|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
زياد الزبيدي
2024 / 9 / 9
نافذة على الصحافة الروسية
نطل منها على أهم الأحداث في العالمين الروسي والعربي والعالم أجمع
*اعداد وتعريب د. زياد الزبيدي بتصرف*
أندريه بيريوكوف
كاتب صحفي وباحث سياسي روسي
بوابة Military Review بالروسية
24 أغسطس 2024
قبل الانتقال إلى الموضوع الرئيسي لمقالي، من الضروري عرض مقدمة طويلة ولكنها ضرورية للغاية.
زار أعظم "مجرم دولة" بوريس يلتسين واشنطن في يونيو/حزيران 1992، حيث قدم تقريراً في الكونغرس بصفته عبدا لسيده. وفي ختام تقريره عن العمل الذي تم لصالح الولايات المتحدة، أشار إلى أن "الصنم الشيوعي، الذي زرع الفتنة الاجتماعية والعداء والقسوة غير المسبوقة في جميع أنحاء العالم، والذي ألهم الخوف في المجتمع البشري، قد انهار".
ولكي ينكر مرة أخرى ماضيه ويحصل على لقب الحاكم، أعلن رسميا: "وأنا هنا لأؤكد لكم: أننا لن نسمح لهذا الأمر بالظهور مرة أخرى على أرضنا! لقد اتخذت روسيا أخيرا خيارا لصالح الحضارة، والحس السليم، والخبرة الإنسانية الشاملة. لقد علمتنا تجربة العقود الماضية: الشيوعية ليس لها شكل بشري! الحرية والشيوعية غير متوافقتين!"
لا أعرف أي شكل بشري كان يقصده يلتسين للرأسمالية، لكن ابتسامته الشريرة واضحة للعيان سواء في الغرب أو في بلدنا. لقد مر أكثر من ثلاثين عاما منذ الانقلاب، لكن المناهضين للسوفيات ما زالوا يبذلون الجهود لضمان عدم وجود أيديولوجية في البلاد بخلاف الرغبة في الثراء بأي ثمن، لأن الملكية الخاصة فقط هي المقدسة، وكل شيء آخر ثانوي وليس له قيمة.
لماذا يكرهون أي أيديولوجية إلى هذا الحد، وهي بحكم التعريف عبارة عن نظام من الأفكار المصممة مفاهيمياً، وتعبر عن مصالح ونظرة عالمية ومثل عليا لمختلف الكيانات السياسية ـ الطبقات، الأمم، المجتمع، الأحزاب السياسية، الحركات الاجتماعية ـ وتعمل كشكل من أشكال إقرار الهيمنة والقوة الموجودة في المجتمع (الأيديولوجيات المحافظة) أو تحولها الجذري (أيديولوجيات الحركات "اليسارية" و"اليمينية")؟
ولكن الأيديولوجية وشكل الوعي الاجتماعي هما مكونان للثقافة والإنتاج الروحي، أليس كذلك؟
كما نرى، لا يوجد شيء مخيف في التفسير. تبدأ الأشياء المخيفة عندما يتم خلق تهديد لوجود عالم صغير جيد التغذية؛ للممتلكات "المكتسبة من خلال العمل الشاق"؛ للانتماء إلى ما يسمى النخبة والصلات الاجتماعية. إن التعريف نفسه، كما نرى، له جوانب عديدة. سننتقل إلى الجانب الأكثر أهمية، من وجهة نظري، من تعريف الأيديولوجية: الثقافة.
إن أي دولة إذا أرادت البقاء، لا بد أن تتبنى أيديولوجية. ولن نتطرق الآن إلى التقييم الأخلاقي للأيديولوجيات في البلدان المحيطة بنا.
أولاً، دعونا نأخذ جولة تاريخية قصيرة.
رحلة تاريخية
قبل ثورة أكتوبر العظيمة، كانت روسيا القيصرية تمتلك أيديولوجية! وكانت هذه الأيديولوجية سيئة السمعة تقوم على ثلاثة ركائز: الأرثوذكسية، والاستبداد، والقومية.
ويجب أن نلاحظ أن الاستبداد، بعد أن أثبت نفسه كأحد ركائز الإمبراطورية الروسية، قاتل بنجاح كبير ضد زعزعة استقرار النظام. ولكن عندما انهارت قناعة الشعب الداخلية بصحة الاستبداد، وعندما بدأت الأيديولوجية تتصدع (تشبيه رائع مع السنوات الأخيرة من الاتحاد السوفياتي، أليس كذلك؟)، انهارت الإمبراطورية، لأن أحد ركائز الأيديولوجية قد انتُزِع.
ولكن الطبيعة، كما نعلم، تكره الفراغ. ودبت الفوضى في الفراغ الأيديولوجي للحكومة المؤقتة (حكومة كيرينسكي بعد ثورة شباط 1917)، التي حاولت في البداية تقديم التنازلات للجميع. إن الفوضى هي ما يحدث عندما تفقد الدولة أيديولوجيتها. نعم، يمكنك أن تفرض قبضتك على البلاد بإحكام، ولكن عاجلاً أم آجلاً، عليك أن تخفف الخناق، وعندها يظهر كل ما تراكم نتيجة لإنكار الأيديولوجية. وليس من قبيل المصادفة أن حشوداً من عشرات الآلاف من الشباب هرعوا إلى خارج البلاد عندما بدأت الحرب الأهلية 1918-1922. كما هرع الناس الذين نشأوا على الأيديولوجية السوفياتية في 22 يونيو 1941 (بداية العدوان النازي الألماني). ولكن فقط إلى مكاتب التسجيل والتجنيد العسكرية.
إن الثقافة والتربية هما اللذان يحددان أيديولوجية الأمة. وبالنسبة لروسيا، فإن هذه ظاهرة فريدة من نوعها، حيث يوجد في عملية التطور التاريخي في دولة واحدة أكثر من مائة شعب مختلف. وكان لكل منهم سماته الفريدة وتقاليده وعاداته وثقافته.
وإذا ظلت الثقافة والفن في روسيا ما قبل الثورة من نصيب القلة المختارة، فبعد الثورة في أكتوبر 1917، تلقت الشعوب دعماً هائلاً من الدولة. وأكرر التأكيد على أنني أتناول العملية بشكل عام، دون الإشارة إلى الأخطاء والتجاوزات الحتمية. ففي نهاية المطاف، تعامل البلاشفة بشكل عام مع مهمة تكاد تكون لا تصدق!
لقد نجحوا، من بين أمور أخرى، لأن البلاشفة، بقيادة لينين، أدركوا أهمية الإيديولوجية قبل الثورة بفترة طويلة. وفي تفسير لينين، اكتسب مفهوم الإيديولوجية معنى الاشتراكية العلمية أو الماركسية. وهكذا، كان لينين أول من أثار مسألة الإيديولوجية الثورية كلغة خاصة للطبقة الثورية، ووسيلة لنقل الأفكار وشرحها للسكان غير المتعلمين. وبدأ هذا يشكل خطراً على الطبقة المالكة. لأنه أدرك أنه بعد إتقان الثقافة، ستطرح البروليتاريا حتماً أسئلة، بأي حق
"عائلات قليلة غير موهوبةعن طريق الثروة والطاعة العمياء تملك بلادنا وتقف فوق كل القوانين"؟
إن إدراك أهمية الثقافة قاد لينين حتماً إلى ما يمكن أن نطلق عليه بأمان الثورة الثقافية.
لن أستشهد بأرقام، وإلا فإن المقال سينمو إلى حدود هائلة، ويمكن لأولئك الذين يرغبون في ذلك أن يجدوها دائماً في المصادر الأصلية. ولكن هناك أمر واحد يجب أن نذكره: كان المحتوى الرئيسي لخطة التنمية الثقافية للخطة الخمسية الثانية هو رفع الثقافة الاشتراكية بأكملها إلى مستوى أعلى. وقد رافقت إحدى طبعات موسوعة الأطفال اقتباسًا من لينين: لا يمكنك أن تصبح شيوعيًا حقيقيًا إلا عندما تثري ذاكرتك بمعرفة كل الثروات التي أنتجتها البشرية.
حسنًا، أيها المواطنون المناهضون للسوفيات، أتفق معكم في أن عدوكم قال هذا. ولكن إذا حذفتم (لا أحب أن أفعل هذا، لأن إخراج الكلمات من سياقها يؤدي أحيانًا إلى نتائج غير مرغوب فيها) كلمة "شيوعي"، فهل تفقد العبارة قيمتها؟ لا أعتقد ذلك.
بالمناسبة، عاد فلاديمير لينين كثيرًا إلى موضوع الثقافة، وأحيانًا حتى في أكثر السياقات غير المتوقعة. هل تتذكرون إحدى الكليشيهات المفضلة لدى المناهضين للسوفيات، والتي زعمت أن لينين لم يكن يحب العامل الروسي؟
"العامل الروسي عامل رديء" - هذه هي الكلمات التي استخدموها كدليل. ولكن بعد هذه الكلمات تأتي: "بالمقارنة بالأمم المتقدمة. ولا يمكن أن يكون الأمر مختلفًا في ظل النظام القيصري وقوة بقايا العبودية. يجب ان نتعلم كيف نعمل - هذه هي المهمة التي يجب على الحكومة السوفياتية أن تضعها للشعب بأكمله". أليس صحيحًا أن المعنى قد تغير جذريًا؟
وهناك أفكار مماثلة حول جلب الثقافة إلى الجماهير يتم التعبير عنها باستمرار في العديد من الأعمال. حتى في مجال إدارة الدولة. هل تذكرون عمله "هل يحتفظ البلاشفة بالسلطة الحكومية؟" هناك يتفق تمامًا على أن العامل أو الطاهي غير قادر على حكم الدولة.
ولكنه في الوقت نفسه يعتقد أن "التدريب على إدارة الدولة كان يتم بواسطة عمال وجنود واعين، ويجب أن يبدأ على الفور، أي يجب إشراك جميع العمال، وجميع الفقراء، في هذا التدريب على الفور". والتدريب جزء من الثقافة. وبالطبع، من الغباء أن ننكر حقيقة أن الثقافة كانت جزءًا من الإيديولوجية.
للأسف، لم أتمكن من العثور على المصدر الذي وجدت فيه تعريفًا مثيرًا للاهتمام للغاية لمتى أصبح الانسان إنساناً. ادعى مؤلف العمل أن تطور الانسان من حيوان حدث فقط عندما بدأ في الإبداع. والواقع أن أدوات العمل الأولى تعود إلى مئات الآلاف من السنين، لكن تطور الانسان ككائن اجتماعي وشخصية يتزامن مع وقت ظهور أولى لوحات الكهوف والأشياء الفنية: التماثيل والمجوهرات وما إلى ذلك.
لكن العكس ممكن أيضًا: من خلال تدمير الثقافة، يتحول الشخص حتمًا إلى وحش بري. مثال كلاسيكي: تحولت ألمانيا النازية، وهي دولة ذات ثقافة عالية، إلى قطيع من المجانين من خلال تدمير الثقافة الكلاسيكية. وفي أيامنا هذه، تغرق أوروبا تدريجيًا في حالة مماثلة لألمانيا هتلر من خلال تدمير الثقافة والروحانية في الانسان.
لنأخذ على سبيل المثال التعددية الثقافية السيئة السمعة التي تم إدخالها بلا تفكير في أوروبا الغربية والتي يحاول الليبراليون في بلادنا نقلها إلى الأراضي الروسية. يتم تقديم اللواط والمثلية الجنسية والجنس مع الحيوانات وعشرات الرذائل الأخرى على أنها قمة التطور البشري. بعد أن وقع الفن في براثن الرقابة الأوروبية الغربية (وهي، بالمناسبة، أسوأ من الرقابة السوفياتية، فالرقابة السوفياتية هي ببساطة جنة مقارنة بالرقابة الغربية)، بدأ يخدم أيديولوجية شيطانية معادية للإنسانية.
أو هل ستقول أنه لا توجد أيديولوجية في الغرب؟ في نفس الولايات المتحدة، يتم فرض الأيديولوجية بالقوة تقريبًا، منذ الطفولة. وهذا يؤتي ثماره. لن نتحدث عن المكون الأخلاقي للأيديولوجية الأمريكية، نحن ببساطة نثبت حقيقة وجودها.
وهذه الأيديولوجية تحافظ على وحدة البلاد. المكان المقدس – لا يبقى فارغا أبدًا. إذا قضيت على أيديولوجية - ستحصل على أخرى. وليس من المؤكد أنها ستكون أكثر إنسانية أو العكس. إن عمليات التطور التاريخي تتبع أحيانًا مسارًا ملتويًا.
ذات يوم سُئل رئيس روسيا لماذا تخشى السلطات الروسية "إدخال أيديولوجية دولة صارمة لكل من يريد ويستعد لخدمة الدولة والمجتمع". وردًا على هذا، صرح فلاديمير بوتن قائلاً: "نحن لسنا خائفين من أي شيء"، لكنه استذكر حكم الدستور، الذي ينص على أنه لا يمكن أن تكون هناك أيديولوجية مهيمنة في روسيا". وفي وقت لاحق، أشار على وجه التحديد إلى أن "لدينا أيديولوجية مهيمنة – لقد ذكرت فترة الاتحاد السوفياتي. لكن وجود أيديولوجية مهيمنة لم ينقذ الاتحاد السوفياتي من الانهيار".
للأسف، كان هناك خطأ مخفي في مثل هذه الإجابة. لم ينهار الاتحاد السوفياتي بسبب الأيديولوجية، بل على العكس تمامًا. أدى تدمير الأيديولوجية إلى انحدار حتمي في المستوى الثقافي. وفي النهاية، زرعت الحركات الرجعية بقيادة يلتسين وشركائه ثقافة زائفة جامحة تهدف لنزع الإنسانية.
هل تتذكرون كم عدد الروائع التي صدرت في التسعينيات؟ ربما يمكنكم عدها على أصابع اليد الواحدة. لقد تم سكب كميات هائلة من القذارة على الشاشات حتى أصبح من الصعب تصديق إمكانية إحياء الصحة الروحية للأمة. لقد استقبل أولئك الذين نالوا في العهد السوفياتي جوائز ومكافآت عن أعمال كانت مختلفة تماماً عن تلك التي بدأوا في القضاء عليها أثناء هجمة "الديمقراطية" بحفاوة بالغة.
نتيجة لذلك، لدينا أكثر من جيل من الناس الذين أصبح شعار حياتهم هو: "أنا أعيش، وأكسب المال، وأترك الباقي يهلك".
فضلاً عن ذلك، أدى انهيار الاتحاد السوفياتي إلى كل تلك الصراعات، والتي سنضطر إلى التعامل مع عواقبها لعقود قادمة. بدأ المستوى الثقافي في تلك البلدان التي انفصلت عن الكائن الحي الواحد يغرق ببطء في ظلام العصور الوسطى، وكان كل هذا مصحوبًا برفض الثقافة الروسية العظيمة. بالثقافة الروسية أعني كل ما خلقته شعوب بلدنا.
هل هناك مخرج من الطريق المسدود؟
نعم هناك!
أول شيء يجب إعادته هو النهج السوفياتي في التنمية الثقافية والتعليم الروحي.
ثانيًا، يجب اقتلاع أي براعم للتطرف الديني بلا رحمة، بغض النظر عن المناصب والأشخاص، كما يقولون.
وأخيرًا: يجب تطوير أيديولوجية الدولة، لأن التأخير مساو للموت.
لقد كتبت أعلاه أنني سأتحدث عن المكونات الأخلاقية والمعنوية للأيديولوجية لاحقًا. وهنا نصل إلى إدراك أن الأيديولوجية يجب أن تستند إلى قوانين أخلاقية. يُظهر مثال أوكرانيا بوضوح أنه بناءً على مبادئ النازية وبانديرا، لا يمكنك الحصول إلا على نازي أيديولوجي ومتعصب قومي.
إن مثال أوروبا الغربية يشبه أوكرانيا. حيث دمروا لينين أولاً ثم المسيح، لم يعد هناك مكان للأخلاق والقيم.
هل من الممكن وجود أيديولوجية ذات أخلاقيات عالية؟
بالطبع، نعم. نحتاج فقط إلى فهم تجربة دولتنا وشعوبنا التي استمرت قرونًا، لتلخيص أفضل الأفكار و"تلك الثروات التي أنتجتها البشرية".