|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
حكمت الحاج
2024 / 9 / 19
النقد المتأني كطريقة للنظر في النصوص الأدبية..*
في عصر أصبح فيه النقد أكثر من مجرد تمرين أكاديمي أو تطبيق نظري، بل مرآة عاكسة لحيوية فهمنا للمنتجات الثقافية بشكل عام، تبرز أهمية ظهور أصوات مفاجئة وجادة في هذا المجال. ومن بين هذه الأصوات، يبرز مؤلف هذا الكتاب، عبد الجليل حمودي، كناقد يتسم عمله بالجدية والتأني في تناول النصوص الأدبية والعروض المشهدية التي يحللها، حيث يتميز إنتاجه النقدي بتفاعل عميق مع الخطابات القصصية والمسرحية والسينمائية التي تشكل الملامح البارزة للثقافة العربية المعاصرة. هذا الكتاب الماثل بين أيدينا، وهو الاول له في هذا المضمار، يعد شهادة حية على التزامه النقدي بمتابعة وتحليل التطورات في الأدب التونسي، وكذلك الاتجاهات الأوسع في الأدب العربي.
تعتمد منهجية حمودي على القراءة المتأنية للنصوص، وأضع هنا خطا تحت كلمة "المتأنية". فهي ممارسة تتطلب الكثير من الصبر والبصيرة. هذه المقاربة تمكنه من التعمق في تحليل التفاصيل الدقيقة للبنيات السردية، وتطور الشخصيات، والمواضيع التي تميز الأعمال التي يدرسها. لا تقتصر عدسته النقدية على الكلمة المكتوبة فقط؛ بل تمتد أيضًا إلى العناصر الأدائية والبصرية في الإنتاجات المسرحية والسينمائية. وبذلك، يقدم للقراء فهمًا شاملاً للأعمال الثقافية التي ينتقدها، موضحًا كيف تعمل هذه الأعمال كتعابير فنية فردية وكجزء من النسيج الاجتماعي والثقافي الأوسع. إن اختيار ناقدنا للأعمال التي يناقشها ليس عشوائيًا، بل يكشف عن اهتمامه بالتقاطع بين الأدب والمسرح والسينما والمجتمع. فهو يتعامل مع هذه النصوص ليس فقط لتقييمها من الناحية الجمالية، بل لكشف الدلالات الأعمق التي تحملها، خاصة في سياق الحياة الثقافية والسياسية التونسية والعربية.
من بين المقالات التي يضمها كتاب "رحلة النص من الكتابة إلى الفرجة"، تحليل الناقد لمسرحية "أصوات" التي كتبها الشاعر العراقي حكمت الحاج (كاتب هذه السطور) وأخرجها الفنان التونسي جلال حمودي. والتي تم عرضها للجمهور لأول مرة في تونس عام 2019، تمثل لحظة مهمة في المسرح التونسي المعاصر، بحسب مؤلف الكتاب، وذلك عبر تمثل تيارات العبث واللامعقول، تأليفا وإخراجا. يتناول الناقد مسرحية "أصوات" ليس فقط كعمل درامي، بل كنص شعري عن هلاوس مجنون يهجس بالتيارات الاجتماعية والسياسية السائدة في ذلك الوقت. تحليله يتسم بالعمق والشمول، مسلطًا الضوء على كيفية تناول المسرحية لمواضيع السلطة والمقاومة والهوية والعنف والاضطهاد. يولي الناقد اهتمامًا خاصًا لاختيارات المخرج جلال حمودي، التي أضفت حيوية على النص الأصلي، وجسدت تعقيدات الشخصيات الثلاث والتوترات التي تحركهم على خشبة المسرح. من خلال فحص التفاعل بين النص والأداء، يقدم الناقد للقراء فهمًا أعمق لتأثير هذه المسرحية ذات الفصل الواحد، وأهميتها ضمن تيار دراما اللامعقول.
إسهام آخر مهم في هذا الكتاب هو مقالة الناقد حول رواية للكاتبة المصرية سعاد سليمان بعنوان "هبَّات ساخنة". في هذه المقالة، يظهر الناقد قدرته على التنقل في عالم السرد الروائي المعقد، محللاً عمل سعاد سليمان مع التركيز على تقنياتها السردية، وتصوير الشخصيات، والقضايا الموضوعية التي تثيرها الكاتبة المصرية المعروفة. تتناول رواية "هبَّات ساخنة"، مثل معظم أعمال سعاد سليمان، حياة النساء في المجتمع المصري المعاصر، مستكشفة صراعاتهن ورغباتهن وطموحاتهن. قراءة الناقد للرواية تتسم بالانتباه إلى كيفية بناء سليمان لشخصياتها وكيف تعكس مسارات هذه الشخصيات الديناميات الاجتماعية الأوسع. يبرز تحليله تفاعل الرواية مع قضايا النوع الاجتماعي، والطبقة، والسلطة، والخوض في موضوع شبه مسكوت عنه ألا وهو فترة انقطاع الدورة الشهربة (المنابوز) عند المرأة وتأثيراتها على حياتها العامة والخاصة، مما يقدم للقراء فهمًا عميقًا لمشروع سعاد سليمان الأدبي.
يحتوي الكتاب أيضًا على دراستين متأنيتين للقصص القصيرة التي يكتبها الأديبان التونسيان، فتحي الرحماني وعواطف محجوب. في مقالته عن فتحي الرحماني، يستكشف الناقد قدرة الكاتب على التقاط جوهر الحياة التونسية من خلال قصصه التي تتميز بوجازتها وملاحظتها الدقيقة للواقع اليومي، والتعاطف العميق مع الشخصيات. يتعمق الناقد في تحليل أسلوب الرحماني السردي، واستخدامه للرمزية، واهتمامه بالموضوعات التي تتعلق بالتقاطع بين التقليد والحداثة في المجتمع التونسي. من خلال ذلك، يكشف الناقد كيف تتردد قصص الرحماني ما بين الواقع والأسطورة والتاربخ، مقدمة للقراء مرآة نفاذة إلى عالمهم الخاص.
وبالمثل، في مقالته عن عواطف محجوب، يفحص الناقد عبد الجليل حمودي الصوت المميز الذي تضيفه محجوب إلى مشهد القصة القصيرة التونسية. تُعرف قصص محجوب بقدرتها على الجمع بين البلاغة والشدة العاطفية، ويبرز تحليل الناقد مهارة الكاتبة في نقل المشاعر الإنسانية المعقدة والقضايا الاجتماعية في شكل سردي مكثف. يولي الناقد اهتمامًا خاصًا لاستكشاف عواطف محجوب لقضايا مثل الديناميات الجندرية، وعدم المساواة الاجتماعية، وتحديات الهوية الشخصية في عالم متغير بسرعة. من خلال قراءته المتأنية لأعمال محجوب، يوضح الناقد كيف تشكل قصص الكاتبة تعليقات قوية على الحياة التونسية المعاصرة، بينما تساهم أيضًا في تقاليد الكتابة القصصية العربية بشكل أوسع.
وثمة مقالات هامة أخرى يضمها الكتاب، مثل مقالته عن قصص الكاتبة الفلسطينية ميس داغر بعنوان " النزعة العالمية في قصص ما يحدث في الدومينيكان لميس داغر، ص 43، وآخر عن تيمة الموت في رواية "رطبا جنيّا" للكاتب التونسي الهادي القاسمي على ص 57، بينما كان افتتح الناقد مقالاته بواحدة عن العرض المشهدي الموسيقي الصوفي "الزيارة" بعنوان: لذة الفن وصفاء الروح ص9 من الكتاب.
يقول عبد الجليل حمودي في تصديره لكتابه "رحلة النص من الكتابة الى الفرجة" أنه"عندما يبحر القارئ في النصوص، فإن الكثير منها تغويه للقراءة وإعادتها، وأخرى تجبره على تجاوز قراءتها إلى الكتابة عنها، فيتخذ من أدوات التحليل وآلياته زادا به يعوّل على قطع الطريق إلى منتهاه". ويصف هذا الطريق بأنه "طويل وشاق"، ويستدرك قائلا أن"اللذة فيه آسرة، خاصة إذا ما اختلفت النصوص عن بعضها البعض".
وبينما سينطلق القراء في رحلتهم الذهنية عبر هذا الكتاب، سيلتقون ناقدًا يتحداهم للتفكير بشكل أعمق في النصوص التي يقرؤونها، والعروض التي يشاهدونها. من خلال ذلك، يدعو الناقد قراءه للانضمام إليه في حوار حول دور الأدب والمسرح والسينما والغناء في حياتنا، والطرق التي يمكن من خلالها لهذه الفنون أن تساعدنا على التنقل بين تعقيدات العالم الحديث.
هذا الكتاب، "رحلة النص من الكتابة إلى الفرجة" للتونسي عبد الجليل حمودي، إسهام مهم في مجال النقد الأدبي، ويعد علامة على بزوغ صوت جديد من المؤكد أن يكون له تأثير دائم على الطريقة التي نفكر بها في السرد، والأداء والإنتاج الثقافي في تونس العالم العربي.
هذا الكتاب، كما يقول مؤلفه، هو محاولة لإنارة الطريق لفهم النصوص الأدبية وتبيان أثرها في كيان قارئها، غير ملتزم بمنهج معيّن، بل هو "دعوة إلى التفكير في الأدب، مرة ومرة".
* مقدمة لكتاب "رحلة النص من الكتابة إلى الفرجة" تأليف عبد الجليل حمودي، منشورات كناية، ستوكهولم-تونس 2024