الإلحاد والملحد والعروبة

أمين بن سعيد
2024 / 10 / 7

يفتح الإلحاد باب سجن الأديان، ويضع الملحد في مفترق طرق، الطرق عديدة ومنها طريق الأديان المرفوض جملة وتفصيلا. و "من المفروض" أن من خرج من سجن لا يعود إليه، ولا يدخل غيره من السجون وإن كان سجن الدين أصعبها وأشدها. لكننا نرى عددا لا بأس به من الملحدين يدخلون سجونا كثيرة تنطوي كلها تحت مُسمى الأيديولوجيا، والأيديولوجيا فيها من الدين الشيء الكثير، وتقريبا لا تختلف معه إلا في أشياء قليلة لعل أهمها مصدرها البشري المُعلَن والمُعتقَد.
في المنطقة المقدسة، تأتي الماركسية العروبية والقومية "العربية" مباشرة بعد الدين. وبقولي الماركسية العروبية أقصد الماركسية التي وقع تعريبها، أي إلباسها زي العروبة، والعروبة زي "من المفروض" يلبسه أهله العرب، لا المستعربون أو العرب المزيفون؛ العرب بدو يعرفون جيدا حقيقتهم وحقيقة تاريخهم ومنجزاتهم، البدوي لا يُنتج شيئا غير الدين، وفي الدين لا يعترف إلا بالتوحيد المستمد من ثقافته التي تعود إلى الصحراء وقبيلتها، العرب لا علاقة لهم بديمقراطية وعلمانية وثقافة الفرد وحقوقه، لذلك نراهم إلى اليوم يمارسون ويعيشون عروبتهم فلا ديمقراطية ولا انتخابات ولا غيره، وحُق لهم ذلك، بل ربما يُحترمون لالتزامهم بأصولهم منذ أجدادهم الأوائل الذين تركوا لهم ثقافة القبيلة مع منتجهم العظيم والوحيد: الإسلام.
الحراك الفكري الذي جلب كثيرا من النظريات والأيديولوجيات والثقافات إلى بلداننا، لم يشمل العرب ودولهم، بل اقتصر فقط على بلدان خارج شبه الجزيرة؛ شمال أفريقيا، سوريا لبنان العراق مصر إلخ حيث أنشأ العرب المزيفون أيديولوجيا العروبة وتبنوها حتى صاروا "عربا" أكثر من العرب، والعجيب أنه يُستغرب ويُلام العرب الحقيقيون -إلى اليوم- على رفضهم تلك الأيديولوجيا وقولهم أن إسلامهم يكفيهم، ولهم كل الحق في ذلك، فهم رفضوا مستعمِرا خارجيا ودعيًّا أراد أن يسيطر عليهم ويحكمهم في بلدانهم باسم تلك العروبة: الإسلام "كما هو شائع" يرفض تلك النعرات العرقية ويراها جاهلية وكفرا، نعرات جاءت من موالي أدعياء وليس حتى من عرب حقيقيين والثقافة الإسلامية اهتمت كثيرا بالسادة والموالي، وأيضا أيديولوجيا تريد تحييد الإسلام بل واحتقاره ليُحكم العرب من مسيحيي لبنان وأدعياء العروبة في مصر وسوريا، فكيف يُلام العرب على رفضهم لتلك الأيديولوجيا التسلطية بل الاستعمارية؟
باسم العروبة استعمر عبد الناصر الشعب السوري استعمارا مباشرا، وفعل نفس الشيء بطريقة غير مباشرة مع كل شعوب المنطقة المقدسة من الموالي، ولم ينج منه إلا "السادة" العرب لأنهم تمسكوا بأصولهم الحقيقية وبدينهم -فخرهم الأبدي-، فلهم الشكر والمنة وإلا ما عرفت الأجيال الأصيل من المزيف.
يخطر بالبال هنا، شيخ "جليل" تلقيتُ كثيرا من "العلم" على صوته، من خلال تفسيره للقرآن وأجزاء كثيرة من البخاري، وأيضا شرحه لكتبه التي ألّفها كـ "هذا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يا محب" و "نداءات الرحمن لأهل الإيمان" و"منهاج المسلم" وغيرها، وهو أبو بكر "الجزائري"، شيخ جزائري رحل إلى السعودية وعاش فيها وحصل على جنسيتها، ولم يربطه بدزاير غير زيارات قليلة بجسده وبعض الدعوات الإسلامية بصوته من بلده الجديد الذي ظل حتى مماته يدافع عن مَلِكِه ضد كل مُنتقديه من الأدعياء، ويدعو له بالسداد والتوفيق. فليت أصحاب النظرية العروبية يتبعون خطاه فيكون لهم أسوة حسنة، ويتركون بلدانهم وشعوبها المسكينة بعيدا عن عنترياتهم وشعاراتهم التي عفّى عليها الزمن، وبانت نتائجها الكارثية مع البكباشي وصدام وبومدين والقذافي وإلى اليوم مع الأسد الصغير.
أود التشديد على الفرق بين العرب وبين أيديولوجيا العروبة؛ صناعة العرب المزيفين. الطعن في العرب وكراهيتهم لأنهم "عرب" عنصرية. أما الطعن في العروبة، وقول كل ما يخطر بالبال فيها، فهو نقد لأيديولوجيا مدمرة لا يمكن أن يُحرم، وحرية تعبير لا يُمكن أن تُجرَّم، بل وقضية تحرر كما يراها الكثيرون على الأقل في شمال أفريقيا وبصفة خاصة في المغرب ودزاير.
وإحقاقا للحق، يُوجد تداخل بين الإثنين، أراه ناتجا من الثقافة البائسة التي تتخبط فيها كل شعوب المنطقة التي تُلقي باللوم دائما على الغير. أي، والأصل في هذا الخلط منذ البدء، إلقاء كل المسؤولية على العرب القدامى لا على الأجداد الذين فُعِل كل شيء أمام أعينهم وبأيديهم حتى سياسة التعريب المستمرة إلى اليوم والتي لو رفضها الأدعياء ما استطاع "السادة" المطالبة بها ودعمها. طبعا أنا هنا لا أنفي أي مسؤولية للعرب القدامى والمعاصرين، لكني أقول لا أحد سيستطيع ركوب ظهركَ ما لم تنحني...
نكتة في هذا المضمار: العالم "العربي" أحمد زويل الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء 1999/ العالم "العربي" منجي باوندي الحاصل على نوبل كيمياء أيضا 2023، مقابل الراقصة المصرية فلانة ومجاهدات النكاح التونسيات...[رأيي الشخصي هنا: لا مصري ولا تونسي! بل هما أمريكيان نقطة! حتى إضافة من أصول مصرية أو تونسية، لا قيمة لها ولا تصح، والفخر إن جوزناه فهو لأمريكا فقط التي احتضنتهما ووفّرت لهما ظروف التألق والإبداع، وليس للعسكري أبو زبيبة وأخيه في السفه والدجل سعيّد!]
سؤال تساءلته كثيرا منذ سنين، ولا يزال يثير عجبي، وهو كيف يكون شخص ما ملحدا ويقول بالعروبة؟ والجواب: خلفية ذلك الملحد هي التي تُفسر، فهو سبح في بحور القومية "العربية" والماركسية العروبية وشرب من شعارات العروبة حتى الثمالة، ويوم اكتشف وهم الإله والإسلام وغيره من الأديان، لم يرَ وهم العروبة بل واصل مثلما كان منذ صغره، أي كأي مؤمن يُؤمن بدين أو أيديولوجيا ولا يستطيع إعمال عقله فيه/ ـها. والغريب هنا حقا، أن الأمر أبسط من البساطة؛ فمثلما لا إله خارج الأديان، وبسقوط الأديان يسقط الإله، كذلك لا عروبة خارج الإسلام وبسقوطه "من المفروض!" تسقط هويته العرقية المزعومة.
ربما يعكس واقعي الشخصي ما قيل، فأغلب الملحدين الذين أعرف إما خلفيتهم يسارية وإما غير متحزبين لا ينتمون لأي تيار فكري قبل إلحادهم، ووحدهم أصحاب الخلفية اليسارية من لا يزالون يأخذون بالعروبة، وهنا مقارنة وتساؤل غير بريئين، مع اليساريين في أمريكا الجنوبية وهم فاعلون ولاعبون أساسيون في بلدانهم: لماذا لا أحد منهم يُسمّي تياره "يسارا إسبانيا"؟ بل لو فعلها أحد حتى مازحا لاُتِّهم وحُوكِم بتهمة الخيانة؟
الكذب الذي تحدثتُ عنه في المقال السابق، يخص أيضا هؤلاء الملحدين القائلين بالعروبة، فهم يستحون من القول بأنها عرقية، فيهربون إلى الأمام قائلين بأنهم يقصدون "العروبة الثقافية"، وقولهم كذب صريح ونفاق لأن الأصل في العروبة هو ادعاؤها بأن كل شعوب المنطقة المقدسة "عرب" بالعرق لا بالثقافة واللغة، وهو -وهذا الأهم- اعتقاد الشعوب إلى اليوم! فمثلا يعتقد المصريون المسلمون أنهم "عرب" أقحاح غزوا مصر التي بقي فيها تلك "الأقلية القبطية"، والحقيقة أنهم كلهم بمسلميهم ومسيحييهم أقباط أي مصريون، كذلك يعتقد سكان شمال أفريقيا أنهم كلهم "عرب" وبينهم "قليل" من "البربر" والحقيقة أنهم كلهم أمازيغ عرقيا وبينهم أقليات لا قيمة لها من ضمنها العرب: بمرور السنين والقرون، الأقلية الوافدة ذابت في الأغلبية المحلية الحاضنة وليس العكس، وهذا ليس علما عويصا على الفهم، الوادي/ النهر يذوب في البحر وليس العكس! لكن الأيديولوجيا تجعل العكس هو الصحيح! والملحد يمكن أن يكون من أتباع الأيديولوجيات التي قلتُ عنها أنها سجون، و "من المفروض" أن من غادر أعظم السجون لا يدخل غيرها! لكنه حدث ويحدث...
بعض السذج من المتدينين، لا يزالون يُطلقون لفظة "الملحدين" وكأنهم إثني عشرية أو أهل حديث، فليعلم هؤلاء أني سأضع يدي في يد مسلم "كيوت" يعرف حقيقة العروبة على ملحد من الذين ذُكروا آنفا.
هدفي من المقال هو الكلام عن الملحدين وليس دعوة إلى إحياء الهويات الأصلية للشعوب، العروبة أيديولوجيا خرافية مدمرة يؤمن بها كثير من الملحدين، وعند مقارعتهم بالحجة يكونون كالمتدينين عندما تُكشف لهم مخازي أديانهم، أي تغييب العقل والدفاع الأعمى عما لا يُمكن أن يُدافَع عنه... هدفي هو القضاء على كل ما يُلصق بصفة "ملحد" من أشياء لا علاقة لها بإلحاده وبكونه ملحدا، ومن ضمنها العقل والمنطق والعلم والفلسفة! ومن مثال العروبة الذي لا يقول به إلا تجار الإسلام والشعوب المُجهّلة المُغيَّبة، أُقدّم دليلا على أن الملحد يمكن أن يكون كل الصفات التي تُقال عن المتدين أي الغباء والجهل وغياب العقل والمنطق والعلم:
بالمنطق شعوبنا ليست عربية والبحر لا يذوب في النهر، بالتاريخ ليست عربية التاريخ الحقيقي وليس الكتب الصفراء الإسلامية، باللغة ليست عربية واللغة العربية بالمناسبة نكتب بها فقط لكن لا يتكلمها أحد بل تراكيب جملنا وهياكلها أمازيغية وقبطية وسريانية ووو فيها الألفاظ العربية وهو دليل على أن الأصل ليس العربية، بالجغرافيا ليست عربية والعروبة في شبه جزيرتها، وحتى بالجينات ليست عربية! فكيف يزعم ذلك ملحد ثم يُدَّعى أنه العلم والمنطق والعقل ووو بما أنه "ملحد"؟!
أنهي كلامي الموجز هنا، وستكون لي عودة إلى العروبة في المستقبل... المقالات التي كُتبتْ حتى الآن كان هدفها قطع أي طريق على من يُريد وضع الملحد في خانة معينة، لا أحد يعلم ما يُخبئه المستقبل، وربما كلامي قد يُرى بعد قرون أنه حذّر من تدجين الملحدين واستعبادهم من مشايخهم أو قساوستهم الذين ظهروا في نهاية القرن الثالث والعشرين بعد أن انقرضت الأديان العبرانية ولم يعد يتبعها إلا بضعة ملايين من البشر البدائيين.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي