سنية 2-2

أمين بن سعيد
2024 / 9 / 29

سنية، بهجة حياة، هدية أهدتها أجمل صدفة، وإن كانت بدأتْ بخسارة وبصراخ...
الوقت... ثلاث سنوات بعد رحيل ماما أختي زوجها والصغيرة ابنتهما، أمام عيوننا أنا وبابا، في حادث مريع... بعده، هجر بابا السياقة إلا للضرورة القصوى، أي عندما لا أستطيع إيصاله إلى كليته. في ذلك اليوم، كنتُ أقود، وقريبا من الكلية تعمدتُ مضايقة سيارة تعليم، وكانت سنية تُمتحن فسقطتْ، وعند السقوط يُوقف الممتحِن السيارة مباشرة وينزل الممتحَن. عاتبني بابا صارخا لحظات مشاكستي لسيارة التعليم وطالبني بالتوقف عن فعلي، وزاد صراخه عندما رأينا أن الممتحَن قد سقط. حصل كل ذلك في لحظات سريعة، أمام الكلية وحركة الطلبة الداخلين والسيارات والحافلات كثيفة... كنتُ أمام باب الكلية أنتظر المجال للدخول، وبابا مواصل توبيخه لي على ما صنعتُ، حتى قطعتْ سنية كلامه وأخذتْ مكانه في الصراخ والتوبيخ... أنزلتُ بلور النافذة وبقيتُ أنظر إليها مبتسما، وزادت ابتسامتي من سخطها لأنها ظنتني شامتا... سنية تصرخ، أنا أمام الباب وسيارات ورائي تطلب تحركي لتدخل الكلية... طلب منها بابا الصعود ففعلتْ مواصلة صراخها معيدة ما سبب ابتسامتي: "أنتَ أبوكَ دفع مصاريف الرخصة واشترى لكَ سيارة، أنا بابا لم يعطني فلسا وقال لي عندما تتزوجين زوجكِ سيقود!"
نزل بابا بسرعة، وفتح لها الباب فنزلتْ، اعتذر منها وأعطاها كرته، ووعدها بأن يتكفل بكل مصاريف امتحان الرخصة القادم، واعتذر منها أنه تأخر عن درسه وطلبته ينتظرون... بقتْ سنية واقفة، لم ألتفتْ إليها، لكني تعمدتُ مواصلة ضحكي ناظرا أمامي لأزيد من استفزازها، فاقتربتْ...
- ما الذي يُضحككَ قل لي؟! ألا تخجل من نفسكَ؟!
- اصعدي، حظكِ جيد أني لا أعمل هذا الصباح...
- حظي جيد! من تظن نفسكَ لتُكلمني هكذا؟
- اصعدي، الناس تنظر، يكفي ما فعلته حتى الآن...
- حقا لا تستحي! أنا الملامة الآن!
- مرة أخيرة... اصعدي...
- لن أصعد! لن أركب مع شخص غير محترم مثلكَ!
- طيب... سأنزل... إذا أردتِ صفعي فافعلي... ربما سيُطفئ ذلك من غضبكِ... اختاري الخد الذي تريدين...
- ...
- لماذا تضحكين؟
- حذاؤكَ...
- اللعنة! لم أتفطن...كنتُ على عجلة... يجب أن أعود للمنزل... تعالي معي... اركبي...
- قلتُ لكَ لن أركب!
- أنتِ مزعجة جدا، كثيرة البكاء والصراخ كأنكِ رضيعة... كم عمركِ؟
- ما شأنكَ بعمري! هل ستخطبني؟
- لا، لكن لأرى ماذا أشتري لكِ في طريقنا إلى المنزل... شكولاتة؟ حلوى؟ عروسة؟
- لم تأخذ شيئا من أبيكَ! هو طيب ومحترم عكسكَ!
- نعم... هو طيب أكثر من الطيبة نفسها... أتعبتني! اصعدي سأشتري لكِ عروسة وشكولاتة معا! أكثر من هذا لا أستطيع...
- ماذا تعمل؟
- اليوم أعمل فقط شوفير لبابا...
- قل
- طبيب
- أنتَ طبيب!! حتى للحيوانات لا تصلح!
- مهندس إذن
- ...
- لا أصلح مهندس؟ طيب... محامي؟
- ...
- محامي لا! طيب... معلم؟
- قل ما تريد
- عامل نظافة إذن... أو
- احتقاركَ للناس أكيد ورثته من أمكَ
- ... كانت أطيب من أبي...
- كانت؟
- نعم... تُوفيتْ منذ سنوات...
- سامحني، لم أقصد!
مع حضور عون أمن طلب مني مغادرة المكان الذي كنتُ فيه... إما أن ألتحق بمأوى سيارات الأساتذة وإما أن أغادر الكلية... "تعالي... اركبي"، فركبتْ بجانبي وغادرنا الكلية...
- تُوفيتْ صغيرة؟
- 58
- مرض؟
- لا حادث
- هل عندكَ أخوة؟
- أخت وحيدة
- أكبر منكَ؟
- لا، أصغر...
- والآن تعيشان معا، مع أبيكما؟
- لا، كانت متزوجة...
- كانت؟
- نعم... تُوفيتْ في نفس السيارة مع زوجها وابنتها وماما...
- ...! سامحني... لا أدري ما أقول...
- لا عليكِ... لم يبق لي غير أبي بعد الحادث، ولم يبق له غيري...
- لن أسأل أي سؤال! أخشى أن يكون وراءه شخص آخر مات...
- لا تهتمي واسألي أي شيء يخطر ببالك...
- أختكَ... كم كان عمرها عندما
- 26... اسمها سنية... كنا جميعنا نناديها "صوني"...
- صُدف غريبة...
- ماذا؟
- اسمي سنية، وعمري 26 سنة...
- 26؟ وماذا عن العروسة؟ والشكولاتة؟
- الشكولاتة لا أعمار معها...
- والعرائس أيضا...
- توقفتَ؟
- لأننا وصلنا... المرأة التي سترينها اسمها فاطمة، نعرفها منذ أن كنا صغارا... ناديها "أمي فاطمة"... تعالي...
عند دخولنا، قصدتُ المطبخ، وما إن رأتني حتى هرعتْ مبتسمة وقبّلتني هامسة في أذني: "هل سنفرح بكَ أخيرا؟" فأجبتها أنها... ونظرتُ إلى سنية... "صديقة". ثم قبّلتْ سنية وقالت لها أنها ستحضّر لها قهوة وحلويات لذيذة لم يأكل منها أحد... فتركتهما وذهبتُ إلى غرفتي لأغيّر حذائي، أول مرة يحصل معي ذلك؛ في اليمنى بني وفي اليمنى أسود! ثم عدتُ إلى المطبخ... قبل وصولي سمعتُ ضحكهما معا، وعند دخولي كان موضوع الضحك حذائي... بقينا بعض الوقت، ثم غادرنا، وعند الباب ذكّرتني أمي فاطمة بأدوية زوجها... في السيارة...
- أنت طبيب إذن؟
- اليوم شوفير، غدا نعم...
- ما مرض زوجها؟
- بداية الزهايمر...
- تبا!
- نعم...
- ...
- أين تُريدين أن أتوقّف؟ أنا قاصد المقبرة...
- لا أعلم... في أي مكان... حتى هنا...
- طيب، خذي رقمي... اتصلي... جيد... الآن عندكِ رقم الوالد، رقمي، والمسكن... ليستْ عادتي أن أفعل ما فعلتُ... ولا أعلم هل سأعتذر أم لا؟ لو أم أفعل ما كنتُ عرفتكِ اليوم...
- لا تعتذر إذن، أنا سأفعل... لا أعلم كيف تكلمتُ بتلك الطريقة معكَ وبحضور أبيكَ! أعتذر عن ذلك...
- مصاريف إعادة الامتحان سيتكفل هو بها، بالنسبة لي لا أزال عند قولي عن العروسة والشكولاتة...
- لا داعي لكل ذلك...
- هل تعملين أم لا؟
- تخرجتُ منذ ثلاثة أشهر، وأنا بصدد البحث عن عمل.
- ماذا درستِ؟
- مهندسة في البايولوجي الصناعية...
- بابا يُدرّس البيوكيمياء لطلبة البايولوجي والطب ويقوم بندوات وتربصات لشركات كثيرة... الحل سيكون عنده...
- لا داعي لكل ذلك... أشكركَ على كل حال... توقف هنا...
- الليلة أفاتحه في الموضوع، ثم أتصل بكِ...
- شكرا لكَ... لكن لا داعي...
قصدتُ المقبرة مُراجِعا كل الذي حصل معها، كانت نسمة حياة هبّتْ عليَّ ذلك الصباح، بعد فترة طويلة من الروتين واللامعنى... وكنتُ لا أزال ألملم نفسي وأطبّب جراحي بعد فقداني لماما وسنية بطريقة بشعة ومدمّرة...
عندما وصلتُ، وقفتُ أمام القبرين، قبر أمي وبجانبه قبر سنية ومعها ابنتها، كانت رضيعة لم تصل السنة... حاولتُ تمالكَ نفسي لكني لم أستطع، فبكيتُ... وجلستُ على قبر سنية، عند ساقيها، وكلمتها قليلا ثم وقفتُ لأغادر، فرأيتُ... سنية... تقف غير بعيدة، تنظر نحوي... كانت تنتظر أن أسمح لها، فأومأت لها بيدي...
- ماذا تفعلين هنا؟
- لا أعلم...
- ...؟
- عندما نزلتُ، أوقفتُ تاكسي مباشرة، وعندما سألني السائق عن وجهتي، طلبتُ منه أن يتبعكَ... و
- لا يهم...
- لا أعرف كيف فعلتُ ذلك، وتبعتكَ حتى هنا فتطفلتُ على شأن خاص! أعتذر أعتذر...
- تغيرتْ حياتي كليا بعد فقداني لهما... لسنوات حاولتُ التظاهر بالجلد لأساعد أبي، لكني لم أستطع مواصلة ذلك... ومن حسن حظي أني عندما ضعفتُ كان الأقوى فساعدني وأخذ بيدي...
- أتخيل صعوبة المصاب، ولحسن الحظ أن كل منكما وجد من الآخر السند عند الضعف...
- لن تصدقي ماذا فعل بابا وعلى ماذا أجبرني!
- أعرف منكَ أنه طيب، ورأيتُ ذلك هذا الصباح...
- طيب حتى التعفن والجنون! الصعلوك الذي قتل أمام عيني أمي وأختي وابنتها، أجبرني أبي على أن أطلب من القاضي التخفيف عنه وأن أزوره معه في السجن وأواسيه!
- لا أفهم... هذا يتجاوزني...
- قال أنه شاب صغير، كان ضحية لمشاكل بين أبويه، ولم يتعمّد الحادث الذي حصل!
- معقول؟
- نعم! 19 سنة، اكتشف في لحظة أن أباه سيطلق أمه لخيانتها له! سمعهما يتكلمان، فسرق سيارة أبيه ودهس بها سيارة أختي... تعلمين... كانت صيدلانية، وصيدليتها تنتظر الافتتاح بعد أسبوع من يوم رحيلها! غضبتُ منها في البداية لأني أردتُها طبيبة، لكن بعد ذلك كنتُ فخورا بها... لا أزال لا أفهم كيف قبلتُ ما فرضه عليّ بابا، أُجبرتُ على ذلك أيام ضعفه!! بعد أن أوهمه أحد زملائه في كلية الطب أنه بالمغفرة سيتجاوز حالة الانهيار التي طالتْ به...
- إذا كنتَ تعتقد أنكَ خُنتَها بالوقوف مع أبيكَ فأنتَ مخطئ...
- على كل حال أن تغفر أو لا، لن يُعيد ذلك من غادر إلى الأبد... تعالي... لنُغادر...
عندما غادرنا المقبرة، مشيتُ دون كلام واهتمام، لاحظتْ سنية ذلك، فتوقفتْ لكني واصلتُ سيري حتى وصلتُ السيارة، ولحظتها انتبهتُ أنها ليستْ معي، فالتفتُّ... كانت المسافة بيننا قرابة الثلاثين مترا، لم أشأ الإشارة بل قررتُ العودة إليها...
- عندنا بعض الجنون في العائلة... أعتذر عن ذلك...
- جنون جميل...
- ليس دائما.
- العالم الذي قدمتُ منه مختلف اختلافا جذريا عن عالمكَ... اعذرني لكني منذ قليل... فكّرتُ في نفسي وتساءلتُ: هل لو متُّ سيشعر بي أحد من أسرتي؟ وكان جوابي لا بالقطع...
- غير صحيح، كل البشر يفتقدون...
- ستبكي أمي أياما، أما أبي فسيبحث عن تهمة يلصقها بي فتكون سبب وفاتي، وأخوتي سيفرحون لأن لا أحد سيُنازعهم الميراث!
- أنتِ غنية إذن...
- الغنى يخص الذكور لا الإناث، الأنثى مصيرها رجل يُبعدها، لذلك لا يجب لها أن ترث، وإلا ضاع ما بناه الأجداد، عند الغرباء...
- الصغيرة؟
- نعم، وبعد ستة أولاد!
- عدد مخيف...
- كانوا يريدون ولدا آخرا، حتى أمي!!
- من المفروض أنها تكون تنتظر بنتا...
- من المفروض...
- وماذا يعمل كل منهم؟
- فلاحون وتجار
- لم يدرسوا؟
- الدراسة لأبناء المدن اللارجال، لا للرجال أبناء المنطقة، وما يجنيه طبيب أو مهندس طيلة سنة لا يعادل صابة ثوم أو بصل أو صفقة خرفان فترة العيد!
- تمزحين؟
- ليتني كنتُ!
- وكيف سمحوا لكِ بالدراسة إذن؟
- المعجزات تحصل! وفي الأخير، ستدرس في العاصمة وأكيد ستتعرف على أحدهم فتبقى هناك بعيدة عنا ونتخلص منها!
- غريب... كأنكِ تتكلمين عن ستينيات القرن الماضي...
- نعم غريب! ربما كان ذلك من الأسباب التي دفعتني دون أن أشعر إلى اللحاق بكَ، كانت لحظات حزينة بالنسبة لكَ... لي أيضا، لكنها كانت جميلة، جمال أسمع عنه وأراه في الأفلام والمسلسلات لكني لم أعرفه يوما...
- نعم غريب! أنا مستعد أن أعطي عمرا لأنعم بلحظة مع أختٍ وحيدةٍ اختُطفتْ مني، وسِتَّتُهم عندهم أخت واحدة ولا يأبهون...
- دنيا غريبة...
- البشر غرباء، لا الدنيا... الدنيا صلصال للتشكيل، ولوحة وألوان للرسم...
- كأنكَ لا تُؤمن بالقدر؟
- لا أؤمن بأشياء كثيرة، حتى بزيارة القبور... لكني أفعلها... عندنا بعض الجنون في العائلة مثلما ذكرتُ... تعالي معي... لنُغادر.
- عندي موعد مع صديقة...
- آخذكِ إليها إذن... إذا لم تُلغي الموعد...
- تُريدني أن ألغيه؟
- نعم... وعوض الذهاب إليها، نبحث عن مكان فيه عرائس جميلة...
- أفعل.
الذي جذبني إليها ذلك اليوم كان ببساطة عملية إسقاط، منذ سنين لم أستطع تجاوز خسارة سنية، فكانت دون أن أشعر البديل الذي حضر من حيث لا أعلم. لم تكن تستهويني لا العلاقات العاطفية ولا حتى مجرد الصداقة، والمكان الوحيد الذي كان موجودا عندي وقتها هو الذي أخذته... سنية.
أمضينا بقية اليوم معا، وفي الليل كلّمتُ بابا في شأنها... في الغد اتصل بمعارفه، ووجد لها وظيفة في شركة من الشركات التي حاضر لإطاراتها... بعد سنة، وكنا نتعشى ثلاثتنا، اقترح عليها بابا أن تنتقل للسكنى معنا، فرفضتْ في البدء لكنها قبلتْ بعد إصرارنا أنا وأمي فاطمة... بعد سنة تقريبا من انتقالها معنا، أعلمتْ أسرتها...
- أخيرا اتصلتِ! اتصلتُ بكِ مرات عديدة...
- أعلمتهم...
- ثم؟
- غضبوا! يظنون أني على علاقة بكَ!! وربما بعم محمد معكَ!!
- وماذا ستفعلين؟ هل ستمضين بقية اليوم هناك؟ أستطيع الخروج إليكِ الآن...
- لا أعلم... لا أعلم! انتظر سأعاود الاتصال...
بابا كان يسمع، كان يوم أحد، وكنا نتغدى...
- ما الذي يجري؟
- قالت أنها أعلمتْ أسرتها بعيشها معنا، ولم يقبلوا بذلك...
- تتذكر كلامي؟
- نعم!! ولن أقول أني كنتُ على خطأ!! سأذهب إليها، لن أتركها لتلك العائلة البائسة المتخلفة!!
- اجلس! ولا تتحرك من مكانك!
- أخوتها تُجار وفَلّاحة لا يعرفون إلا روائح البصل والثوم والتوابل والنعاج! أناس لا يعيشون معنا في عصرنا!!
- هل هذا كلام طبيب أم كلام طفل مدلل خائف أن تُفتكَّ منه لعبته؟
- قل ما تريد! سأخرج!
- قلتُ لكَ لن تفعل!
- ناس وحوش يا أبي!! ربما ضربوها أو قيدوها وسجنوها!!
- لا تُبالغ، ثم ليستْ قاصرا، ستعرف كيف تتصرّف... وفي الأخير إنها مع أهلها!
- نحن أهلها! وليس أولئك الجهلة الأقذار!
- ما خشيتُه وقع...
- أبي!! رجاء دعكَ من كل هذا! أنتَ من دعوتها لتعيش معنا أُذكِّركَ، أنتَ من بدأتَ لا أنا!
- طيب، وماذا ستفعل في المستقبل؟ ستمنعها من زيارة أهلها؟
- ليسوا من مستواها، ولا يُمكن أن أقبل أن يمسّ أحد منهم شعرة منها!
- بصفتكَ ماذا؟
- لستُ طفلا مدللا، لكني لا أُنكر مثلكَ...
- لا أُنكر، لكن عليكَ أن تتعقّل وأن تُراقب تصرفاتكَ ومواقفكَ...
- ماذا تريدني أن أفعل الآن؟! ربما افتكوا منها الموبايل! يا أبي ناس متخلفون ووحوش قلتُ لكَ!
- انتظر، ستتصل...
أمي فاطمة، كانت في بعض شأنها، ولم نتفطن لعودتها، ووقوفها عند الباب... تقدمتْ ووقفتْ بجانبي ووضعتْ يدها على كتفي... وقالتْ: "البسمة عادتْ لهذا المنزل معها، إياكَ أن تتركها يا بنيّ... أكملتُ كل شيء... سأغادر الآن".
لم تكن عادتها الكلام وإبداء الرأي في حضور بابا، لكنها فَعلتْ تلك المرة... ووقع كلامها كان غريبا، جعلنا نبقى لحظات طويلة ننظر لبعض دون كلام... حتى اتصلتْ سنية...
- نعم... ما الذي حصل؟ هل أنتِ بخير؟
- نعم، لم تمر الأمور مثلما أردتُ لكني... بخير...
- ما الذي حصل؟
- لا شيء يستحق الذكر
- بابا بجانبي، ومنذ اتصالكِ الأول ونحن ننتظر بفارغ الصبر! فما الذي حصل؟ هل آذاكِ أحد؟!
- قلتُ لكَ لا شيء يستحق الذكر... مجرد كلام لا قيمة له قالوه... لا أكثر ولا أقل...
- طيب! وهل ستبقين معهم بقية اليوم؟
- لا أعلم...
- هل أستطيع فعل شيء؟
- لا أعلم...
- طيب، كم يبعد المنزل عن القرية؟
- 4 كيلومتر تقريبا
- تستطيعين الذهاب إليها؟
- لا أعلم... المطر ينزل بغزارة عندنا.
- لا يوجد أي إمكانية؟
- سأتصرف...
- جيد أنا قادم.
عندما قال لي أبي أنه يريد مرافقتي، ابتسمتُ ولم أقل شيئا. العيون قالتْ كل شيء، لم أكن وحدي فيما شعرتُ به، بل كان مثلي وأكثر... في الطريق، تكلمنا في شأنها، ووضحتُ له بالتفصيل طبيعة أسرتها والعالم الذي لا تزال تعيش فيه، فسمع ولم يُجب...
- أمر آخر يا أبي... لو كان عندها سيارة، لكنا مطمئنين أكثر، ولما احتجنا لما نحن فيه الآن...
- يا ابني تمهل ولا تُكثر عليها! لن تقبل وسيُحرجها ذلك...
- لحسن الحظ أني لا أعمل اليوم! وإلا كانت بقيتْ معهم إلى الغد! يلزمها سيارة يا أبي، وستقبل، دع ذلك لي...
قبل وصولنا القرية، اتصلتُ بها، فدلّتني على المكان الذي كانت تنتظرنا فيه. وبرغم المطر، لاحظتُ أنه كان قريبا من مركزِ شرطة، فلفتُّ نظر أبي إلى ذلك...
- أنتِ مُبللة...
- انقلب الطقس في لحظات، لم أتوقّع نزول المطر
- لسنا مجبرين على العودة الآن، نستطيع الذهاب إلى أيّ مكان تريدين... ما رأيكِ؟ عندكِ اقتراح؟
- لا... أريد فقط العودة إلى منزلنا...
- ... ماذا قلتِ؟
- نعود إلى المنزل، أريد الاستحمام وتغيير ملابسي المبللة...
- حاضر... لكن
- ماذا؟
- مللتُ من الاضطهاد الذي أعيشه منه ومنكِ!
- أي اضطهاد؟
- أنا طبيب ولستُ شوفير! أفكّر في القيام بثورة... لن أواصل تحمّل هذا الظلم!
- تريدني أن أشكركَ الآن؟ لن أفعل! ثم من أذن لكَ بالكلام؟ قم بعملكَ واسكتْ... سائق مزعج!
- قريبا يُصبح عندنا شوفير جديد، ووقتها أنتقم...
وقد كان، بعد مدة قصيرة. وصارت المتكفلة بإيصال أبي إلى كليته، وبكل ما يحتاجه المنزل... صارتْ... سُنية التي رحلتْ دون عودة!

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي