|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
أمين بن سعيد
2024 / 10 / 3
هذا الجزء من الكلام عن الإلحاد والملحدين، سيكون الأهم، ومن خلاله أواصل إبعاد صفة الملحد عن كل ما يُلصق بها، وأسأل: ما واجب الملحد تُجاه مجتمعه المتدين؟ الدين سجن خرج منه الملحد فهل من واجباته تحذير غيره مما يُوجد في ذلك السجن والعمل على إخراجه منه؟ وإذا لم يفعل لأي سبب كان، فكيف يُرَى ويُحكَم عليه؟ كثيرون منكم سيرون الأسئلة غريبة وربما تافهة، ولمن سيرى ذلك أقول أني منذ سنوات كنتُ وسط نقاش حاد كاد أن يتطور إلى عنف جسدي، والموضوع شخص أول يُعاتب الثاني ويرميه بأبشع الألفاظ لأنه ذبح خروفا لأبنائه أي احتفل بعيد الذبح؛ الأول يقول "عليكَ ألا تُربّي أبناءكَ على الأوهام... أيها المنافق الجبان!"، والثاني يرد أن "المناسبة اجتماعية وليس عنده وقت وطاقة ليُفهم أطفالا كيف يحرمهم من عيد يحتفل به كل رفاقهم... أيها المراهق الحالم!".
كلمة ابتدائية عن اللادينية: تعريفها "واضح"، وهو رفض كل الأديان... لكنه ليس بذلك الوضوح، فهو تعريف قاصر بل وخاطئ، لأننا نجد فرقتين لا ترفضان "كل الأديان" بل تترك أهم ادعاء جاءت به الأديان وهو فكرة الإله! فالربوبية تؤمن بإله كان وراء وجود الكون، ومعها اللاأدرية التي تترك احتمال وجوده دون أن تحسم في عدمه. ومن هذه الحقيقة يحدث أحيانا الصدام بين الملحد مع الربوبي واللاأدري، فيقول الملحد مستفزا أنكما تركتما القشور وأبقيتما على رأس الأفعى... ومما قيل، يكون الإلحاد آخر درجة في السلم، في قمة هرم رفض الأديان ومزاعمها، ويختص بالجزم الذي لا يحتمل الشك في عدم وجود إله. تفرد الإلحاد بذلك، يجعله لا يهتم لدقائق الأديان، فيغلب عليه عند كثير من الملحدين الطابع الفلسفي الذي ينأى بنفسه عن الكلام في شرائع الأديان وتتبعها ونقضها، وهؤلاء أشبههم بمن يقول تلك القرية غير مأهولة ولا يوجد فيها إلا الأفاعي والثعابين، نبيدها بقنبلة ثم ندخل. ومن المفروض هنا، أن اللادينية تدخل القرية وتتبع تلك السوام واحدة تلو الأخرى وتقتلها، لكن ذلك لا يحدث مع الربوبية خصوصا، حيث ما نراه عند الربوبيين يشبه من دخل القرية ولم يقتل كل ثعابينها وأفاعيها بل أبقى على كثير منها، ولذلك يصر الملحد على إلقاء قنبلة لتبيد كل السوام قبل أن يدخل القرية. النوع الثاني من الملحدين، هو اللاديني حقيقة والذي تنطبق عليه صفة اللادينية، أي الرافض لكل شيء زعمته الأديان، أي الذي يفضل -عكس الملحد الأول- دخول القرية وتتبع سوامها واحدة واحدة والقضاء عليها كلها ولا يترك بعضها مثلما يفعل الربوبي. هذا النوع الثاني هو الذي يمكن أن يُصبح نقيض المتدين الملتزم، أي يخطئ في تعريف الإلحاد ومن ثم الملحد، فيجعله منظومة مناقضة للدين، يتبعها "التزام" و "قضية" و "رسالة"، ومن لا يهتم لقضيته ورسالته من غيره من الملحدين يأخذ منه موقفا سلبيا قد يصل حد المقاطعة بل والعنف... حُقَّ للملحد الأول ولنسميه "الفلسفي" الترفع عن دهاليز الأديان العفنة والموبوءة، وله ذلك على الأقل لسبب واحد وهو أن النتيجة ستكون: إنسانا هادئا محاورا صلبا مؤدبا والأهم أنه الأقدر على قبول المختلف معه وخصوصا المتدينين، هذا الأول عادة ما لا يزوره الغضب والصراخ والسباب، فهو دائما يُغلب العقل في كل شيء، والعقل لا ينفصل عن الواقع الذي -وإن كان يرفضه جملة وتفصيلا- إلا أنه يكون واعيا بأن ذلك الواقع يلزمه وقت ليتغير، لا يستسلم أكيد، لكنه لا يستعجل النتائج، يقوم بما يراه صالحا لمجتمعه ومرضيا لضميره، وينام مرتاح البال، وإن كان في الشارع تحت شباك غرفة نومه امرأة تُرجم أو مرتد يُسحل. الملحد الثاني ولنسميه "الملحد اللاديني"، هو الذي من كثرة احتكاكه بأدران الأديان، يُشوّه بها، فيواصل تتبّع كل الثعابين في جحورها ويتعود على الغبار والروائح الكريهة التي يصعب إن لم نقل يستحيل أن يتخلص منها كلها: كلنا مررنا بهذه المرحلة، لكن فينا من استيقظ وفينا من لا يزال، لذلك الذي لم يستيقظ أقول: الثعابين التي قتلتها كافية، ولا أحد طالبكَ بقتلها كلها!! كان من تقرأ له من هؤلاء وإليكَ كيف استيقظ، والشكر لابن قدامة الفقيه الحنبلي! وللعثيمين! قرأت في السيرة كتبا كثيرة أهمها سيرة ابن هشام+ طبقات ابن سعد+ مغازي الواقدي + السيرة من تاريخ الطبري+ من البداية والنهاية + زاد المعاد + السيرة الحلبية + السيرة من بحار الأنوار للمجلسي+ وهنا الكارثة: كنتُ أنوي قراءة سبل الهدى والرشاد، ولمن لا يعرفه فليرى كم من مجلد وكم صفحة في كل واحد... محمد بن صالح العثيمين عندما سئل عن السيرة قال أنه اقتصر على البداية والنهاية! الكتب المذكورة تجد المختصين المسلمين من أكاديميين ومشايخ لم يقرؤوها كلها فهل يُعقل أن يقرأها بشر سوي العقل والمدارك؟ أما بن قدامة، فكان القطرة التي أفاضت الكأس، 2010 كنتُ أبحث عن نسخة مطبوعة للمغني برغم أنه كان موجودا عندي PDF، أحد الأصدقاء كان يعرف ذلك، فأهداني طبعة دار الحديث التي تقع في 16مجلد وفيها المغني مع الشرح الكبير لشمس الدين ابن أخ الموفق (صاحب المغني)، أي موسوعة فقه مقارن وعليها شرح أي موسوعة أخرى! سعادتي كانت لا تُوصف ذلك اليوم، فقد حصلتُ أخيرا على ما كان ينقص مكتبي الإسلامية -الورقية-، والتي تُشبه ما يُرى وراء المشايخ الذين ينشرون دروسهم على اليوتوب وربما أكبر! لماذا أشكر ابن قدامة وعندي كتب فيها مجلدات كثيرة كفتح الباري وتفسير الطبري والقرطبي والطبرسي والطوسي والكتب الأربعة وشرح النهج لابن أبي الحديد إلخ؟ لأني تلك الليلة، ولا أعلم لم، استيقظتُ ولعنتُ اليوم الأول الذي قررتُ فيه إضاعة وقتي وسهر الليالي حتى أسمع الآذان وأنا أتتبع الثعابين والأفاعي، وأيضا لأني كنتُ أريد شراء بحار الأنوار وهو كارثة يقع في 110 مجلد وليلتها عدلتُ عن تلك الرغبة المجنونة ومنذ تلك الليلة لم أشتر كتابا دينيا! تتبع الأفاعي خطر جدا، فأنتَ تغوص في بحار لغة قديمة لا يصلح ما تقرؤه بها لحياتكَ، اللغة في حد ذاتها مشكلة لأنها تُبعدكَ عن لغات العلم والحضارة، والنتيجة أنكَ -حتى وإن كنتَ ملحدا- سُيشوّه تفكيركَ ولسانكَ بل وإنسانيتكَ وأخلاقكَ غصبا عنكَ ودون أن تدري! لا يُمكن لأحد أن يعيش وسط القذارة ويخرج نظيفا زكيّ الرائحة، قطعا سيخرج فيه شيء من تلك القذارة! ولعل أهم القذارات التي تلتصق بمن يتتبع الثعابين العنف والغضب والعنتريات: شهادة، قد تفيد من بدأ تتبع الثعابين، يكفي ما قتلتَ، الآن غادر القرية! وإياكَ ثم إياكَ أن ترى تلك الأفاعي السامة القذرة علوما وفكرا وثقافة، يكفيكَ الحد الأدنى فقط... لنقل، عشرة ثعابين وعشر أفاعي، وليس الآلاف! الأخطر من العنف والغضب والعنتريات، هو الخلل في النظرة للإلحاد الذي لن يراه قاتل الثعابين إلا نقيضا للدين، وبالتالي يُصبح هو نقيضا للمتدين وليس أي متدين بل الملتزم، وهنا قد يحدث المحظور وقد يُدمر الملحد علاقاته بأقرب الناس إليه، لأنهم "أغبياء" و "مغيبين"! نعم، قد يفارق الملحد زوجته/ رفيقته لأنها تُصلي وتُسلم على الحبيب، وقد يقطع علاقته بكل أسرته لأنهم "كمشة مغيبين ومتخلفين" أي: أمه الطيبة، وأبوه المتفاني، وأخوته وأخواته الذين لم يضروا نملة يوما، وإذا ما فعل ذلك مع أسرته فتخيل كيف سيتصرف مع رفاقه وأصدقائه... كثيرون سيقولون أنها حالات شاذة، وأقول ربما، لكنها موجودة وعندما تُوجد تكون نتائجها كارثية والأصل في كل ذلك تعريف خاطئ ينتج عنه حياة قد تضيع سدى، بل ملايين المتدينين قد يعيشون حياة أرقى من ذلك الملحد، وهذا، "من المفروض"، لا يمكن أن يحدث! للذين يقولون أنها حالات شاذة، وتصرفات سنة أولى في مدرسة الإلحاد، أذكرهم بأشياء بسيطة: تخيّل أنكَ خُدعتَ من أعز الناس إليكَ، خيانة زوجة/ رفيقة، أخ أو أخت أو أم أو أب يتعمّد إيذاءكَ ويتسبّب في ألم شديد، رفيق عمر يخون ثقتك ويتسبّب في إفلاسك بل دخولكَ السجن، والأمثلة كثيرة: هل لن تغضب؟ لن تتأثر؟ أحدهم خدعكَ، ضحكَ عليكَ، لم يحترمكَ، حقنكَ بالسموم، كل شيء بنيتَ عليه حياتكَ كان أكاذيب وأوهام، مبادئكَ التي تشدقتَ بها، قضاياكَ المصيرية التي عشتَ كل عمركَ تعتقد أنها كذلك إلخ ثم تكتشف أن كل ذلك أصله هراء صعلوك من صعاليك عرب القرن السابع! مع مرور السنين، قد ننسى أول يوم دخلنا فيه المدرسة، وعندما نُدرّس في الجامعات قد ننسى أننا ارتجفنا وخفنا عندما كنا طلبة ونمتَحن، وعندما فات على إلحادنا عشر عشرين ثلاثين سنة قد ننسى بماذا شعرنا عندما فتحنا باب ذلك السجن، قد ننسى أيضا أن التجارب شخصية وشتان بين من كان لا تفوته صلاة حتى الفجر وبين من لم يدخل مسجدا في حياته، وإذا كان بعضنا محظوظين في البيئة الغير متزمتة التي وُلدوا فيها، آخرون كانوا لا ينامون من رعب عذاب القبر وكانوا يُضربون ويُهانون ليَصوموا وليُصلوا... اختلاف التجارب يُفسّر اختلاف المواقف بعد فتح الباب، وتَفهُّمها وإعذار أصحابها واجب، لكن ذلك يقتصر فقط على بداية الطريق.
فتح الملحد باب السجن، أمامه طرق كثيرة، من حقه أن يختار أي طريق منها، وإن كان العودة إلى السجن وإنكار الحقيقة التي لا تُنكر التي اكتشفها. كلنا نعود لذلك السجن في إطار دراستنا للدين، وكلنا نبحث عن تأثير ذلك السجن وشرائعه على مجتمعاتنا، لكن هل ذلك يجب أن يكون قاعدة؟ أي واجب على كل من خرج من السجن؟ والجواب قطعا لا، من حق ذلك الملحد أن يصمت وأن يعيش حياته بعيدا عن الضوضاء وعن مضيعة وقته فيما لا يعني، أي من حقه أن يرى المركب تغرق ولا يتكلم أصلا، وأعطيه العذر وهو: ما فُعل فيه من تلقين ديني وما تلاه من تشويه عقلي ووجداني، يبرر له أن يقتص واقتصاصه يمكن أن يكون لا مبالاته بكل ما يدور حوله، ولا أحد سيقول له أن إلحادكَ يُجبركَ أن تتكلم وتُوعّي غيركَ... سلوك لا أتبناه وأرفضه، لكني لن أقول بمنعه وتجريمه، وأشبه ذلك بالشتائم والتشنج في الحوارات، لا أستعملها لكني لا أمنعها وأراها وسيلة تعبير، سيئة نعم، لكنها تبقى وسيلة تعبير. اللامبالاة أنانية وسلوك منبوذ لكنه لا يُمكن أن يُمنَع عمن أراده لحياته: المركب غارقة لا محالة، وتقدّم هذه الشعوب المُغيّبة مستحيل، سكوت فلان أو علان لن يُغيّر في المستقبل المحتوم لهذه الشعوب شيئا، لكنه سُيغيّر حياة ذلك الذي قرّر الانسحاب، على الأقل فرد من ذلك الشعب المتخلف سيحيا مثلما يُريد أو للدقة مثلما يظن أنه يريد لأنه لن يستطيع كل ما يريد لكن على الأقل سيستطيع الكثير. هل الذي قيل "تطرف" ليبرالي؟ بل حرية شخصية لن يُنكرها حتى الماركسيون: شخص يُدخن منذ قرون، تعرف أنه يستحيل أن يُقلع عن التدخين، وتعرف أيضا أن السرطان قادم لا محالة، فلماذا تُضيع وقتك معه أصلا؟ نكتة جانبية وحقيقية: أحد مرضى سرطان الرئة غضب لطول حصة الكيمو لأنه يُريد الخروج، لماذا؟ ليُدخن!
ربما يظهر أن اللامبالاة أبشع طريق قد يأخذه ذلك الملحد، لكن الأبشع هو التطبيع مع الدين بل وتقوية الدين وجلاوزته، فهل يُعقل أن يحصل ذلك؟ نعم، يحصل، وصاحبه قل فيه ما شئتَ، لكن إياكَ أن تزعم أنه خالف إلحاده، لأن إلحاده قال له فقط لا تعد لذلك السجن، والقول ليس لا أمرا ولا واجبا، أشبهه بلا تُدخن لا تتعاطى المخدرات، إذا فعلتَ أنتَ حر ومسؤوليتكَ عما فعلتَ كاملة، لكنكَ حر! ستموتُ إذا لم تستعمل العلاج الفلاني، تُجيبني أرفض ذلك العلاج، أجيبكَ من حقكَ ذلك، من حقكَ حتى لو كنتَ على خطأ مليون في المئة، فقط امض هنا أنكَ رفضتَ العلاج وقررتَ المغادرة ضد الرأي الطبي. إذا كنتَ تقبل أن يُحقن شعبكَ يوميا وفي كل مكان بأهم أسباب انحطاطه وتخلفه وتُسمي ذلك حرية عقيدة، إذا كنتَ تقبل بنشر وإذاعة وبث تلك السموم على شعبكَ في كل زمان ومكان وتُسمي ذلك حرية فكر، فلماذا تستنكر على من يقول أنه ملحد ويدعم دعما صريحا ومباشرا بل ويتذلل للدين وجلاوزته؟ لا تملكُ أي شيء يمكنكَ من قول قولكَ إلا قولي: "من المفروض"!! أنه لا يفعل ذلك فهو ملحد ويعرف!! لكن أن يكون عندكَ مانع أو رادع أو نص أو تشريع كما عند المتدين فلا، بل حتى المتدين أحيانا كثيرة تُقدّم له الرادع الذي يعتقد أنه قادم من عند إله ويرفضه ولا يعمل به!
كلامي ليس دعوة بالطبع، بل أنا هنا أخذتُ أبشع مصيبتين يمكن أن يقوم بهما ملحد، وهدفي منهما نسف كل مزاعم من يُريد إدخالنا إلى سجن جديد هو بوابه وشيخه وقسيسه، وقولي بأن ذلك الملحد يستطيع، يعني أنه لا يوجد "رادع إلحادي" يمنعه، لكنه يتحمل مسؤوليته كاملة فيما أقدم عليه: من حقكَ أن تأكل مثلما تشاء، فقط لا تأكل البشر! عندما تسمن وتمرض لا تلم إلا نفسكَ، لكن من حقكَ أن تأكل ما شئتَ! نعم من حق الملحد أن يكون ما شاء، أن ينتمي لأي تيار فكري، أن يتبع أي فلسفة بل دين لو أراد! من حقه أن يكون حتى انتهازيا، أن يسرق، أن يكذب، أن يكون أسوء بشر على سطح الأرض، لكن مع تحمل مسؤوليته الكاملة التي لا يمكن بأي حال أن تُلصق بكونه ملحدا. بعكس المتدين الذي، كل خطوة يخطوها، وراءها نص يرن في أذنه، وأمر يجلد مؤخرته!
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |