لازانيا

أمين بن سعيد
2024 / 9 / 20

السخرية خطها الأحمر الذي لا يجب أن تتجاوزه: الاحتقار... في القادم، سأقترب كثيرا من ذلك الخط، دون تجاوزه بالطبع، وسيكون أول منشور أفعل فيه ذلك...
٠
سخر أحد الملحدين، سامحه الله، من نزار قباني ومن نعته بشاعر المرأة، قائلا، من غير المعقول أن يمضي شخص سوي حياته يتكلم ويتغزل بالنساء... جازاه الله بما يستحق! فأنا كرسول الله حُبِّبَ إليّ من الدنيا النساء، ولا أشبع منهن ومن الكلام عنهن! يروى عن رسول الله أنه وُلد مختونا، ويُروى عن أمي أني وُلدتُ "منتصب القامة"... يقال عن الخبر الأول اليوم أنه ضعيف، أما الثاني فكثير من أخوتي شككوا فيه، ربما للحسد: يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله! أخواتي التزمن الصمت والسكوت علامة الرضا، أما أبي عندما سألته عنه قال: "استح يا ولد! ما هذا الكلام؟!"... شهرة الخبر تؤكد أن له أصلا، وتضارب شهادات الرواة تطعن في صحته. لكن الحكم النهائي الذي وصلتُ إليه بعد دراسة معمقة أضنتني سنوات، أن الخبر "حسن" والحسن يُعمَلُ به مثلما يُعرف عند المحدثين...
٠
لم أعد أستطيع الإنكار! هي أهم من لازانيا!
أذكر يوم اتصل بي أحد الأخوة ليعلمني أن الأب مات، كنتُ آكل لازانيا، وكنتُ سعيدا بها... عندما سمعتُ الخبر لم أتوقف عن الأكل، لم يكن الأمر جوعا بل كان حبا فأنا كما يعلم عني الجميع: أحب اللازانيا!! أكملتها كلها، ثم غسلتُ يدي وفمي وحككتُ أسناني بمعجوني المفضل، ثم طلبتُ قهوة ودخنتُ ثلاث سجائر وأنا لا أزال تحت تأثير لذتها، ومع انتهاء الثالثة، فكرتُ في أبي: اللعنة! لقد مات! اللعنة! أكثر من 400 كيلومتر سأقطعها! وبكاء أمي التي منذ وُلدتُ تدعو عليه بالويل! وبكاء أخواتي وأخوتي وخالاتي وعماتي! تساءلتُ عن الكلب هل سيبكي أم لا؟ وقلتُ إنه الوحيد الذي لن يفعل برغم أنه الوحيد الذي كان يحب أبي...
المهم، قررتُ الاتصال بها لأعلمها باكتشافي حبي لها لحظة صلاة الجنازة! انسحبتُ عندما أنزلاه إلى قبره؛ الشيخ الخبير بالجغرافيا والاتجاهات لينظر أبي إلى القبلة المقدسة، وأحد الأخوة الخبير بتخليد المناسبات وقد أوصى ابنه بأن يصوره وهو عند رجلي أبيه في مثواه الأخير... لم أهتم لكل ذلك، واهتممتُ فقط لاكتشافي الذي اكتشفته لأول مرة!
نعم هذه الأخيرة أحبها وهي التي انتظرتها كل هذا العمر! ما دامت أهم عندي من لازانيا وأنا جائع فهي أكيد تستحق... الاكتشاف الذي وصلتُ إليه! الذي سيفتح لي الباب الذي لم يُفتح منذ وُلدتُ...
أنا ابن بحر، ومتعصب لا أحب إلا ما يخرج منه! إحدى الغبيات دعتني مرة لتناول لازانيا، ولم تكن بغلال البحر فتركتها وخرجتُ! غبي آخر وكنا سنبرم صفقة، آثر أن يكون ذلك في منزل له في ضيعة، ودعاني على شواء... لحم خرفان ولا أعلم ماذا غيرها، ولم يكن فيها حوت! فقطعتُ كل صلة به، وحتى الأعمال التي كانت بيننا أنهيتها! كل من يعرفني يعرف القصة، وكل من أراد أي شيء مني يعرف الطريق، ومن جهل الطريق لم يُفتح له الباب! هكذا هي الأمور معي...
تغضب مني بعض النساء عندما أقارن المرأة باللازانيا، ولا أفهم حقيقة لِمَ برغم ما أقدمه لهن من حجج دامغة؟! الرائحة اللذيذة هي هي، الطعم اللذيد هو هو والحرارة هي هي! مع شيء لم أسمع به عند أحد من البشر غيري: لذة اللازانيا "تنتصب معها القامة"، ولذة النساء تمتلئ معها البطن! ولا أقول سبحان الله بل سبحاني والأمر على حد علمي استُثنيت به عن كل البشر! عندما يكون عندي موعد مع إحداهن لا آكل شيئا منذ الصباح ولا أشرب حتى قهوة، لأن بطني ستمتلئ ليلا ويجب أن تكون فارغة كي لا أقلق. يُشبه الأمر تلك المسابقات التي يأكل فيها المتسابقون الكثير، ومن بديهي تحضيراتهم أنهم يدخلون المسابقة بمعدات فارغة. اللازانيا نفس المبدأ معها، لكن مع تحولي إلى بورن ستار: "انتصاب القامة" المذكور لذّته عظيمة تشبه إتيان حورية في قارب فوق نهر خمر -ومن جرّب سيفهم!-، ولا يمكن إفساد تلك اللذة بأي دخيلة عليها؛ أي مثلا في الغد لازانيا، أصوم عن النساء أقل شيء ثلاثة أيام وحبذا لو كان أكثر، البورن ستار لينجح في عمله لا يستطيع أن يكون مع امرأة في الليل وهو في الغد التاسعة أو العاشرة صباحا مطالب بانتصاب قامة لمدة ساعة أو ساعتين...
العلاقة بين النساء واللازانيا عظيمة عندي، ومن عظمتها ألا أحد استطاع مدي بتفسير مقنع لما يحدث من تناغم وذوبان بين جهازي الهضمي والتناسلي...
أول من سألتُ بالطبع، كان طباخي المفضل في مطعمي المفضل، وجوابه بعدما حذفتُ منه افتخاره بنفسه وبلازانيته -وحُق له ذلك!- لم يبق فيه شيء يُذكر، لكنه اقترح عليّ أن أجرب الاثنين معا، قال دخولي وخروجي يتزامن مع أكل اللازانيا حتى تأتي لحظة قمة النشوة مع آخر لقمة لازانيا، وأرى: هل ذلك والمرأة معي ستكون هي واللازانيا ألذ؟ أم وحدي مع اللازانيا وانتصاب القامة أحسن؟ وفي الحقيقة اقتراحه كان وجيها، لكنني قلت في نفسي لو كان على خطأ سأخسر مرة لن تعود أبدا: ولا يمكنني أن أقامر بما أشعر به كل مرة، من فوق ومن تحت، عندما أكون في ركني أفترس لازانيتي وحدي!
الثاني، كان طريق الأطباء... طبيبا الجهازين ظناني أمزح، ولو لم يكونا يعرفان أني من علية القوم لكانا طرداني! أما طبيب النفس فقال لي أشياء غريبة لم أصدقها ولو لم أكن في عيادته لكنتُ ألقيته من شباك!
لم أسأل أخوتي وتذكرتُ تكذيبهم خبر أمي وحسدهم، والحسد حق والعين حق! كذلك الأصدقاء، والعين عملها محلي لا خارجي، ويغيب ذلك عن السذج الذين لا يؤمنون فيقولون لماذا لا يُكَوَّن جيش من العائنين فيخبطون أعداء "الأمة" خبطة تبيدهم عن بكرة أبيهم وأمهم! وسذاجتهم تأتي من عدم فهمهم أن العين "قومية شوفينية" لا يتجاوز تأثيرها الحدود وأيضا "تخصصية" واختصاصها الأبرز هو الأمور الجنسية ومسائل الزواج أي ما يُسمى بالنكاح في أبواب الفقه... الأمر بسيط الفهم، بما أني أعيش داخل الحدود، فأنا هدف للحسد والعين، ولو كنتُ أعيش في دولة غربية مثلا لكنتُ تكلمتُ مع أخوتي وأصدقائي في الأمر، لأني أظن أن العين "عتيقة" "Old fashioned" لا تستعمل وسائل الاتصال الحديثة... يبقى عندي بعض الخوف ممن سيقرؤون هذا المنشور، وفقط أبناء بلدي الذين يعيشون فيه، لكني أرجح عدم تأثير أعينهم، لأن العين كما أعتقد لا تستعمل الوسائل الحديثة، وبرغم ذلك أطلب من العائنين ألا يخبطوني بأعينهم... من باب الاحتياط! وربما أطلب ذلك من كل من يقطنون شمال أفريقيا حتى ذلك الذي يظن نفسه عربيا: من باب الاحتياط أكثر! فلا تخبطوني بأعينكم يا "برابرة" رجاء!!
تشبه مواعيدي مع اللازانيا الجنس عند الناس المهمين، وأنا من علية القوم كما ذكرتُ؛ مرة وسط الأسبوع الذي يغلب عليه الجانب المهني، ومرات في الويكاند... مرة وسط الأسبوع يوم الأربعاء ليلا، والسبت والأحد أربع مرات أي الغداء والعشاء لازانيا. في مطعمي المفضل، أنا أهم زبون دون منازع، ومكاني في آخر الأسبوع لا يأخذه أحد، وهو ركن منزو رومنسي فيه ديكور جميل وشموع وأزهار وموسيقى هادئة عادة؛ جو إيروتيكي قبلته على مضض لأني لا أستطيع فرض موسيقاي الصاخبة ووضع الديكور الذي أريد في مطعم رومنسي وعائلي كما يحلو للبعض وصفه. إذن السبت والأحد مكاني مضمون ولا منازع لي فيه، لكن الأمر ليس كذلك وسط الأسبوع...
حدث مرة أن المكان لم يكن منزويا، وكنتُ وسط الناس، فأغلظ في القول لي رجل ترك من ترافقه ووقف أمامي قائلا "ماذا تفعل يا أستاذ! المكان محترم وهناك عائلات تنظر!" لكن نادلا أسرع إليه وأبعده، فعاد إلى طاولته ولم يبق إلا وقتا قليلا ثم غادر ومعه التي معه... الأحمق، كان يأكل وكأنه خنزير، لا ينظر لمن معه ولا يكلمها ولم يفطن أن عينيها كانتا تراقبان ما أفعل مع لازانيتي وتتمنى لو فُعل فيها ما كان يُفعل في غلال بحري... المهم، غادر قبلها، وتبعته، وعند مرورها بجانب طاولتي تركت شيئا فيه رقم... وبدأت القصة! وبدأ اكتشافي!!
كانت جميلة نعم، لكني لم أكن أشكو من نقص جميلات، المُحير عندي أني مباشرة اتصلت لتعرف رقمي وأرفقتُ ذلك برسالة كتبتُ فيها "إنه أنا، رجل اللازانيا"، بعد دقيقتين تقريبا بدأ نقاشنا... بعد أن ركبتْ مع ذلك الأحمق، كانت تراسلني، وكنتُ أجيب، وتركتُ اللازانيا!! حتى بردتْ!! ثم غادرتُ ولم أكملها!!
- إنه أنا، رجل اللازانيا...
- الفاتشيست؟
- سمعتُ ذلك من طبيب غبي...
- بالعكس، طبيب ممتاز!
- زوجك هاجمني... أول مرة يكلمني أحد بتلك الطريقة... وأول مرة أكلم امرأة متزوجة!
- النادل كفى ووفى... أنتَ معروف في المكان؟
- منذ سنين...
- ماذا تعمل؟
- صياد، في البحر أصطاد الغلال، وفي البر...
- في البر؟
- النساء...
- آخر صيد متى كان؟
- اليوم...
- ماذا تعمل؟
- قلتُ... صياد!
- آخر مرة... ماذا تعمل؟
- طبيب...
- زميل إذن!
- اللعنة! أكره الأطباء!
- اختصاصك؟
- لازانيا...
- أتصل بكَ الليلة؟
- في أي وقت تريدين...
- الثامنة؟
- جيد...
- اتفقنا... و... ليس زوجي! أخي الكبير...
الثامنة اتصلت... الأطباء والمواعيد! روبوتات مبرمجة منذ أول يوم في الجامعة...
- دوك...
- لستُ طبيبا... كنتُ أمزح!
- هناك مشكلة قد تُفسد كل شيء...
- أي مشكلة؟
- ظننتَ أخي زوجي... كيف سمحتَ لنفسكَ بالعبث مع متزوجة؟
- دام ذلك دقائق حتى قلتِ أنه أخوكِ...
- نعم... لكنكَ فعلتَ وعبثت مع متزوجة...
- مذنب... أعترف... لن أبحث لنفسي عن أعذار... أستطيع لكني لن أفعل! مذنب إذن وأعترف!
- أعطني أقواها؟
- وهل سيفيد؟
- ربما...
- أمر مختلف وقع، هو لم يفهم لم يقبل، أنتِ راقكِ... تركتِ رقمكِ وكنتِ من بدأ، الأمر الذي لم أتعوده مع النساء فأنا البادئ دائما... ثم هناك مُحرّم وممنوع، والمُحرم يثير ويغري... كل ذلك حصل في لحظات... ثم تلتها دقائق... المنطق والعقل لم يعملا وقتها... ولا شك أنهما كانا سيحضران بعد ذلك...
- لو لم أقل أنه أخي، هل كنتَ ستكلمني الآن؟
- لن أقول لا فأكون كاذبا، ولن أقول نعم فأكون أيضا كاذبا، سأقول لا أعلم...
- ليس أخي... إنه زوجي السابق أو زوجي... ونحن الآن بصدد الطلاق...
- ...
- لماذا سكت؟
- أسمع صوتا ولا أرى وجها، ما أسمعه لا أملك أي دليل على صحته...
- نعم... بعد أيام سأصبح امرأة مطلقة...
- أطفال؟
- بدون أطفال...
- كم دام الزواج؟
- ثلاث سنوات...
- نفس الأسئلة التي طرحتها... كيف سمحتِ لنفسكِ وأنتِ متزوجة بالعبث مع غريب في مطعم؟
- مذنبة ولن أقول أني لا أعتبر متزوجة بما أني في مرحلة طلاق سيحصل بعد أيام...
- وماذا الآن؟
- بعد الطلاق أتصل بكَ إن كنتَ تريد...
- نعم... ذلك أحسن...
كان ذلك يوم الأربعاء... غادرتُ ولم أكمل لازانيتي ونسيتها أصلا!! وفي الليل تكلمتُ مع متزوجة!! كان ذلك كثيرا، وأول مرة يحدث...
في الغد، استيقظتُ ولا شيء ببالي غير الغداء! وما إن أكملتُ حصتي الأولى حتى هرعتُ إلى مطعمي ولازانيتي بعد أن اتصلتُ منذ الثامنة صباحا لأحجز... واتصل أحد إخوتي يعلمني بوفاة أبي...
... وابتعدتُ عن صفوف المشيعين المصلين، واتصلتُ بها وهي لا تزال متزوجة لأعلمها أنها أولا أحد! نعم أحببتها وأحبها! ليس لما ظنته وقتها وبعده، بل لأنها شغلتني عن لازانية يوم الأربعاء، ومنطقا وعقلا وأنا سيد المنطق والعقل، من استطاعت فعل ذلك لا يمكن إلا أن تكون أهم من أهم شيء عندي في وجودي كله، قبل الأهل والأصدقاء والعمل والأحلام والأوهام: اللازانيا!!

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي