الأمة العربية والإسلامية لكن بزاوية نَظَر حادة

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
2024 / 9 / 19

لكي ينشأ دين بالمغزى الأممي الذي نفهمه في الزمن الحاضر، لابد أن يسبقه حس قومي بوحدة المنشأ ووحدة المصير أولاً. وقد توفر مثل هذا الحس القومي لدى اليهود وكان الرافعة الأساسية التي تأسست وتوطدت فوقها الديانة اليهودية فيما بعد. إذا لم يترسخ مسبقاً لدى شعب بني إسرائيل هذا الحس القومي بوحدة المنشأة ووحدة المصير، ما كان يمكن أبداً تصور أن تنشأ وسطهم ومنهم أول ديانة أُممية، حتى رغم حدودها القومية الضيقة لا تزال. لقد اقتصرت الديانة اليهودية، وبالتبعية نعيم جنتها الموعودة، على سُلالات وأعراق بني إسرائيل وحدهم بصفتهم شعب الله المختار دوناً عن بقية شعوب وأقوام الأرض الآخرين. على الأرض، وجود الأمة يسبق بالضرورة أي شيء يمكن نَعته ’أُممياً‘ فيما بعد، حتى لو كان ديناً مُنزلاً من السماء.

في طورها المكي، لم يتوفر للدعوة الإسلامية مثل هذا الشرط الجوهري المُسبق. لم تكن هناك بعد وحدة سياسية/اجتماعية تُناهز في قوامها وتماسكها التي تكونت لدى شعب بني إسرائيل قبل أكثر من ألفي عام مضت. كان أقصى ما حققته جزيرة العرب آنذاك من وحدة سياسية/اجتماعية هي القبيلة، ومن وقت لآخر اتحاد فضفاض من القبائل تُمليه ظروف طارئة. وكانت هذه القبائل لا تزال تفتقر فيما بينها إلى وحدة الإقليم وحس المنشأ والمصير المشترك كالذي أَلَّف ووحَّد بين الإسرائيليين. والحال كذلك، ما كان يمكن أبداً تصور أن ينشأ هناك- في جزيرة العرب- أي دين بمفهوم أُممي محيط وجامع لكل الأقوام (القبائل) العربية مثل الديانة اليهودية الإسرائيلية في ذلك الوقت. كانت جزيرة العرب لا تزال قاصرة عن بلوغ العتبة الدنيا الضرورية لنشأة الدين القومي/الأممي؛ لا يزال يَنقصها الحد الأدنى المطلوب من الوحدة السياسية/الاجتماعية لخلق حس بوحدة المنشأ والمصير- الحس القومي- بين العرب ذوي الانتماءات القبلية والعشائرية المشتتة والمتنافرة. حينذاك، كان لا يزال العرب موزعون إلى قبائل وبطون وعشائر شتى متنافرة ومتناحرة فيما بينها ولم يرتقوا بعد إلى عتبة القوم/الأُمة التي يجمعها ويؤلف بين قلوبها الحس القومي بوحدة المنشأ والمصير المشترك.

من البديهي أن مثل هذا الحس القومي لا ينشأ ويتوطد بين ليلة وضحاها. الأمر يستلزم زمناً طويلاً يجتاز خلاله الناس معاً وبتضافر جهودهم المشتركة الكثير من المحن والتحديات إذا ما أرادوا لأنفسهم النجاة. في هذه الأثناء تنصهر انتماءاتهم وهوياتهم الفردية والقبلية ضمن سبيكة هوية قومية/أممية مشتركة واحدة وجامعة. حتى الآن لم يستوفي العرب ما يكفي من ذلك، باستثناء اللغة وبعض الأعراف والتقاليد المشتركة التي حفظتها مُعلقاتهم الشعرية في ذلك الوقت. الأمة العربية لم تكن قد وُجِدت بعد، لا عند خروج محمد مُكرهاً من بلده مكة ولا عند عودته إليها فاتحاً من المدينة، ولا في عهد خلفائه الراشدين. كانت القبائل العربية لا تزال تعيش حياتها الانعزالية الأنانية، الحرة من القيود العربية الجَمْعية، على نفس وضعية انتماءاتها القبلية الضيقة، لم تغادر بعد حدود بيئاتها الصحراوية القاحلة ولم تقتحم بعد عالم المغامرات والمخاطر والمحن والتحديات المشتركة التي يمكن أن تصهرهم في سبيكة صُلبة واحدة. مع ذلك، كان مُقدراً للعرب الدخول بقوة السيف الأموي والعباسي إلى بوتقة الحكم المركزي الذي، لأول مرة في تاريخهم، سيخرجون منه شيئاً آخر. الدولة الأموية هي محاولة العرب الأولى على الإطلاق نحو تكوين أُمة قومية للعرب. في هذا الصدد، لم يُساهم النبي محمد وصحابته الأوائل بأكثر من إعطاء الحافز والإلهام، وضع البذرة، لمشروع ضخم كان مُقدراً له أن يغير مرة واحدة وللأبد وجه الإقليم العربي والعالم أجمع.

حتى ذلك الحين كان العرب، قبل وفوق أي شيء آخر، متورطون في اقتتال شرس فيما بينهم صراعاً على الحكم والسيطرة، منغمسون في نشوة غزواتهم وفتوحاتهم الخارجية ضد حاميات الرومان والفرس المنتشرة عبر المنطقة طولاً وعرضاً، منشغلون بجمع وتقاسم الغنائم وملئ الخزائن بذهب وتيجان الملوك والقياصرة المهزومين، غارقون في الاستمتاع بملذات أطعمتهم الشهية وملابسهم البهية وحريمهم الجميلات وغلمانهم وسباياهم. ما كان الدين يشغل بعد حيزاً يُذكر من اهتماماتهم ومجهوداتهم وتفكير عقولهم. كيف ينشغل تفكيرهم بأي مسائل ذهنية على الإطلاق وهم في خضم مثل هذا البحر الهائج من الحماسة والمغامرة والنشوة والمتعة؟! كيف تُولد فيهم مشاعر دينية مشتركة وهم حتى لا زالوا لا يحسون في أنفسهم وحدة، كتلة، متلاحمة واحدة بعد. لكنهم، في خضم المغامرة الخارجية وحماسة الانتصارات ونشوة الغنائم، سوف يواجهون حتماً من المحن والتحديات ما يُجبرهم على تنسيق وتضافر مجهوداتهم معاً. وكلما عَظُمت المحنة وزادت التحديات صعوبة، كلما كبر وترسخ بداخلهم حسٌ جمعي بوحدة المنشأ والمصير المشترك. وحين بلغت المحنة حد الدحر والهزيمة على أيدي أعدائهم، عندئذٍ كان حسهم القومي بأنفسهم كعرب قد ترسخ في وجدانهم وواقع حياتهم إلى الحد الذي لا يمكن أبداً محوه. في هذه الأثناء، بينما كان عرب قريش الأوائل منشغلون على هذا النحو بمسائل السياسة والحكم والتأسيس لأمة عربية، ظهر عرب جُدد لاحقون أقل حظاً وحظوة من القرشيين لم يجدوا ما يشغلهم سوى قضية واحدة- الدين.

ما كان محمد ولا أبو بكر ولا ابن الخطاب بحاجة إلى قرآن أو حديث أو فقه، وبالفعل لم يضعوا أي من ذلك. كانت حاجتهم الفعلية هي الأمة، التي أخفقوا جميعاً في جَمْعها. لكنهم من نفس هذا الإخفاق أوجدوا الحافز والدليل، الذي سيسترشد به آخرون بعدهم وسيفلحون فيما قد أخفق فيه الرواد الأوائل. إذ بحلول عهد ثالث الخلفاء الراشدين، عثمان بن عفان، كانت جائزة الفكرة التي ابتدعها وفشل في تحقيقها النبي قد أصبحت جلية وساطعة ومغرية للعيان كافة. كيف لهذا الكيان المُهلهل والبائس في السابق أن يغلب أعتى الجيوش ويغنم أضخم الثروات؟! ماذا كانت دعوة محمد الأولى لهم في مكة قبل أن يطردوه إلى يثرب؟ أليست أن تتخلى كل قبيلة عن إلهها الخاص، رايتها الخاصة، لكي تتحد جميعاً في أُمة واحدة يجمعها إله واحد وترفع راية واحدة؟! أليس في ذلك دعوة صريحة إلى اتحاد عربي، خلق أمة واحدة من قبائل متناحرة؟ ماذا خسروا حين جمعهم بقوة السلاح تحت راية إله واحد، غير آلهة وثنية لا تُسمن ولا تُغني من جوع؟! في المقابل، ماذا كسبوا؟! تيجان قيصر وكسرى وأراض وغنائم بلا حدود! لقد حققت لهم الوحدة، الأمة، من القوة والعزة والثراء ما لم يحققوه أبداً طوال تاريخهم القبلي المبعثر والممتد في الماضي آلاف السنين. كل هذه النقلة النوعية الجبارة خلال ما لا يتجاوز بضعة عقود! إذا كانت مغانم التجربة عظيمة ومغرية إلى هذا الحد وهي لا تزال في المهد، كيف ستكون إذا ما نَضَجت وصُقلت واستوت على روافع قوية ومستدامة؟! عندما فرضت الأمة بنتائجها الباهرة نفسها بهذا الشكل على مخيلة وواقع العرب، انكشف لهم لأول مرة في تاريخهم مدى احتياجهم إلى مكون آخر لا يزال حتى يكتمل البناء الأممي، يصونه ويحفظ له البقاء- الدين. الأمة تُوجد الدين لتحفظ به وفيه ديمومتها، لكن قبل الأمة لا يوجد دين أممي ولا يمكن أبداً أن يوجد طالما لم توجد أمة قبله؛ الدين يخدم أمة قائمة؛ لكن من دون أمة قائمة، من يَخدم؟!. بناءً عليه، كانت البداية الحقيقية لما نسميها اليوم القرآن والسنة والأحاديث والفقه والتراث الديني إلى آخره انطلاقاً من عهد عثمان ابن عفان فصاعداً، أو من بداية نشوء واقع الأمة وثمارها المحتملة في الخيال والواقع العربي وبداية التنازع على الغنائم والمكانة والحكم في هذا العالم الجديد.

أثناء وضع الركائز والأسس الصلبة لأمة عربية خلال العهدين الأموي والعباسي، كانت الجهود جارية بالتوازي لوضع الركائز والأسس الصلبة كذلك للدين الذي سيخدم هذه الأمة الوليدة ويحفظ بقائها- الإسلام. كان الرجال الذين سيتصدون لهذه المهمة من نوعية مختلفة كثيراً عن طينة بني هاشم من العصبية القرشية الضيقة الذين تنازعوا فيما بينهم واحتكروا لأنفسهم مهمة تأسيس لأمة عربية. لم يكونوا رجال فعل وحركة مثل هؤلاء، بل رجال فكر وتنظير، أذهانهم أكثر انفتاحاً وشمولاً من الذهنية القبلية التي شابت كلا الحكام الأمويين والعباسيين. هم رجال من شاكلة أبو حنيفة النعمان (80 هـ-150 هـ)، أنس بن مالك (93 هـ - 179 هـ)، محمد بن إدريس الشافعيّ (150 هـ - 204 هـ) وأحمد بن حنبل (164 هـ-241 هـ). هؤلاء هم الذين وضعوا الركائز والأسس الصلبة الأولية التي سينمو ويتطور فوقها فيما بعد الدين الإسلامي، لكي يزداد تطوراً وصقلاً على يد أعلام لاحقة من شاكلة ابن تيمية وأبو حامد الغزالي وابن رشد، وصولاً إلى فقهاء ومفكري ورجال الدين الإسلامي حول العالم في الزمن الحاضر.

بالطبع مثل هذه القراءة تختلف في الكثير مع القراءة السائدة التي تعتقد أن النبي كان قبل أن يفارق عالمنا قد أتم لنا ديننا ووحدتنا، أو أمتنا. هذه قراءة ترى الأشياء كأنما تهبط على عالمنا من السماء ناضجة مكتملة، ومن ثم تُعطي دوراً سلبياً للبيئة الطبيعية والبشر. هذا غير صحيح ولا يحدث أبداً في الحقيقة، لأن كل شيء في عالمنا- حتى لو كان مجرد فكرة- ينمو من نواة متناهية الصِغَر عندما تتهيأ لها الظروف والرعاية المواتية. وهو ما يعطي دوراً حاسماً لعوامل مثل الجغرافيا والتاريخ والعنصر البشري، التي لولا تضافرها وتفاعلها معاً بطريقة أو بأخرى ما وجد أو بقي أي شيء في دنيانا، لا نبات ولا حيوان ولا بشر، ولا حتى أمة ولا دين. محمد وصحبه الأوائل لم يساهموا بأكثر من هذه النواة. ثم خَلَفهم آخرون لكي يمهدوا الأرض ويحرثوها؛ ليأتي من بعدهم من يغرسها ويرويها ويرعاها حتى كبرت الآن إلى شجرة عملاقة تضرب بجذورها عميقاً في تاريخ الإقليم العربي الحديث بأكمله، وتمد فروعها باتساع العالم بأسره لكي يستظل بها أكثر من مليار نسمة ليس من العرب فحسب، بل من الأمم كافة ويتحدثون بلغات العالم كافة.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي