد نور
يعتبر القطاع الزراعي اهم قطاعات الاقتصاد السوداني، حيث يعتمد عليه غالبية السكان كمصدر رئيسي للدخل والغذاء. اضافة للامكانيات الواسعة في انتاج محاصيل الأمن الغذائي التي تمكنه من المساهمة بشكل فعال، ليس فقط في توفير الغذاء علي المستوى المحلي والاقليمي ، بل وبدون مبالغة حتي علي المستوى العالمي، لاتساع المساحات الصالحة للزراعة وتوفر مناطق جغرافية متنوعة، اضافة لحصيلة كبيرة من مصادر الري بمختلف انواعه. يضاف لذلك ان القطاع الزراعي يوفر كثير من المواد الخام لصناعات كثيرة سواء من الشق النباتي او الحيواني او الغابات. كما تتوفر لهذا القطاع امكانيات ضخمة لانتاج الوقود الحيوي (وقود المستقبل). مع اندلاع الحرب في السودان، شهد القطاع الزراعي ضررًا بالغًا، مما أثر على الأمن الغذائي وإنتاج المحاصيل الأساسية مثل الذرة والقمح، والصادرات الزراعية الرئيسية مثل الحبوب الزيتية، القطن، الصمغ العربي، والثروة الحيوانية. يترافق تصاعد القتال مع تحديات متعددة، منها تعطيل سلاسل الإنتاج، تقليص القدرات التصديرية، وتهديد الأمن الغذائي على مستوى واسع نتجت عنه حصيلة الجوع الحالية التي يعاني منها حوالي 25 مليون انسان سوداني.
أثر الحرب على إنتاج الذرة والقمح:
إنتاج الذرة والقمح يمثلان جزءًا حيويًا من الأمن الغذائي في السودان، اضافة لاهمية القمح في احلال بعض الواردات تقدر بحوالي 2 مليار دولار في العام. الحرب أدت إلى تدمير الأراضي الزراعية خاصة في ولاية الخرطوم وبعض ولايات دارفور ودمرت او عطلت البنية التحتية المخصصة للري في مشروع الجزيرة ومناطق اخري، بجانب نزوح المزارعين من المناطق الريفية التي تشهد الصراع. هذا النزوح أثر سلباً على مساحات كبيرة من الأراضي المزروعة، ما قلّل من حجم الإنتاج. إضافة إلى ذلك، أدى عدم الاستقرار إلى نقص في مدخلات الانتاج الزراعي، مثل الأسمدة والبذور، مما زاد من ضعف الإنتاج.
تشيرالتوقعات إلى نقص كبير في إمدادات الذرة والقمح، مما ادي للندرة وارتفاع الأسعار وزيادة الاعتماد على الاستيراد، وهو ما يُشكّل عبئًا إضافيًا على الاقتصاد. من جانب آخر، تأثر الفقراء والعديد من المواطنين الذين كانوا ميسوري الحال او كما يقال في الارث السوداني (مستورين) من من ادخلتهم الحرب بالنزوح وفقدان العمل والموارد في دائرة الفقرالمطلق، باعتبار الذرة والقمح جزءًا أساسيًا من الغذاء اليومي لغالبية السكان.
(بهذه المناسبة ورد في مواقع التواصل الاجتماعي ثمة احتفال بافتتاح تكية في ام درمان (العاصمة الوطنية) لتوفير (البليلة) والتكية كما هو معروف مكان يقدم فيه الطعام مجانا للمعوزين الذين لا يملكون قوت يومهم، والبليلة هي الذرة المقلية يضاف اليها الملح وزيت الطعان اذا توفر ولا اعتقد توفره الان، هذا في بلد كان يسمى "سلة غذاء العالم").
تأثير الحرب على الصادرات الزراعية:
يعتمد السودان على كثير من الصادرات مثل الحبوب الزيتية، القطن، الصمغ العربي، والثروة الحيوانية لتمويل الخزينة العامة والحفاظ على التوازن الاقتصادي وقد اضرت الحرب بشبكات الامداد والتوزيع اضافة لتوقف الانتاج في كثير من المناطق، ولم يتوقف ذلك الضرر علي المستوى الداخلي بل طال الاسواق الخارجية التي استبدلت المنتجات السودانية بمنتجات بلدان اخري، ومن الصعب اعادة تلك الاسواق لما كانت عليه حتي في حالة توقف الحرب، يؤدي ذلك إلى انخفاض في حجم الصادرات وفقدان الاسواق التي يعتبر بعضها اسواقا تقليدية للمنتجات السودانية التي تعود عليها ذوق المستهلك.
تجدر الاشارة هنا لعدة نماذج من تلك المنتجات منها الحبوب الزيتية: التي توقفت زراعتها على نطاق واسع في مناطق الإنتاج الرئيسية مما أثّر على تصدير منتجات مثل الفول السوداني والسمسم. كما أن المصانع والمعامل التي تعتمد على هذه المواد تأثرت، ما زاد من فقدان فرص العمل وتقلص الدخول.
كذلك الحال بالنسبة للقطن: الذي كان السودان معروفًا بإنتاجه لنوع القطن طويل التيلة، ولكن الحرب جعلت من الصعب الاستفادة من هذا المورد بسبب تدمير المنشآت الزراعية، وانخفاض جودة الإنتاج بفعل نقص الرعاية اللازمة للمحاصيل، ناهيك عن اجتياح الدعم السريع لمناطق مشروع الجزيرة اهم المشاريع الزراعية في السودان، مما ادي لنزوح اعداد كبيرة من المزارعين وتضرر البنية التحتية مما عطل الانتاج بشكل تام.
مثال اخر هو الصمغ العربي: الذي يُعتبر السودان من أكبر منتجيه في العالم ويتميز فيه (بميزة مطلقة). اثرت الحرب على حركة التجارة في هذا المنتج، مما أدى إلى انخفاض صادراته، كما ان اهم مناطق انتاجه تقع تحت سيطرة الدعم السريع، مما يعني اما توقف الانتاج والتصدير نسبة لعدم امكانية (طق الهشاب)، او تسربه الي الخارج عبر قنوات غير رسمية وتصديره عبر دول اخري والاستفادة من عائداته في تمويل الحرب.
اخيرا الثروة الحيوانية: اذ أثّرت الحرب على مناطق تربية الماشية، كما أدت إلى نزوح الرعاة وانخفاض الإنتاجية بسبب فقدان المراعي وتدمير سلاسل التوزيع، ومن المعلوم ان جزءا كبيرا من الثروة الحيوانية للاستهلاك المحلي والتصدير كان يأتي من ولايات كردفان ودارفور وهي الان من اكثر المناطق تضررا من الحرب.
الآثار السلبية المتوقعة من تصاعد القتال على الزراعة:
مع تصاعد القتال واطالة امد الحرب، من المتوقع أن تتفاقم الآثار السلبية على كل من القطاع الزراعي الحديث والتقليدي. من بين تلك الآثار:
1. تدمير البنية التحتية: ستتضرر قنوات الري، الطرق الزراعية، والمخازن، مما سيعيق الوصول إلى الأسواق ويزيد من تكاليف الإنتاج وتقلص كمياته.
2. نقص اليد العاملة: استمرار النزوح والقتال ادي إلى نقص في الأيدي العاملة الزراعية، سواء في القطاع الحديث الذي يعتمد على الزراعة الالية أو في القطاع المطري التقليدي الذي يعتمد على العمل اليدوي، اضافة لتأثر الانتاج هذا العام بالظروف المناخية، ومن المعلوم ان الانتاج الزراعي من اكثر القطاعات التي تعتمد علي الرعاية الحكومية في مدخلات الانتاج والتمويل وضبط الاسواق والحماية.
3. تفاقم الفقر الغذائي: تعاني العديد من الأسر من نقص الغذاء بسبب قلة الإنتاج وارتفاع الأسعار، مما ادي لمفاقمة معدلات سوء التغذية والجوع الذي طال حوالي 25 مليون مواطن، حسب تقديرات وكالات الامم المتحدة المتخصصة.
امكانية السياسة الزراعية المستقبلية:
من أجل تحقيق التعافي في القطاع الزراعي بعد الحرب، لا بد من وضع سياسة زراعية شاملة تهدف إلى:
1. إعادة تأهيل البنية التحتية: يجب إعادة بناء القنوات المائية، الجسور، والطرق الريفية لضمان سلاسة الحركة الزراعية والإنتاج.
2. تشجيع التقنيات الزراعية الحديثة: استخدام التكنولوجيا المتطورة في الري والزراعة سيزيد من الإنتاجية ويقلل من الاعتماد على اليد العاملة ويعوض ذلك بالعمل في مجالات انتاج القيم المضافة.
3. إعادة النازحين والمزارعين إلى مناطقهم: توفير الأمن وفرص التمويل لإعادة استقرار المزارعين في أراضيهم، مع دعم برامج التدريب لتحسين مهاراتهم الزراعية.
4. تحفيز الاستثمار الوطني والاجنبي في الزراعة: يجب تقديم حوافز للاستثمارات المحلية والدولية في القطاع الزراعي من خلال توفير بيئة قانونية مستقرة وحوافز ضريبية، اضافة لضرورة توزيع الاستثمارات علي مختلف المناطق الجغرافية وللمنتجات التي تتوافق مع المصالح الاسترتيجية والامن القومي وتراعي الجوانب البيئية، علي ان يتم ذلك بمشاركة الوسط المحلي من اصحاب المصلحة.
5. تنويع الاقتصاد الزراعي: على السودان ألا يعتمد على منتجات محدودة، بل يجب أن ينوع من التركيبة المحاصيليه والتوجه نحو انتاج القيم المضافة لصادراته الزراعية بدلا عن المواد الخام، ذلك لتحسين القدرة التنافسية وتحقيق الاستدامة وتجتب تذبذب الاسواق والاغراق، اضافة للعمل للوصول لمعايير التجارة الدولية.
شروط تعافي القطاع الزراعي بعد الحرب:
تعتمد شروط التعافي للقطاع الزراعي بعد الحرب على عدة عوامل رئيسية:
1. تحقيق السلام والاستقرار السياسي: لا يمكن تحقيق أي تعافٍي اقتصادي دون وقف القتال وضمان الأمن في المناطق الريفية التي تُعتبر مراكزا للإنتاج الزراعي، وهذا يتطلب عوامل الاستقرار السياسي والامني الضرورية للاستقرار الاقتصادي، وهذا بالطبع يعتمد ضمن العوامل الاخري علي نوع الحكم بعد الحرب ومدي قبوله داخليا وخارجيا.
2. إعادة هيكلة الاقتصاد: يجب تبني إصلاحات اقتصادية جذرية تستهدف تحسين كفاءة الإنتاج الزراعي، وزيادة فرص التصدير عبر تحسين نوعية المنتجات الزراعية.
3. الاستفادة من الموارد الطبيعية: السودان يمتلك موارد طبيعية هائلة في مجال الزراعة، ويجب استغلال هذه الموارد بشكل مستدام من خلال خطط تنمية شاملة ومدروسة ومن خلال اقامة تجمعات زراعية- صناعية تعمل علي انتاج القيم المضافة ذات الميزة النسبية ومنافذ الفائض.
4. التعاون الدولي والإقليمي: يجب على السودان أن يسعى لتعزيز التعاون مع المؤسسات الدولية والدول المجاورة لتحفيز الاستثمار وتقديم الدعم الفني والمادي، بما يتوافق مع مصالحه الاستراتيجية وصيانة امنه القومي واستدامة موارده.
ختاما، لا يمكن فصل مستقبل القطاع الزراعي في السودان عن الحالة السياسية والأمنية للبلاد، اذ أدت الحرب إلى تدمير أسس الإنتاج الزراعي وأثرت على الأمن الغذائي والتجارة الخارجية. مع ذلك، يمكن للسودان، من خلال تبني سياسة زراعية متكاملة وتحقيق الاستقرار السياسي والامني، أن يستعيد دوره كلاعب رئيسي في القطاع الزراعي العالمي، ويحقق الأمن الغذائي لشعبه ويطور كثير من الصناعات المعتمدة علي المواد الخام الزراعية النباتية والحيوانية.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي