تصحيح التاريخ وقراءة قراءة واعية في ضوء المتغيرات الواقعية والعطاءات المعرفية .

ياسر جابر الجمَّال
2024 / 10 / 2

ثمة تصورات متعددة حول كتابة وتفسير التاريخ، وعليها يؤسس تحليل الوقائع التاريخية، فمن ذلك القول بإن التاريخ يصنعه المنتصر وفق رؤيته، كما أن هناك من يصنع التاريخ، ومن يكتب التاريخ، وأي ما يكن فالتاريخ يخضع لمؤثرات متعددة تدور حول الواقعة أوالظاهرة التاريخية.
أما تفسير وتحليل التاريخ فيخضع لنظريات وتأويلات متعددة وفق أية المناهج التي نستخدمها في قراءة التاريخ، فالتعاقب الدوري في تفسير التاريخ يمثل منهجًا له فلسفته، وتصورات حول تفسير الظواهر التاريخية، ونظرية المادية التاريخيّة، ونظريات العامل الواحد، والاتجاه الديني في تفسير التاريخ.. فهذه المقدمات التمهدية حول كتابة وتفسير التاريخ رصدها لنا الكاتب الكبير السيد حافظ في مذكراته عندما قال :
- " في قضية كذبة مزورة في التاريخ.
يقولون:
- دخل العثمانيون إلى مصر وجمعوا العمال المهرة وأخذوهم إلى الأستانة ليستفيدوا منهم، ولم يرجعوهم". هذا ما حفظناه في الكتب... في ندوة مع بروفيسور تاريخ تركي في الكويت في الثمانينات.
سألت:
- "ألا يوجد معلومات عن 3000 مصري من العمال المهرة الذين أخذوا إلى الأستانة ولم يعودوا؟"
قال:" مصر في عهد السلطان الغوري كان بها صناعة، وكان هناك نهضة صناعية، لم نأخذ هؤلاء العمال لتحسين مهاراتهم، بل أخذناهم لتعليمهم، وعندما تعلموا، لم يعودوا"
سألت: "
- مثلما أرسلنا الطلاب الأوائل إلى المدارس الألمانية، هل عادوا؟
- لا، لم يعودوا"
فحكاية 3000 عامل ليست دقيقة، فقد كانوا يتعلمون واستفادوا وبقوا هناك. "( ).
هذه نقطة مهمة حول الوقائع التاريخية التي نتدارسها أو نعتبرها من المسلمات، وفي التاريخ لا توجد مسلمات، وإنما هي وقائع قد تقبل أو لا تقبل.
موقف أخر يحتاج منا إلى التأمل والتعمق في فهمه وتناوله بصورة موضوعية حتى يمكننا تفسيره بصورة صحيحة، يرصده لنا السيد حافظ في مذكراته عند الحديث عن الزعيم مصطفى كامل، وأنه وصف الشعب المصري بالكسول وأنه لا يستحق النضال، كما جاء ذلك في مذكرات الزعيم محمد فريد، والحديث عن الزعيم أحمد عرابي أنه تعرض للخيانة، وكشف ظهره أمام العدو الغازي.
حتى وقف عبدالله النديم خطيبًا فقال :"إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الإستبعاد، وربيتم في حجر الإستبداد، وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك الرعاع، وأنتم صامتون، صابرون، بل راضون، فلو كان في عروقكم دم فيه كريات حيوية، وفي رؤوسكم أعصاب تتأثر فتثير النخوة، والحمية، لما رضيتم بهذا الذل، وهذه المسكنة، انظروا أهرام مصر وهياكل ممفيس وآثار طيبة، أيها المصريون لا حياكم الله، ولا بياكم، ما دمتم تعيشون كالسأمة تأكل من حشائش الأرض، وتقبلون أيديكم المتشققة ظهرًا لبطن، أيها المصريون شمّوا رائحة أجسادكم فإنها نتنة، ونيل الله يجري بأرضكم، استمعوا إلى أنين أمعائكم وواديه يملؤه الخير، لعن الله من يقعد متفرجًا ملومًا محصورًا، لعن الله من لا يتبعنا، لعن الله من منع عن نفسه أطايب الطعام وهي حِلّ له، لعن الله من يكره الحرية".
في الحقيقة توجد مساحات من تاريخنا تحتاج منا للدراسة والتحليل العميق والنظر الفاحص، منها ما ذكره السيد حافظ في مذكراته من وقائع، وغيرها الكثير، كما أننا نحتاج إلى تحرير مسألة الموقف الشعبي حيال هذه الوقائع، وبالأحرى هل يمكن إطلاق أحكامًا عامة بخصوص الشعب واعتبار أن ذلك سلوكًا ومنهجًا في عهد عرابي ومصطفى كامل ومحمد فريد - الذي فقد كل ثروته من أجل النضال ضد المحتل، ولم يشفع له ذلك في استقدام نعشه إلى مصر حتى دفع أحد التجار تكلفة ذلك – وما سبقهم من أحداث وما تلاهم من وقائع.
الحقيقة التي يمكننا الإرتكان إليها وتقديم مقاربة يطمئن لنا الإنسان هي نحن بحاجة إلى دراسة سلوكية تتعلق برصد سلوك الشعب المصري على امتداد التاريخ وفي وقائع مختلفة حتى نتمكن من تحرير هذه المسألة.
يقول السيد حافظ:” عندما قرأت عن مصطفى كامل بعد ذلك، اندهشت من مذكرات محمد فريد التي تدين مصطفى كامل.. مصطفى كامل في الحقيقة كان يعبّر عن الشعب المصري بعبارات قاسية جدًا.. في مذكراته، وصف الشعب المصري بأنه أمة كسولة ولا تستحق النضال"( ).
هذه كانت رؤية مصطفى كامل حول الشعب المصرى سوء اتفقنا مع هذا الطرح، أو كان لنا عليه بعض الملاحظات، إلا أنه من المهم أن نفهم طبيعة الصراع القائم حول أمتنا إذا " إن هذا الصراع النفسي الذي تعيشه الشعوب بين العودة، والحفاظ عل الهوية الثقافية المحلية والتعايش بسلام مع الثقافات الأخرى، منها الغربية صاحبة الإمكانات التقنية الهائلة التي يسوق لها في كل أغلب المحافل العالمية، أو التصادم مع المركز العالمي من أجل التنافس معه حضاريًا حتى تكون هناك فرص متساوية للحياة، وما هذه الحروب التي تحصل وتملأ الأرض إلا ردات فعل لما هو مفروض على الأدنى، وما هذا التطرف الحاصل اليوم في العودة الى الاسلاف، ما هو إلا صورة أريد لها أن تكون حاضرة حتى يقال إن الصراع هو بين ثقافة وحضارة متقدمة وأخرى متخلفة، وهذا التوجه مت المركزية الغربية هو ليس موجهة فقط للأخر، الذي يقع خارج أسوار الحضارة الغربية ومفاهيمها المتمركزة في اللوغوس الغربي، بل هو أيضًا موجه نحو أفراد المجتمعات الغربية؛ لتأكيد اختلافها عن الآخر الشرقي، وهذه الممارسات لها سياقاتها في تشكيل العقل الغربي بصورة ممنهجة ومستمرة، أي ان هذه الممارسات لا تنطبق السيطرة على الخطاب بوصفها ممارسة اجتماعية فحسب، بل تنطبق أيضًا على عقول الذين يتحكم بهم، أي التحكم بمعرفتهم وآرائهم واتجاهاتهم وأيديولوجياتهم، وكذلك تمثيلاتهم الشخصية أو الأجتماعية، وبصورة عامة قد تكون السيطرة تعني – أيضًا – السيطرة غير المباشرة على الأفعال، وهذا ما يجعل عملية البناء المؤسساتي في الأنظمة السياسية، والاقتصادية الغربية تقوم على استطلاعات الرأي العام تجاه المواقف المعينة وخصوصًا في العصر الحالي على النظرة للآخر الشرقي وبالأخص الإسلامي، واستغلال ما يحرك من صور كولونيالية قديمة قائمة على أوصاف عدائية متجددة على وفق الحرب على الإرهاب، والمعنى القديم المطابق للإرهاب في العقل الغربي، هو الإسلام كما هي في ذاكرة الحروب الصليبية، وهذه النظرة وغيرها هي من شّكل الذاكرة الغربية المركزية وخطاباتها الكولونيالية في الثقافة؛ لذا فأن صورة المركزية العالمية ثقافيًا هي قائمة على مشروع بعيد المدى أنتج في مؤسسات متعددة المسميات، لكنها مشتركة الأهداف والغايات في إيجاد مساحات معرفية تستطيع أن تمارس من خلالها رغباتها في السيطرة و الإخضاع؛ لأن المركزية الأحادية السياسية والثقافية للمشروع الكولونيالي كانت نتيجة طبيعية لتقاليد العالم الأوربي الفلسفية وأنساق التمثيل التي أضفت عليها تلك التقاليد امتيازًا وقد اسفر ذلك في المقام الأول عن انتاج ممارسات الخضوع الثقافية، التي أعتبرها أحد نقاد ما بعد الكولونيالية (انكماشًا ثقافيًا) خلفته الأفعال الكولونيالية ضد الشعوب التي وقعت تحت السيطرة، والخضوع لها مما جعل في بداية الأمر تتولد صور سلبية قامت بالتركيز عليها في البناء الاجتماعي الاخلاقي لهذه الشعوب، وبالتركيز على الجوانب السيكولوجية من خلال توظيف بعض المفاهيم، التي أصبحت ملازمة للهوية المحلية ثقافيًا، ومن هذه المفاهيم المهمة، هي تأكيد معنى الاستلاب، والابتعاد عن الذاتية ما يولد إنفصال وإنفصام عن الشخصية وإرثها الثقافي والحضاري، الذي يستند عليه الوعي الفردي والجمعي في أي مجتمع قائم على بناء العلاقة الإيجابية مع جذوره، لكن الفكر الكولونيالي عمل على حصول هذا الإنفصال حتى يتمكن من بناء قاعدة فكرية، وأخلاقية جديدة تجعل من الوضع الثقافي الأصيل وضع مستلب وخارج عن الأصلانية، من خلال تهديم الصور الاجتماعية والثقافية المرتبطة بأهم الموروثات ودلالاتها في تشكيل الوعي الوطني والقومي، وحتى القيم الإنسانية المشتركة مع المجتمعات الإنسانية الأخرى؛ لأن مبدأ الاستلاب والابتعاد عن الذاتية تجعل من الفرد يعيش حالة اغتراب ذاتي مع من حوله من المؤسسات الوطنية وقيمها التي قام عليها المجتمع، وبالتالي يتحول هذا الإستلاب إلى مرحلة من التشكيك واليأس من الوضع الراهن الذي يعيشه الفرد في هذه المؤسسات، ومدى تأثيرها عليه في التواصل المعرفي والاجتماعي، والنفسي مع محيطه وبيئته الثقافية، وهذا ما ساعد وسهل عمل التغلغل الثقافي للعالمية ومركزيتها في الثقافات المحلية، وأصبح ما هو ثقافي عالمي مرغوب أكثر من المحلي؛ مما أدى الى السيطرة الثقافية ممارسة التهميش الذي أخذ صور ثلاث كان للآداب والفنون وغيرها من وسائل التعبير نصيبًا مهمًا في السيطرة وإخضاع الثقافات الأصلانية، ومن أولى هذه صور التهميش الذي يتقلص بالحضور، ويدني به الى حال أقرب الى الغياب، وثانيها اختيار ما لا يخلف في الوعي الثقافي العام سوى الاوهام التي يُراد تثبيتها والإبقاء على شيوعها، وثالثها رفض دعم ترجمة الآداب المهمشة والأنصراف عن نشر المترجم منها على اوسع نطاق؛ وذلك جنبًا الى جنب وتضييق دائرة التعريف بهذه الآداب إلى أبعد حد تجعل من الثقافات المهمشة تعيش العزلة المعرفية خارجيًا من خلال السيطرة على منافذ الترويج الثقافي، وداخليًا من خلال جعل المنتمين لهذه الثقافات يبتعدون عنها شيئًا فشيئًا، مما يولد الأغتراب الداخلي عن الثقافة الأم /الثقافة الأصلانية صاحبة الهوية المحلية التي يهدف الفكر الكولونيالي الى التخلي عنها لصالح الثقافات الاخرى." ( ).
ربما يكون هذا النقل الكبير الذي يمثل مساحة كبيرة في المصطلحات والدلالات الكبيرة يوضح لنا قدرًا كبيرًا من النقاط، التي نحتاج إلي فهمها حول طبيعة الشعوب، وما يمارس عليها حول تغيب ثقافتها الأصلية، التي حاول الأعداء اخفائها والقضاء عليها، وعلاقة ذلك بما نتحدث عنه والكلام حول الشخصيات الوزانة في المشهد الثقافي، والقضايا التاريخية التي رصدها السيد حافظ في مذكراته، هذا جميعه يخرج من بؤرة واحدة، وهي الهيمنة الثقافية للأخر وما فعله بثقافتنا الأصلية.
ثم يتطرق السيد حافظ في مسألة التاريخ؛ ليتناول الزعيم عرابي وما وقع له في الثورة على الخديوي، فيقول:" لم أكتب عن مصطفى كامل، فقررت البحث عن شخص آخر.. بدأت في البحث عن أحمد عرابي.. وجدت أن جده من أصل كردي جاء من العراق، ولكن هذا لم يكن يهمني. الشعب المصري هو أمة المهاجرين، ومنذ نشأته، لم يكن هناك اهتمام كافٍ بتاريخ المهاجرين.. قرأت أن بعض الناس لا يقرؤون التاريخ ويقتصرون على المعرفة السطحية"( ).
هذه نقطة مهمة في مسار التاريخ المصري، إذ أننا لدينا إشكالية في ذلك الأمر، فالدعوات القائمة حول أصل المصريين، هل هم عرب أم فراعنة أم....إلخ ، إشكاليات لا يمكن إغفالها أو عدم الالتفات إليها؛ لأنها يبنى ويؤسس عليها كثير من الأفكار والمسارات فيما بعد.
يقول السيد حافظ :" أنا أقول للشباب الجديد إن ميزتنا كشعب هو أننا أمة المهاجرين الشخصية المصرية ليس لها كتالوج محدد، فهي متميزة بكل عيوبها ومحاسنــها.. كما قال يوسف إدريس، إذا وضعت مواطنًا مصريًا واحدًا في مؤسسة أمريكية، سيبرز كأحد أفضل الأشخاص، ولكن إذا كان هناك اثنان من المصريين معًا، قد يتسببون في مشاكل داخل المؤسسة.
عندما تناولت حياة أحمد عرابي، اكتشفت أن كل من حوله خانوه، حتى الأزهر الشريف.. فمتى ستتقدم مصر إذا لم يكن هناك تطور في المؤسسات الدينية؟
وقدم الأزهر اعتذارًا اعما بدر منه من فتوى كاذبة حول أحمد عراب.. ويصدر قرارًا أيضًا من رئاسة الجمهورية بالاعتذار لعائلة أحمد عرابي، ويقوم بالإفراج عن خمسين فدانًا من أفضل الأراضي في المنوفية، والتي كانت محجوزة منذ أيام أحمد عرابي؛ بسبب تمرده على الخديوي.. إذا كان هناك احترام لمؤسسات الدولة، فإن هذا سيكون تقدمًا، وسيكون له أثر إيجابي على الأحفاد.
إذا اعتذر الأزهر، سأكون سعيدًا جدًا.. لقد وجدت شخصًا خان أحمد عرابي وكان محبًا له للغاية، وهو الشيخ محمد عبده، الذي أقدره كثيـرًا وأعجب بدراساته ومقالاته. لكن الشيخ محمد عبده أصدر فتوى ضد أحمد عرابي، وكتب ضده أربع قصائد سلبية.. أما أمير الشعراء أحمد شوقي، فقد كتب قصائد تتناول أحمد عرابي بسوء، وكان يمدح الخديوي ويشتم أحمد عرابي.. فماذا أكتب؟
أكتب عن من؟
كيف أكتب الحقيقة وكيف أقدمها للأجيال القادمة؟"( ).
في أيام مبارك، قام أحفاد أحمد عرابي بتقديم طلبات للقاء المسؤولين، لكنهم لم يستجابوا.
كيف أكتب وأحدد ما يجب أن يُكتب في ظل الوضع الحالي، حيث لا يزال البعض يجهل حقائق التاريخ ويصدق الأكاذيب؟"( ).
وصفوة القول إن هذا الجزء من مذكرات السيد حافظ – الجزء الرابع- الذي تناول فيه الحديث عن الشخصيات التي أثرت في حياته سواء إيجابيًا أو سلبيًا، إلا أنها تعطينا مساحة فكرية كبيرة حول حقائق التاريخ أو ما يجب أن يكون عليه التاريخ، كما أنها تضيء مساحات مظلمة في كثير من القضايا العالقة في أذهننا، وتؤسس للأجيال القادمة حقائق مهمة حول كتابة وصناعة الرموز التاريخية، من خلال إبراز من يستحق التقديم، وتأخير من يستحق التأخير

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي