تحليل مكونات الصراع في السودان: قراءة من منظور العلوم الاجتماعية

حسن بشير محمد نور
2024 / 10 / 13

تحليل مكونات الصراع في السودان: قراءة من منظور العلوم الاجتماعية.

بروفيسور حسن بشير محمد نور/ القاهرة

من اهداف هذا المقال تحفيز البحث والتحليل في اساس الحرب وجذورها لتشخيص العلة لايجاد العلاج، وهو دعوة للباحثين والاكاديميين الشباب في تخصصات علم الاجتماع وعلمي النفس الاجتماعي والتطويري بالاضافة طبعا للاقتصاد السياسي العلم الذي انتمي إليه من حيث التخصص، الدعوة للقوص في عمق هذه الازمة من مختلف جوانبها ومكوناتها لاستقصاء الأسباب الحقيقية وايجاد الحلول اللازمة للتعافي الوطني المستدام الذي يحقق السلام والأمن الاجتماعي والاستقرار.

يعيش السودان منذ فترة طويلة في حالة صراع عميق، لا يقتصر على المواجهات العسكرية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، بل يمتد ليشمل تحولات نفسية واجتماعية متداخلة. لفهم طبيعة المكونات الداعمة لهذا الصراع، من الضروري استحضار إطار علم النفس التطويري إلى جانب التحليل الاجتماعي من منظور العلوم الاجتماعية، وهو ما يستدعي منهجية تحليلية تستلهم الأسلوب الذي يتميز بعمق الفهم للتركيبة المجتمعية والاقتصادية والسياسية للسودان، مع إيلاء اهتمام خاص لسيكولوجية الصراع.

من حيث الخلفية التاريخية والاجتماعية للصراع ينبغي اولا النظر إلى الصراع الحالي في السودان كجزء من تراكمات تاريخية واجتماعية متجذرة باعتبار السودان دولة متعددة الأعراق والثقافات، وتعاني من اختلالات هيكلية في توزيع الموارد الاقتصادية والسلطة السياسية منذ حقبة الاستعمار وما تلاها من صراعات على السلطة والثروة والهوية الوطنية.

منذ استقلال السودان في العام 1956، كان هناك تاريخ طويل من الحروب الأهلية والنزاعات الداخلية المرتبطة بالتنمية غير المتكافئة، والنزاعات العرقية والقبلية، وتهميش مناطق الأطراف لصالح المركز. أدى ذلك إلى حالة من عدم الاستقرار المزمن، وتولدت فئات اجتماعية تعتمد على القوة العسكرية كوسيلة رئيسية للحصول على الموارد والنفوذ السياسي وقد تغذي ذلك من الاتفاقيات السياسية منذ اتفاقية اديس ابابا مع (انانيا تو) في 1973 وحتي اتفاقيات جوبا في 2020 مع ما سمي بحركات (الكفاح المسلح).

بتناول مكونات الوعي لدى الأطراف المتصارعة نجد ان للجيش السوداني وضع تاريخي يعتبره المؤسسة العسكرية التقليدية التي تحمل إرث الدولة السودانية الحديثة. معظمه ينتمي إلى شرائح اجتماعية ترى في الجيش رمزاً للوحدة الوطنية والاستقرار أو هكذا يجب ان يكون. غالباً ما يأتي الأفراد في هذه المؤسسة من خلفيات ريفية أو من مناطق تمثل الهوية السودانية "الرسمية"، مما يعزز لديهم تصور دور الجيش كممثل للوطنية، غض النظر عن ما لحق بالجيش من طمس لهويته وتسيسه وأدلجة في عهد الانقاذ

فيما يتعلق بالوعي النفسي لأفراد الجيش نجد وعيهم يتشكل حول فكرة الدفاع عن الدولة السودانية ككيان موحد في مواجهة التهديدات الداخلية والخارجية، وهم يتأثرون بذاكرة الحرب الطويلة ضد التمرد في الجنوب ودارفور، مما يعزز لديهم إحساسًا بأنهم حماة "الأمة السودانية".

من جانب آخر نجد قوات الدعم السريع قد نشأت في سياق مختلف، فهي تمثل إلى حد كبير مصالح مجموعات اجتماعية مهمشة تاريخياً ، خصوصاً في مناطق مثل دارفور، حيث كانت هذه القوات في البداية ميليشيات محلية ذات طبيعة قبلية. أفراد الدعم السريع ينحدرون غالباً من خلفيات تعاني من الفقر والتهميش الاجتماعي والاقتصادي، وتبحث عن تمكين نفسها من خلال القوة العسكرية، ويتشكل الوعي النفسي لأفراد هذه المجموعة بشكل أساسي حول فكرة التمرد على النظام القائم الذي يهمشهم. ويترسخ لدي غالبيتهم المطلقة شعور عميق بالظلم التاريخي والاجتماعي، مما يولد لديهم نزعة انتقامية وإحساس بأن حمل السلاح هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق العدالة والمساواة في النفوذ والموارد.

جانب مهم آخر يجب الاهتمام به من قبل الباحثين والمحللين الاجتماعيين يتلخص في تحليل المكونات الداعمة للصراع من حيث:
1. الدوافع الاقتصادية

إذ يعتبر التنافس على الموارد أحد المحركات الأساسية للصراع. الجيش السوداني يسعى للحفاظ على السيطرة على مؤسسات الدولة ومواردها الاقتصادية، بينما تعمل قوات الدعم السريع على إعادة توزيع هذه الموارد لصالح المجموعات التي ترى أنها تهمشت لعقود علي الاقل من الناحية النظرية. يتمحور الصراع هنا حول الاستحواذ على الثروات الطبيعية مثل الذهب والنفط والاصول، وكذلك استغلال المؤسسات الاقتصادية كوسيلة للثراء والتمكين الاجتماعي.

2. العوامل النفسية والتطويرية

من منظور مناهح علم النفس التطويري، يظهر الصراع بين الجيش والدعم السريع كصراع بين هويات متنازعة تتراوح بين الوعي الجمعي المركزي (الذي يمثله الجيش) والوعي المحلي أو القبلي (الذي تمثله قوات الدعم السريع). كلا الطرفين يستفيد من رواسب صراعات الهوية التي تطورت على مر العقود، بحيث ينظر كل طرف إلى الآخر كتهديد وجودي لهويته وسبل بقائه من حيث المبدأ، حتي وإن بدا ان هناك توافق بينهم في مرحلة معينة.
يتشكل الوعي الاجتماعي والنفسي لهؤلاء الفاعلين في إطار من النزاعات الطويلة التي تعزز الإحساس بالاختلاف والتنافر. الدعم السريع، على سبيل المثال، يستند إلى ذاكرة الصراعات القبلية والمجتمعية التي تدفعه نحو التمرد على المركز التقليدي، بينما الجيش يمثل رؤية أكثر مركزية للدولة.

3. الهوية والمصالح السياسية

يرتبط الصراع أيضاً بالتنافس على السلطة السياسية. فالجيش السوداني يرغب في الحفاظ على هيمنة المركز الذي يمثل النخبة الحاكمة على مر العقود، بينما قوات الدعم السريع تسعى إلى إعادة تشكيل النظام السياسي بما يتيح تمثيلًا أكبر للمجموعات المهمشة كما يشير خطابهم الرسمي.

من هنا، يظهر البعد النفسي للتنافس على السلطة كمحرك رئيسي للصراع؛ حيث يشعر كلا الطرفين بأنه مهدد بفقدان هويته ومصالحه الأساسية مما يدفعهم للقناعة بان السلطة تشكل ضامن وجودي لا غناء عنه.

أما من حيث تحليل السيكولوجيا الاجتماعية للصراع فيمكن القول إن كل طرف في الصراع يعكس حالة من التطور النفسي والاجتماعي المتفاوت. الجيش يمثل مؤسسات تقليدية متجذرة في الهوية الوطنية التي ترتكز تاريخيا على مركزية السلطة، بينما الدعم السريع يمثل مراحل تطور جديدة تستجيب لمتغيرات اعادة تشكيل الدولة بشكل يحقق العدالة الاجتماعية حسب مفهومهم ويظهر ذلك من خلال نبذهم (لدولة 56) واستدعاء نوعا من الحداثة حول مفهوم (سودان جديد).

هناك أيضاً بعد نفسي متجذر في مفهوم "الأنا الجمعي" لكل طرف. الجيش يسعى في خطابه لتأكيد "الأنا" الوطنية، بينما الدعم السريع يبني "أنا" جديدة تعتمد على التحدي والتغيير. وكلا الطرفين يعاني من مشاعر الخوف وعدم الأمان، مما يدفعهما إلى التصعيد بشكل خطير

في ضوء التحليل النفسي والاجتماعي اذن، يظهر أن الصراع في السودان يتغذى على تراكمات تاريخية من عدم المساواة والظلم الاجتماعي، وتدفعه تطورات نفسية ترتبط بالوعي بالذات وبالآخر. الجيش السوداني وقوات الدعم السريع يمثلان قوتين متناقضتين في بنية المجتمع السوداني؛ قوة تستند إلى التاريخ والتقاليد، وأخرى تسعى لإعادة صياغة هذا التاريخ علي طريقتها الخاصة.

تبقى هذه الديناميات المعقدة حاضرة في مسرح الصراع السوداني، وستستمر في تشكيل مسارات الصراع ما لم تتم معالجة جذوره النفسية والاجتماعية والاقتصادية ومخاطبة جذور الازمة المركبة بالعمق الذي تستحقه وهذا يتطلب من الباحثين والاكاديميين وحملة راية التنوير العمل عليه قبل غيرهم من المكونات السودانية، خاصة المكونات السياسية التي لا تتميز بالتخصصية والعمق ان لم نقل انها تعاني من السطحية والتبسيط والتنميط في تعاملها مع الازمة الشائكة التي يعاني منها السودان.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي