مرآة الأوهام ( تأويل لفيلم الماتريكس)

عثمان بوتات
2024 / 9 / 12

تقديم

في كتاب "الفبسنا" ل(وليم هارت) راق لي معرفة الحكمة من تركيز المتأمل على أنفاسه بدل شيء آخر؛ إذ أن التنفس عملية لا واعية وفي الوقت ذات واعية قد نتحكم بها. هذا الاتحاد بين النقيضين يخلق توازن وجسر بين الوعي واللاوعي، ما يُمَكن المتأمل من بلوغ حقائق باطنية عن نفسه قد تكون من "حياة سابقة". بالنسبة لي فهم سر التوازن بهذه البساطة أمر قيّم، فلطالما اعجبت ب يينغ-يانغ في الطاوية ولدى مقاتلي الكونغ-فو، لكن بمشقة في الفهم.

التوازن سر عظيم أيها الإخوة. على الرغم، فإن كتاباتي غير متوازنة بتاتا! إنها سم في عسل، قذرة شخصنة وبمشاكلي شخصيا، إنها تباهي بالمعرفة وناقدة نقدا وقحا ساخرا، إنها محاورات فاشلة لأموات أهل لها، إنها ملطخة بمشاعر الخجل من أخطاء فكرية فظيعة!

الحق يقال، إن كتاباتي خالصة لي، وهي بمثابة ترياق. وها أنا الآن أشك في فائدتها! هل بإمكان فلسفتي ملامستكم؟ لو اردتم الحقيقة المتزنة حقا؛ فهي بكل أسف ليس في سطور فلسفتي أو في أي فلسفة تخاطبكم بلغة! قد تكون على لسان الشعراء والروائيين! وهي كذلك ليست ما ترون بأعينكم وما تسمعون بآذانكم! المرجح أنها على ريشة رسام وأوتار موسيقار. للتوازن هيئة تعادل وقفة مقاتل كونغ-فو وجلسة متأمل بوذي، هيئة مسجدة بخيال فنان.

إن الوجود تجربة فردية يقول ( بودريار)، وأنا يا إخوتي ورغم تشاؤمي القاسي بوجودي فيكم، إلا أنني فنان، كل أنواع الفن تجري بعروقه وتلهمه منذ نعومة اظافره. إن الفن مؤثر عظيم في وجودي وأنتم تعلمون كم مجنون في حضرة.. لوحة، رقصة، أو لحن ربما! ولهذا فمسرحيتي اللغوية أعلاه لها نهاية سعيدة. في الأخير شخصيتي آمنت بأرواحكم بدل قدرة فهمكم لخبثي الفكري. وبالفعل لدي إيمان بقدرتكم على قراءة بين السطور. فلتنظروا إلى القمر لا أصبعي، فلربما أنا فنان روحي، بل أنا كذلك! إن ذلك من أهلية الحب، تذكرت!

" إن لم تجدني داخلك فلن تجدني أبدا " جلال الدين الرومي


عن وهم المعرفة..

" من الصعب أن نعرف ما إذا كان العالم الذي نعيش فيه حلم أم حقيقة " فيلم 3-Iron (2004)

الشك ليس سمة الفيلسوف إنما الإنسان أينما وُجد، ولا قيمة له حينما يلقي بالمشكك في وهم جديد. لقد شك (بوذا) أعمق من (ديكارت) ولم يتباهى به كما تباهى به المتبجحون بعرقهم الآري من الفلاسفة والأوروبيين، بل لم يتشرف الذكر في التعاليم البوذية كعملية عسيرة على الإنسان، وقد نظر إليه كمجهود طبيعي!

هنالك دوما اندفاع للمعرفة، هنالك دوما شك، وإلّا ما كنا لنزعج أبوينا أسئلة! رغم ذلك، فمهما تملكنا الشك ومهما كان عظيم نجد أنفسنا دوما أشبه ب(ديكارت)؛ غير قادرين على مجابهة الوهم وأبعد حد قد نصله؛ تقديس العقل وعملياته. أو أبعد؛ أن تكون عملياته دليل على الوجود. إذن أقصى حدود الشك أمام العقل، إذن من الطبيعي أن ننخدع بوهم آخر ونفترض وجود شيطان ماكر يرغب بإيقاعنا في الخطأ.

" الإنكار هو أكثر ردود الفعل البشرية توقعا " المهندس ل(نيو) في فيلم The Matrix

" استيقظ! " -كما في أغنية المشهد الأخير من الفيلم- الشيطان المتهم بظلال (ديكارت) في حكايته من صنع (ديكارت) نفسه! كما الذكاء الاصطناعي في الفيلم من صنع الإنسان نفسه!

إنه أنت ولا أحد غيرك؛ تصنع واقعك ووهمك. وأما لو تولاك الشك فيه؛ فتلقي اللوم على عاتق الخارج. وأما لو صدقته فهيهات! ستبدع في تماهيك تارة يمتعك وأخرى يحزنك، تارة تناضل لتغيره وأخرى تدعو الناس لتصديقه. صدقني! إن العقل مبدع إلى أبعد الحدود؛ فيمكنه أن يقنع آلاف الناس بوجود عوالم مختلفة في الوقت ذاته، ومن شدة تماهيهم مع عوالمهم؛ يناضل كل واحد منهم لإقناع الآخرين. كما قد تصل شدة التماهي إلى الحرب أحيانا! أتعلم من كان يفوز دوما؟ ليس من يملك الحقيقة، إنما من يملك القوة ! من يملك الحقيقة كان لا يجيد استخدام السيف.

" إن ما أنتجه الإنسان من معارف وحقائق عبارة عن أوهام نسينا أنها كذلك؛ إنها لا تَنتج بفعل سوء استخدام العقل؛ إنها ناتجة عن رغبة لا شعورية في حفظ البقاء" ف. نيتشه

المطرقة ضربت! الجدال الابستمولوجي سقط – بين الفلسفة والدين والعلم؟ بين النقل والعقل؟ بين العقل والتجربة؟- ؛ كل محتكر للحقيقة سقط قناعه أمام مثالية (كانط)، وإرادة (شوبنهاور)، ونسبية (نيتشه). لقد عرف العرق الآري أخيرا بعدم وجود الحقيقة.. المدركات محدودة، والواقع تمثلات وهو نسبي.

هذه فلسفة شرقية للأمانة، من نتاج العرق الذي أقصاه وسخر منه غالبيتكم، دون تناسي (نيتشه)؛ يبدو أن منكم من تأثر بها رغم ذلك، دون تناسي (نيتشه)، كما تأثر بها (شوبنهاور) قبله، والإغريق قبل الجميع.. فيا لكبريائكم القذر!

المضحك أن العالم صفّق لمثل هذه الفلسفة من باب الأدب ثم تجاهلتها. هذا طبيعي، فهي غير مربحة ومهدِّدة للبقاء. بدل ذلك تبدو فلسفة (ديكارت) و(لوك) و(ا. سميت).. وأمثالهم؛ مربحة وأرض خصبة لابتكار ماتريكس الحداثة بديلا لماتريكس الكنيسة. الجنة التي طالما تمتع بها القسيس في الأرض، بمال المؤمن المتضرع لها في السماء؛ قد صار يتمتع بها الرأسمالي الآن، من مال المستهلك الحالم بها في المستقبل. وكما كان سلاح القسيس هو الكتاب المقدس؛ الآن سلاح الرأسمالي هو العلم.

والمصمم واحد. فكم أعيد تشغيل الماتريكس يا ترى!

"اللغة نظام من العلامات والرموز تتحكم في تصورنا للعالم" ج. بودريار -فيلسوف فرنسي ظهر يحمل كتابه (نيو) في المشهد الأول من الفيلم-

يبدو في الأخير، أن عملية الشك كان لا بد أن تتسم بشجاعة أضعاف شجاعة ديكارت؛ وتتجاوز الفكر، وبالتالي الحداثة.

عن وهم الواقع..

في الفيلم يخاطب الراهب الصغير (نيو) في مقابلة العرافة:
- لا تحاول ثني الملعقة.. ذلك مستحيل!
- بدل ذلك حاول أن تدرك الحقيقة...
- أنه لا وجود للملعقة!.. ساعتها سترى أنها لا تنثني، بل أنت من تظن ذلك!

هل يمكنك التلاعب بملامحك في المرآة دون أن تعي بأن الواقف أمامك هو انعكاسك؟ مستحيل. لكن يمكنك التلاعب في ملامحك الأصلية بسهولة وبالتالي في انعكاسها؛ كذلك هو واقعك! إنه لن يتغير دون أن تعي بأنه انعكاس لأفكارك ولإدراكك وحسب. لدى توقف عن النضال! لا فائدة من تغييره أصلا! لأنه غير موجود! " حاول أن تدرك الحقيقة! "

الحكمة تقول: " أخبر الطفل ما هو العصفور ولن يرى العصفور مجددا، لو صدقك ".

هل البقرة بالنسبة لطفل إسكندنافي هي هي البقرة بالنسبة لطفل هندوسي؟ يعتقد الأول أنها قربان يقدم للآلهة، والثاني أنها كائن مبارك يجب حمايته لينعم أيضا بالحماية. وقس على ذلك..
نحن لا نعرف البقرة حقا؛ لكننا بحاجة لفكرة عنها قد تخدم مصلحتنا، تلامسها الحواس وحدود العقل.

في فيلم I Origins (صوفي) تسأل صديقها العالم: كم يملك الدود من حاسة؟ يجيبها: اثنان، الشم واللمس. تستمر (صوفي): إذن مفهوم الضوء بالنسبة لهم غير معقول، رغم أنه يحيط بهم الآن.

إننا بامتلاكنا لعقل ولحواس إضافية لسنا بأفضل من الدود، نحن لا نرى الكثير في الحقيقة. كما أن كل ما نراه ونشعر به مبالغ فيه.
نحن نعي بالشيء اعتمادا على تجربة الجسد والعقل، وندركه اعتمادا على الفكر واللغة. وحسب هذا نهضم ما تلقيناه عن الشيء ونتعرف عليه، ثم ننتج مشاعر حوله.

وكلما شعرنا بالمتعة رغبنا في التمسك بالشيء وإطالة تجربته، والعكس.

عن وهم الذات..

لو مدحك تعليق على صورتك في الفاسبوك ستعي بأن ذلك التعليق عبارة عن كلمة تخص صورتك، بعدها ستحاول إدراك مضمونها باللغة التي تفهما وتقيمها على أنها إيجابية، ستشعر بالمتعة، وتكون ردة فعلك الابتسام، أو الشكر، أو الرغبة في المزيد من التعاليق..

لكن ماذا لو كان التعليق شتيمة؟ سيحدث العكس!

لكن ماذا لو كان التعليق بلغة لا تفهمها؟ حينها لن توجد رد فعل، لأنه لا توجود مشاعر المتعة أو الاستياء، وهذا لأنك لم تدرك الكلمة، لم تقيمها، ولم تفهمها، لهذا الكلمة لن تؤثر فيك رغم أنك تعي بها.

التقييم والفهم.. وكل أفكارنا عن الأشياء؛ لا نختارها بوعي، وفي الغالب تُختار لأجلنا وتلبث في لا وعيينا؛ فتظهر في شكلها الواعي كحقيقة خاصة بنا قد تفحصناها بعناية؛ لكنها أبعد من ذلك. وقد عرف ال(بوذا) السابق بالفهم الغير القويم أو الجهل؛ وهو سبب أغلب المعاناة. ولهذا دعا أن ترى الأشياء بوعي أكبر وباتزان، دون أن نقيم الشيء أو نتشبث بمفهومنا الثابت عنه، لأن التغيير طبيعة الأشياء، غير ذلك ستصيبنا فكرتنا عنه بالخيبة عاجلا أم آجلا، لنسقط عبيد للرغبة؛ من الرغبة في امتلاك الشيء إلى النفور منه، ومن تم إلى المبالغة في ردود فعل لا تنتهي مليئة معاناة.

الألم طبيعي وزائل، النفور من الألم وكرهه رد فعل مبالغ فيه. المتعة تظهر وتزول، الرغبة فيها وفي إطالتها رد فعل مبالغ فيه.

عن ما يهم حقا..

راقب العصفور فحسب، لا تسأل عن ما هو، ذلك لا يهم.
ما يهم حقا ليس هويتك أو خارجك أو جسدك أو حتى أفكارك.. كلها أشياء تستحق المراقبة باتزان وحسب. يجب أن تتفوق على ذاتك، أن تغوص أعمق وأعمق، إلى الروح أو الطاقة الداخلية أو ال"برانا".. أو مهما يكن. المهم هو أن تبدأ رحلتك نحو تغيير وعييك لترى المسخرة الكونية -كما عبر أ. كامو-، أن ترى أنه لا قيمة لمساعيك وطموحاتك وغد أفضل.. أن تتخلص من الثعبان الذهبي -كما تعبر الميثولوجيا المصرية-، رمز البداية والنهاية، الموت والحياة، التغيير، رمز الذات الأنانية.

داخلك أعمق بكثير من هذا.. افتح عين حورس..
ال(مايا) ، أو أوهام العقل والجسد، أو الماتريكس ليس وهما مطلقا؛ إنه مزيج ، أو هو مفرط ومبالغ فيه. الأهم أنه ليس أنت. لا تدعه يكون سيدك، بل العكس يجب أن يكون خادم جيد لك. لأجل اكتشاف ذاتك الحقيقة. كما لست بحاجة لمرشد ليخلصك، اعتمد على نفسك. دع روحك تقودك لإشارات كونية، من (مورفيوس)، دعها تقودك إلى الحب الذي يدفع بك، من (ترينيتي)، واخلق التوازن مع نقيضك العميل (سميت). العميل سميت دوما كان الجميع، والجميع بإمكانه أن يكون (نيو).. هذه هي أطروحة العميل (سميت) نفسه.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي