|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
فوز حمزة
2024 / 9 / 5
فتحت حسابي الفيسبوكي وبدأت أعدُ طلبات الصداقة التي وصلتني..
مساء البارحة كانت ثلاثة وخمسين طلبًا .. والآن حين أستيقظتُ عند الثانية عشرة والنّصف ظهرًا بلغ العدد سبعة وتسعين طلبًا. ثمة تكاثر كالأخطبوط .. ثمانون منهم كانوا رجالًا والباقي من النساء وبعض المراهقين في صور مضحكة.
يبدو أن صورتي الأخيرة في الفستان الأحمر جاءت بنتائج مذهلة تجاوزت الألف تعليق .. لم تكن جميعها تعليقات، بل غزل مبطن .. لكن ما أبحث عنه حقًا هي الكلمات غير المبطنة التي تشعرني كم أن أنثى!
يا لغبائي! وهل أنا إلّا أنثى؟!.
رسالة من أحدهم يطلب مني قبول طلبه بعد أن كتب سطورًا يتغزل فيها بجمالي وجدائلي الذهبية الطويلة رغم أن شعري قصير فاحم السواد وأرفق طلبه بلوحة مستفزة .. يا له من غبي مثير للشّفقة!. بعد حظري له شعرت بالانتصار لأحلق عاليًا ثم أعود ثانية لتلك النوافذ الزرقاء التي أشعر من خلفها كأني أراقب عالمًا غارقًا في الأكاذيب يسير نحو الجنون.
منشور لأحدهم يصف فيه حبه للمرأة التي خدعته بعد أن قدم لها كل الإخلاص .. وآخر يدعوك لحب عدوك حتى وإن أغرس سكينًا في ظهرك وأغربها من أخرق وهو يصف أمه بأنها أجمل النساء .. ما لي أنا وأمك؟!.
وأنا أتصفح منشوراتهم التي تنادي بالمحبة، ينتابني أمل بأن الأرض ستتحول قريبًا إلى كوكب خالٍ من الحروب وأن السّلام أتٍ لا محالة.
الجميع يبدو مثاليًا، لا أدري أين يختبئ الأشرار؟!.
هذا النهار لم أجد رغبة في قراءة تلك السخافات المنشورة، لهذا لن أشغل نفسي بسرقتها وإعادة نشرها على حائطي.
مكالمة هاتفية من صديقة على أرض الواقع تدعوني لأن نلتقي في المقهى الجديد قرب النهر وهي كما قالت فرصة لأن نجرب الأركيلة التي عندهم. في الحال، اخترعت لها كذبة بوجود ضيوف لدي.
هناك ما هو أهم من الأركيلة هذا النهار أيتها المملة.. عدتُ لحقل الطلبات.
ابتسمت وأنا أنظر لتلك الصور التي بدا اصحابها كأنهم بلهاء. على حين غفلة، هواجس مخيفة تمكنت مني.. ربما تلك النظرات التي تنبعث من عيونهم .. نهضت من مكاني مسرعة لأتخلص من هذا الإحساس الذي لا يتركني إلا وأنا عاجزة كجثة ملقاة على رصيف مظلم. رششت بعض الماء على وجهي .. عيناي في المرآة كأنهما ليست لي .. تشبه عيون أولئك الذين في الصور. أغمضتها بسرعة وخرجتُ من الحمام أتلمس الجدران فالأشياء من حولي كانت تدور.
فنجان القهوة الذي برد قليلًا مع سيجارة مشتعلة أعادا لي توازني وشيئًا من الراحة، فرجعت لتلك الوجوه الغريبة أحدق فيها. بعضهم وضع صورة وهمية بدل صورته الحقيقية والبعض الآخر يستخدم أسماءً مضحكة مثل رجل أبكاه القدر أو عطر المطر، أولادي كل حياتي أو تلك التي تدعي أنها حرة بوصف نفسها ذلك الوصف الذي يشبه زغزة البطن: أنا سيدة نفسي .. أو تلك التي ذهبت بعيدًا لقاع البئر حيث كتبت: يليق بكبريائي الغرور!.
أما قديس الحروف الذي لم يكن يجيد الكتابة دون أخطاء إملائية فتلك حكاية متفردة!.
هؤلاء لا يثيرون فضولي فلا أقبل طلباتهم وكذلك لا أقبل صداقة أيَّ امرأة .. فأنا في غنى عن مشاكلهن وثرثرتهن غير المجدية أما غيرتهن فتحتاج لمجلدات أصف المعارك التي كانت تشتعل في التعليقات والتي تنتهي دائمًا ببناء الجدران. كبار السّن هم من أبحث عنهم .. حيث يمكنني الإستفادة من تجاربهم التي تشبه طبق الحلوى بعد الإفطار.
بحثت عن علبة سجائري بينما راحت أصابع يدي الأخرى تلامس شاشة الهاتف تقلب في صورهم التي لم تزدني إلا مللًا. وأنا أهم بغلق الهاتف لمحت صورة رجل يحتضن كلبًا .. إنه صديق مشترك مع صديق لي. حدقت في صورته طويلاً قبل أن أبعث إليه بطلبٍ للصداقة.
ضحكت وأنا أقرأ عبارته التي كتبها تحت صورته: يظنون أن خداعي سهل. فقلت في نفسي وأنا أحاول تكبير صورته: ربما تظن ذلك يا صديقي الجديد. رحت بعد ذلك أقرأ في بياناته التي وجدت فيها ما أريده، رجل في السّتينيات من عمره، أنيق .. فيه بعض الوسامة والأهم من ذلك ما كتبه من أنه يبحث عن صداقة جادة. قلت له بصوت عالٍ كأني أراه: أنا أيضًا أبحث عن صداقة جادة ..
وأنا أنفخ بدخان السيجارة بعيدًا عن وجهي شعرت كأني أخرج شيئًا ثقيلًا من صدري ،نهضت من مكاني باتجاه الشرفة.
المدينة على اتساعها بدت لي صغيرة ومظلمة. لا تشدني إليها أيُّ عاطفة بل زاد شعوري بالضّياع لرؤية الشمس وهي تغيب. الوقت أواخر الخريف والبرد أخذ يقسو .. الأمر الذي أجبرني على العودة للداخل لأجلس في مكاني الذي يتيح لي مراقبة العالم وأنا احتضن قطتي من خلف النافذة.
وأخيرًا، جاءت الموافقة.
انتقلت بأصبعي إلى حقل الرسائل الخاص به فبعثتُ له لوحة ورد أتبعتُها بكلمة امتنان ثم أغلقتُ الهاتف ورميته بعيدًا استعدادًا للجولة الثانية.
امتلأت المنفضة بأعقاب السّجائر مثلما امتلأ رأسي بالأفكار ..
مرت ساعة قبل أن يردني إشعار من الماسنجر. كانت الرسالة من الصديق الذي لا يُخدع بسهولة . كلمات الترحيب التي كتبها قصيرة ومقتضبة، ظهر بعد ذلك عبارة نشط منذ دقيقة. لم ينتظر ردي عليه، ثمة أمر غريب على وشك الوقوع!.
رسالة من صديق يسألني عن الجو في مدينتي .. فكتبت له على الفور: وكأني وكالة الأنواء الجوية!
في هذه اللحظة .. شعرت بالوسادة كأنها طلقة الرحمة التي ستنقذني من هؤلاء وقبل غلقي الهاتف وردتني رسالة من صديق يسألني فيها إن كنت متزوجة وهل لدي أولاد ثم أنهى سيل الأسئلة بهل لدي عمل أم ربة بيت .. لكنّي عرفت كمية الغباء التي تعشعش في خلايا دماغه حين سألني عن عمري .. نظرت إلى اسمه أعلى الشّاشة فقرأت: الحياة صعبة!.
سلمت نفسي للنّوم وأحلامه . مقطع من أغنية لفيروز وجدتها حين فتحت حسابي صباح اليوم الثاني من نجاح عبد السّلام وهو اسم الصديق الذي لا يسهل خداعه .. رغم أني لا أحب هذه الأغنية لأنها تخلق حولي جوًا من الحزن لكنني وجدتها ذريعة للحديث معه والذي ابتدأته بكلمات الشّكر والتّعليق على أنني أحب هذه الأغنية .. فكتب لي: نهار سعيد أتمناه لك سيدتي .. ثم أرسل لي الكف التي أمقتها وخرج من المحادثة. إنها حقًا حادثة غريبة! .
بدأت الأمطار بالهطول فجأة ليبدأ عزفها على النوافذ .. برد ومطر ونسكافيه ساخنة وفيس بوك. فليذهب العالم إلى الجحيم .. آه .. نسيت السّجائر !! حقًا استغربت من نفسي التي لم تكن تهتم لأي شخص أوجده العالم الافتراضي .. لكنها الآن منشغلة بمراقبة رجل من ذلك العالم نفسه. رسالتي الأخيرة التي لم يقرأها إلا بعد يومين تشبه رياح الخريف التي لا تسقط من الأوراق الا الميتة .. وكما يشرق الصّباح على النهار بدأ الأمل يشرق في قلبي حين رأيت تلك الدائرة الخضراء التي تعلن عن حضور الصديق للعالم الأزرق .. فورًا كتبت له أحييه .. تجاهل تحيتي كما يفعل كل مرة .. في تلك اللحظة شعرت بالوحدة التي سمحت للحزن بالتسلل إلي من ثقب صغير في رأسي لتحكم بعدها غلق هذا الثقب .. نهضت من مكاني مذعورة كمن أصابها مس لأقف قرب نافذتي أرقب منها شجرة أصبحت ملاذًا لعشرات من الطيور .. أما أنا فحتم عليّ سؤال نفسي : أيهما أسعد .. نحن البشر المهووسون بكل ماهو جديد أم تلك الطّيور التي لم تعرف منذ وجودها على الأرض سوى عش يأويها على غصن شجرة؟!.
أغلقت الهاتف و عدت إلى نفسي المتطلعة لذاك الغصن ..
في بساطة تنطوي صحفنا .. فكيف ينطوي ضجرنا؟. فمن المفترض الابتعاد وقت التخلي .. نفلت أيدينا ..
لكن ممن؟ ومن ذاك الذي مسك بيدي؟ أحاول أن أجعل يومي مزدحمًا بالأحداث التي أتوهمها .. لم أعد أهتم بتفاهة التفاصيل .. لا أريد الرّكون إلى نفسي .. ربما لأني أخشاها .. لا أريد للتفكير ابتلاعي .
كل البأس في قلبي .. فكما تسقى جفاف الأرض بالمطر فلا بد وأن تسقى نفسي وهي تتأمل الطيور.
سأعود أرتب كل شيء كما كان قبل أن تحل فيّ الفوضى ويدنس العبث أوقاتي. ألملم شتات أيامي وأعلق صورة أخرى بفستان جديد على جداري وعلى جدران قلبي وأورقتي. سأغير شراشف الذّكريات وأفتح نافذة جديدة من رأسي للصّباح لتدخل مرة أخرى عصافيري التي هجرتني يومًا.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |