|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
اسماعيل شاكر الرفاعي
2024 / 9 / 20
إعصار فرنسين
1 )
ليس الإنسان وحده مَن يمارس الغزو ، الطبيعة ايضاً تمارسه لأسباب وغايات لم يكتشف الإنسان قوانينها بعد ، او قل لم يرد ان يستبق هيجان ظواهرها العنيفة بالسيطرة عليها وتهدئتها : وتحويلها من عنيفة إلى ظواهر سلمية ترش على البشر امطار الإحساس بالسعادة والجمال ، فيخرج الناس لملاقاتها بالترحيب في مواكب جماعية او مارشات تخلو من عزف نشيد خلاص البشر او تقديم النذور والاضاحي . وكما اضفى الإنسان الشرعية الدينية على غزواته : اضفى الأنسان العارف باسرار المناخ وتغيره والأجواء والتلوث : على ظواهر الطبيعة العنيفة : شرعية علمية .. أنا هنا امنح الطبيعة شيئاً من الروح ومن التفكير : فارى في افعالها شيئاً من القصدية التي اضطرّتني في المرة الأخيرة على متابعتها وجمع المعلومات عنها بطريقة الخائف المتوجس الحذر ، وهي طريقة لا تشبه طريقة علماء الاجتماع او علماء الاناسة الذين يصرون على استعادة المناخ القديم لما يعثرون عليه من وثائق وآثار فيتلمسونها ، ويعملون عليها بحواسهم الخمس قبل ان يمنحوها شرعية الحدوث ….
2 )
ومع أنني في متابعتي الأخيرة لعاصفة او إعصار فرنسين يوم 12 - 9 - 2024 : لم أر فرساناً ولا ومحاربين ولا جامعي غنائم الّا ان العنف الذي تبديه هذه العواصف في مواسم معروفة للاميركيين : يتكرر وتتكرر معه مشاهد خراب المدن وسواحلها ( وهذه هي غنائم العواصف ) وما يلحق سلطاتها من إرهاق السهر على وضع الخطط ومتابعة تنفيذها …
3 )
في الأشجار المطروحة أرضاً ، في التلف الذي اصاب أعمدة الكهرباء ، في انهمار المطر المتواصل ، في خلو الشوارع من المارة ( اقصد خلوها من السيارات ، اذ لا يوجد في شوارع امريكا : سابلة وحيوانات ) وانحباس الناس في بيوتها ؛ ما يشير إلى آثار معركة انتهت تواً بين الطبيعة والإنسان . الخسارة الكبرى كانت في العُطل الذي اصاب الكهرباء وتمت معالجته في أوقات متباينة ، بعضها استغرق ساعة او اقل ، وبعضها اكثر من ساعة وساعتين ، وفي بعض المناطق استغرق إصلاح العطل ما يربو على الخمس ساعات ، وقد وصل معدل إصلاح العطب في كامل جنبات وضواحي المدينة إلى أربع ساعات : استعاد فيها الإنسان شمسه الصناعية التي لا تقل اضاءة ، عن الشمس في انارة الوجود وهزيمة الظلمات …
4 )
شعرتُ بشيء من الحيوية والنشاط مع صوت سيارات النظافة التي بدأت ترود شوارع المدينة لرفع الأنقاض والبحث عن المجاري المسدودة بصخرة ( عبعوب ) . وقد ذكرني هذا المنظر بغرق بغداد المتكرر مع كل زخة مطر ، وكان أمين بغداد وقتها يفسر الغرق بمؤامرة كونية : صهيونبة أمريكية وضعت أحجاراً ضخمة في مجاري مياه الغسيل . وجعلتها تطفح بمياهها الآسنة . والحق ان الإسلاميين الذين عادوا إلى العراق بعد ان أطاحت امريكا بنظام صدام حسين : يحاسبون الشعب العراقي على دفع أتعابهم في ( الجهاد والنضال ) ، فلقد سلعّوا نضالهم ووضعوا له سعراً خيالياً : اذ حسبوا ان سعر كل ذرة من ذرات الغبار التي علت ملابسهم نتيجة غبار الطريق بين بغداد ودمشق او بين بغداد وطهران : يكون سعرها مليار دولار ، والى ان تنتهي هذه المعادلة الرياضية تكون البشرية قد عبرت مرحلة استعمال الطاقة الأحفورية إلى مرحلة استخدام طاقة نظيفة صديقة للبيئة ، فيتراجع سعر برميل النفط إلى سعر لا يسد حتى تكاليف إنتاجه …
5 )
شيء ما يشبه الفرح تلبسني مع أنني لم اعش تجربة التهيؤ لمواجهة عدوان الطبيعة لأول مرة في امريكا ، فقد عشت هذه التجربة عدة مرات اشهرها : عاصفة كاترينا عام 2005 التي سحقت مدينة نيواورلينز التاريخية ( وان تمت استعادة عافيتها في بضعة اشهر ) …
6 )
من الضروري مقارنة صفات وظواهر الطبيعة ، بصفات وظواهر الاجتماع البشري . في هذه المقارنة تبرز الصلات والوشائج التي تربط بشكل دائم بين الطبيعة والإنسان . فمراحل تطور الإنسان الاجتماعي ( لكي لا نقول البيولوجي ) هي مراحل اكتشافه المتتابع للطبيعة ومعادنها المختلفة ، فكل مرحلة تأخذ اسمها من عنصر الطبيعة الذي تم اكتشافه ، وتستخدمه اكثر من سواه ، فيطغى استعماله على سواه من عناصر الطبيعة التي كانت تصنع قوة الجماعة قبله . فالعصر الحجري هو عصر استعمال البشر للحجر فقط في صناعة الأدوات التي يحتاجها للصيد والادوات المنزلية . ثم جاءت عصور استخدام المعادن . لقد ترقّى الإنسان اجتماعياً مع توسع معارفه العلمية واكتشافاته المتزايدة لمعادن متنوعة استخدمها في مباشرة بناء حضاراته الأولى القديمة . اما عصرنا الحالي فقد توجهُ الإنسان باكتشاف الذرة وانشطارها والصناعات الإلكترونية المدهشة ، وصناعة مركبات غزو الفضاء وإصلاح الآثار السيئة التي تركتها يداه على الاستخدام السيء للطبيعة . لقد امتهن الإنسان الطبيعية ، وجعل معادنها وثرواتها الطبيعية سلعاً وبضائع للبيع في سوق ( نخاسة ) خاصة بالإنسان ، فيشتريها مَن هو قادر على تحليلها وإعادة تركيبها صناعياً وتحويلها إلى مكونات ستجعل منه الأقوى والأكثر قدرة على المنافسة بصناعاته الجديدة واقوى بما لا يقاس من الصناعات الأقدم …
7 )
لم يدخل الإنسان بعد بوابة التحرر من التركة الرأسمالية الثقيلة . تركت العنصرية والتنافس الشرس وتخريب الطبيعة ، وهي المرحلة الواجب تركيز الجهد الفكري عليها إذا لم يرد الإنسان ان بحوّل الطبيعة إلى جهنم تلتهمه قبل ان تلتهمه بعد الموت ؛ نار جهنم زرادشت ، ونار جهنم الإيطالي دانتي او جهنم سجين المحبسين بتعبير طه حسين او جهنم شاعر المعرة الذي رثاه الجواهري بقصيدة هي الأحلى والأروع إلى جانب يا دجلة الخير :
قف بالمعرة وامسح خدها التَرِبا
واستوحِ مَن طوّقَ الدنيا بما وهبا …
8 )
ما زالت الطبيعة تغزو الإنسان ، وما زال الإنسان يغزو الإنسان لأسباب يعرفها القوي الذي اكتشفت له علومه ومناهجه في التفكير العقلي معادن جديدة : يعمل على تحليلها واستخراج قوة جديدة منها غير مسبوقة ، ولا يعرفها الإنسان الضعيف لان امتلاك القوة عنده يكمن في امتلاك القدرة على التعبير البلاغي ، واكتشاف المعنى في التعبير البلاغي الموروث : في الكناية والاستعارة والمجاز وظلال المعنى …
9 )
أقسى الأشياء تلك التي تجعل العقل البشري يتنازل عن شرط وجوده المتمثل بطرح الاسئلة والبحث الدؤوب عن اجابات لها . حين يتخلى العقل عن آليات اشتغال منطقه الداخلي ، ويرضخ للقوة المسيطرة التي ستطالبه : بأن يبرر لها منطقياً وجودها اللامنطقي وافعالها العبثية ، وان يستنبط لها المعنى من ركام ما تستظهره من طلاسم وأحجيات : وهذه هي آفة العقل العربي في هذه المرحلة التي اشترطت فيها عليه القوة ان يشجب الغزو الاستعماري : في جانبه العسكري ، وحرمت عليه تبيان أسباب استمرار وجود الاستعمارين الاقتصادي والسياسي . كما اشترطت علبه : ان يجعل من غزو القبائل العربية لمحيطها الاقليمي عدالة كونية : امر بها اله الكون ، وأمر ان تكون عوائل قريش هي الحاكمة وان تتصرف لوحدها بواردات الغزو : وهي واردات فلاحين فقراء : كتب الإسلام عليهم باسم الله ان يكدحوا في أراضي العراق وبلاد الشام وايران ومصر وشمال أفريقيا ، وان يسلموا ما ينتجونه من ثروات إلى الأمويين تارة أو إلى العباسيين أو إلى العلويين أو إلى آل الزبير : شبيه ما تفعله شعوب المنطقة اليوم : فتسلم واردات نفوطها وغازها إلى آل سعود او آل نهيان او آل مبارك او الولي الفقيه او … إلخ …
امريكا ، ولاية لويزيانا
13 - 9 - 2034
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |