الإلحاد والملحد والحرية 1-2

أمين بن سعيد
2024 / 10 / 13

الخروج من أعظم السجون أي الدين/ الإله، إنجاز في ذاته، لكنه بداية طريق لا غير. مباشرة بعد الخروج من باب ذلك السجن المدمِّر، وحسب ثقافة الملحد ومعارفه، يرى الطرق أمامه، قد لا يرى بعضها لأنه في تلك اللحظة يفتقر لما يُخوّله رؤيتها، وهذا الذي "يُخوِّل" يحتوي على معارف الملحد وقتها، وعلى ما بقي عالقا به من السجن الذي غادره: افتقاره لخلفية علمية مثلا لن يجعله يرى كثيرا من المهازل التي تعتقدها البشرية جمعاء وتراها "علوما"، ومخلفات الدين العالقة به قد تجعله لا يرى وهم العروبة وفلسطين.. لكن إجمالا، لا يُمكن تجاهل حجم ذلك الإنجاز الذي "من المفروض" سيجعل الملحد يختلف جذريا عن المتدين، في نظرته للعالم الذي يعيش فيه، وفي حكمه على كل ما يُقدّم له ويُعرض أمامه في سوق الأفكار والفلسفات والأيديولوجيات. ولأكون أكثر دقة في المقارنات التي أذكرها، من حين لآخر، في بعض المواضع مما أكتب، بين الملحد والمؤمن/ المتدين، أن المؤمن المذكور هو التابع لدين ما دون الالتزام بنصوصه وبثقافته، أما الملتزم فلا يمكن بأي حال مقارنته بالملحد: نعم، يمكن للمؤمن المذكور مثلا أن يحترم المرأة أكثر من ملحد، لكن ذلك مستحيل مع الملتزم. مع تذكير مهم هنا، بأن الملحد ليس نقيض المتدين، وقد بَيّنتُ ذلك في منشورات سابقة.
رحلة الإنسان العاقل والمثقف، صراع دائم مع جلاد وثورة دائمة للتحرر من قيد، الجلادون كثر والقيود كثيرة، وخطأ شنيع أن يعتقد من خرج من سجن الدين/ الإله أنه "تحرّر"! تحرر من أعظم سجن نعم، لكن سجونا كثيرة لا تزال قائمة، وقيودا كثيرة لا تزال تُكبّل وتمنع! حتى سجن الدين، يُخطئ من يظن أنه خرج منه بالكلية، لأن الذي خرج منه سيُمضي بقية عمره محاولا التخلص مما علق به من ذلك السجن، وأيضا لأن المجتمع الذي يعيش فيه والعالم برمته لا يزال يُعطي القيمة لذلك السجن!
الدين حكم لقرون وقرون ولا زال، ومعه تأسس تقريبا كل شيء منذ البدء، وللتخلص من رواسب كل تلك القرون، يلزم الكثير والكثير جدا، إن لم نجزم باستحالة الخلاص نهائيا من تلك الرواسب: كمثال بسيط على ذلك، اللغة، كل لغات الأرض تحمل حمولة دينية ومصطلحات وتعابير إلى اليوم لا نستطيع لا الخلاص منها ولا وجود بديل لها، حتى تلك اللغات الحديثة التي لم تكن لغات دينية في أصلها كاللاتينية والعربية، فمثلا نشأت اللغات الأوروبية في إطار حراك وثورة على الاستعمار الروماني ولغته المقدسة اللاتينية، ومن أهم وسائل التحرر وقتها، الاستقلال الديني، الذي جاء بترجمات البايبل إلى اللغات الحديثة الأوروبية، أي من أول ما كُتب بتلك اللغات: الدين! من خلال كتبه المقدسة وكل ما نتج عنها من شروح ولاهوت وأشباه فلسفات وأدب وتاريخ إلخ، ولذلك حتى اللغات الحديثة وُلدتْ مُشوَّهة بالدين وثقافته ومصطلحاته التي كانت لقرون تُعتبر حقائق، وحتى بعدما وقع التشكيكُ فيها وتجاوزُها عند الكثيرين، لا تزال موجودة وتُستعمل إلى اليوم كالنفس والروح والقدر والملائكة والشياطين...
الملحد الذي تجاوز الدين، محكوم به في أمور كثيرة، مثله مثل المتدين، والفرق بينهما أنه هو يعرف الحقيقة بعكس المتدين، لكن النتيجة واحدة وهي أن الإثنين محكومان بالدين! من ذلك مثلا، المناسبات الدينية كالأعياد، والمواسم المقدسة كالحج ورمضان: غصبا عني لا أعمل يوم العيد، وغصبا عني أغير وقت عملي في رمضان وغصبا عني تعاملاتي مع المؤسسات كبنك أو بلدية أو ولاية تتغيّر... غصبا عني أسمع الآذان كل يوم، وغصبا عني أسمع صلاة الجمعة والدعوة إلى جنازة! هناك متدينون لا يحبون سماع تلك الأصوات المزعجة، وفيهم أيضا من وقته لا يسمح بالذهاب إلى بنك أو بلدية في رمضان، وهؤلاء لا يختلفون في شيء عني: أنا وهم نرفض ذلك الذي فُرض علينا بالقوة، فما الفرق بيني وبينهم؟ وما قيمة إلحادي أمام إيمانهم في النقاط المذكورة وغيرها الكثير كحضور حفل ختان أو تهنئة حاج بعد عودته أو حضور خطبة وقراءة فاتحة أو الوقوف مع الواقفين في صلاة جنازة إلخ...؟ الذي قيل هنا، لا يقتصر على الدول الإسلامية ليقول قائل أن ذلك له علاقة بعدم تقليم مخالب الإسلام، بل يشمل الدول الغربية وحتى التي عداؤها صريح للكاثوليكية كفرنسا (La Toussaint عيد القديسين، عيد الفصح Pâques، عيد الميلاد Noël)
الأمثلة البسيطة التي ذُكرتْ، تُفنّد "اطلاقية" الحرية، حتى مع معرفة حقيقة العائق والمكبّل والسجن. بل أكثر من ذلك، فهي تدفعنا دفعا إلى حقيقة أننا نعيش وهما كبيرا، صنعه وعينا الذي نشأ عن ظروف مادية موضوعية لا تأبه بما نرى بل بوجودنا برمته. ومن هنا، نصل إلى أصل الحكاية، أي الوعي والمادة...
لنقل أولا، ولنشدد، ولنعيد، ولنصرخ إن لزم الأمر، أن الإنسان هو الكائن الوحيد الواعي، ولا وعي خارج الإنسان، وخارج دماغه بالتحديد. الإنسان وُجد بعد وجود الكون الذي يعرف، الكون يتعامل فيه الإنسان مع الطبيعة المحيطة به، الطبيعة لا وعي لها ولا غاية ولا إرادة ولا تصميم، لا وجود لوعي لا فيها ولا في كل مكوناتها باستثناء دماغ الإنسان: كل شيء غير ذلك فهو دين وإن تلحف برداء الفلسفة!
صراع من يسبق من، المادة أم الوعي؟ يُقال عنه أنه "فلسفة" و "فكر"، وتُستحضر فيه أسماء "كبيرة" قديمة وحديثة! وأقول عنه أنه دين ومضيعة وقت بل وهراء وترهات! من بدأوا القصة في عصور قديمة، كان أصل نقاشهم الإله المزعوم كوعي مستقل عن المادة وهو مُنشئها، الكلام عن الأسبقية وما تلاه من القول بـ "أزلية" المادة، كان نقاشا دينيا/ كلاميا/ لاهوتيا صرفا لا علاقة له لا بعقل ولا بفلسفة، لأن أصل الكلام من المفروض كان يجب أن يكون إثبات وجود هذا الإله المزعوم والتفصيل في ماهيته لا حشره مع المادة الموجودة والزعم بأنه من أتى بها: ثبتْ العرش ثم انقشْ! من دخلوا في تلك النقاشات، وكانوا من الماديين، لا يجب نسيان أنهم لم يكونوا "أحرارا" في كلامهم لأن الدين كان يحكم، ولذلك كانوا مُجبرين على تفنيد مزاعم المثاليين بشتى أنواعهم من متدينين ولاهوتيين دون أن يقولوا كل ما عندهم وإلا قُطعت رؤوس الكثيرين منهم! ولنتذكر هنا مثلا متى نُشرت أبحاث كبرنيك التي تُفنّد مركزية الأرض وثباتها! من الذي قيل، أرى أنه من غير المعقول أن يُعيد علينا أحد تلك النقاشات البدائية في عصرنا هذا ظانا وزاعما أنه يُقدّم فكرا وفلسفة: غير معقول وغير مقبول ومضيعة وقت، لا وجود لوعي خارج دماغ الإنسان، وبديهي أن وعي الإنسان لاحق على المادة التي منها تَكوَّن ومنها يتكون كل شيء حوله، أما أن يزعم إنسان أن وعيا مستقلا عن المادة وعن الكون ككل ولا أحد يعرف ماهيته هو من كان وراء المادة والكون فهذا كلام فارغ وتخرصات متدينين لا أكثر ولا أقل! ومن يقول العكس فليأتنا بالدليل والدليل الأول الذي يُطالب به ليس وجود الإله -وسنتنزل عن ذلك- بل ماهية ذلك الإله! كل الأجوبة هنا ستكون كمن يُكلمنا عن عفريت أو جني رآه البارحة في منزله أو سمعه أو شعر به، وذلك الفلان لن نملك إلا ننصحه بزيارة أقرب طبيب وفي أسرع الآجال قبل أن تتدهور حالته.
الكلام البسيط الذي قيل، يُجنبكَ مضيعة وقتكَ، ويُبعدكَ عن الافتتان بمن يتناقشون في هذا الموضوع خصوصا إذا ما ذكروا أسماء لفلاسفة قدامى وكلّ ورأيه وكل وما قال، أشبه لك الموضوع بما يُسمى فتنة خلق القرآن! قيل فيها الكثير وكتبت فيها مئات الكتب قديما وحديثا وممن كتبوا يُسمون القصة "فلسفة" إسلامية! وأصل القصة شوية خزعبلات لا تكتفي بأعظم فرية أي وجود إله بل تزيد! أنه يُرسل كتبا وهذه مصيبة أخرى، ولا يكفي ذلك ليُسوّق لنا إلى اليوم أن ذلك الكتاب الذي لا يُساوي فلسا في سوق العقل والفكر، خرجت منه فلسفات! ومفكرون عظام كأولئك البدائيين الهمج القتلة الذين يُسمون معتزلة!! سيد القمني عزيزي القارء كان ملحدا يهزأ بالمعتزلة وبرب المعتزلة وبكتاب رب المعتزلة وما قوله إنه يتبع طريقهم إلا لأن السيف كان على رقبته وليجد وليجة يستطيع منها الكلام! هذا إنسان عاش معنا! فما بالك بمن عاشوا قرونا خلت؟ فكيف يُعقل أن يستحضر أحد نقاشاتهم دون أن يفهم ذلك فيجذبنا إلى الخلف ويُعيدنا من عصرنا إلى تلك العصور الغابرة؟
كل الأقوال والأقاويل والتخرصات التي، وكائنا من كان قائلها، تحاول فصل الفكر/ الوعي عن المادة أو استقلال الوعي عن المادة أو تصوير الوعي كنقيض للمادة، كلها دين وأصلها خرافات الدين التي زعمت دون دليل وجود إله غير مادي مستقل بذاته عن المادة مناقض لها -لأنه غير مادي-؛ بل للدقة حتى الدين "المسكين!" لم يقل بذلك! بل اللاهوتيون من فعلوا ودون دليل من النصوص التي آمنوا بها ودافعوا عنها! الدين لم يقل أن الإله خلق من العدم وأنه مستقل عن المادة! بل صوّر لنا الإله كملك يجلس على عرش في سمائه المزعومة! وذلك الإله مادي وابن المادة عند اليهود والمسيحيين والمسلمين! وهذا يزيد من قصة المادة التي تسبق الوعي هزلا على هزل! أي كل من لا يزال يتكلم في هذه الأعجوبة كأنه مجرد متدين لا غير، و "من المفروض!" أن الملحد الذي خرج من السجن لا يضيع وقته ووقت غيره هكذا! أتفهم لو كان السيف على رقبته، لكن كيف يُعقل ذلك وهو يكتب ويتكلم بـ "حرية"؟!
الوعي بكل بساطة منتوج مادي صرف، منتوج المادة التي منها يتكون دماغ الإنسان، والمادة التي يعيش فيها الإنسان أي الواقع المادي الذي يُحيط به: لا تُوجد رسائل "حقيقية" جاءت من عند إله مستقل عن العالم المادي، تلك الرسائل كانت مجرد هلوسات أُنتجتْ في أدمغة أصحابها وبتأثير واقعهم المادي. لا تُوجد رسائل تأتي من كواكب ونجوم، لا تأثير لبومة أو قط أسود على ما سيحدث في يوم ذلك الذي رأى أحدهما صباحا، لا ميت ينظر إلينا من السماء ويفرح ويحزن لتصرفاتنا ولا تأثير له علينا: من مات اندثر وانتهى، أن تتمنى لي سنة سعيدة أو أن تتمنى لي الويلات ذلك لن يُغيِّر شيئا فيما سأعيش، أن يرضى عني أبي أو لا يرضى لن يُغير شيئا في كل لحظات حياتي إلخ... كلها أوهام صنعها وعينا الذي لم نأتِ به من لا شيء، بل فقط كان مجرد انعكاس لواقعنا المادي ومتطلباته وحدوده التي لا يُمكن لنا تجاوزها...

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي