|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
محمد عبد القادر الفار
2024 / 9 / 5
في لحظات الفجر المتألقة، حيث تتنفس الروح أنفاسًا جديدة، شعرتُ أنني أقف على مفترق طرق روحي. كنت أبحث عن شيء يتجاوز حدود العقل والمنطق ويروي عطش الروح الحائرة. هكذا بدأت رحلتي في البحث عن الحقيقة، بين صخب الحياة المادية وأوهام الأفكار الفلسفية التي لم تكن سوى سراب.
نشأتُ في بيت يجلّ عبد الناصر، ذاك القائد الذي ملأ الآفاق بخطاباته وأحلامه بالكرامة العربية. كان والدي يرى في عبد الناصر رمزًا للاستقلال والكرامة، وعليه ترسخت في ذهني الشاب صورة عبد الناصر كالبطل الذي يستحق الحب والولاء. لعل إعجاب والدي بعبد الناصر كان له عذره، فقد عاش في حقبة كانت فيها هذه الشخصية تمثل الأمل للكثيرين، خاصةً أمام ما بدا وكأنه تآمر دولي على مصير الأمة. لكن وفاة والدي المبكرة جعلتني أرى في مواصلة الإعجاب بعبد الناصر وفاءً لذكرى والدي وحملًا لرسالته من بعده.
ومع مرور الوقت، بدأت أدرك أن هذا الإعجاب كان مبنيًا على نصف الحقيقة، وأن ظلم عبد الناصر واستبداده كانا أكثر عمقًا مما كنت أتخيله. ربما لو عاش والدي أطول، لكان قلبه يميل نحو سيد قطب، الذي كان يمثل نقاء الفكر الإسلامي وضحية ظلم الطغاة. فكيف لرجل مثله، الذي رفع شعار العدالة والمساواة، أن يسكت على اضطهاد مفكر إسلامي قُتل ظلمًا وعدوانًا؟ هنا بدأت أفتح عيني على تناقضات كثيرة كانت خافية عليّ، وبدأت أرى الحقيقة بعين مختلفة.
ومع تلك الرؤية الجديدة، بدأت أبحث عن نماذج أخرى من التاريخ الإسلامي، قادة جمعوا بين القوة والعدل، بين السلطة والتقوى. وهنا يأتي مثال الحاكم العادل **نور الدين زنكي**، الأمير الذي حكم بلاد الشام ومصر في القرن الثاني عشر. لم يكن نور الدين فقط قائداً عسكرياً بارعاً، بل كان كذلك مثالاً في الحكمة في اختيار بطانته وأعوانه، محاطًا بأفضل العلماء والمستشارين الذين كانوا ينصحونه ويعملون معه من أجل رفعة الأمة. على النقيض من ذلك، أحاط عبد الناصر نفسه بأفراد من أسوأ عناصر المجتمع، معروفين بسوء الأخلاق والانتهازية، وقد أعطى هؤلاء مساحة للتأثير على سياساته واتخاذ القرارات الحاسمة. هنا، يظهر لنا الفارق الجوهري بين القيادة التي تعتمد على العدالة والحكمة وبين القيادة التي تضللها المصالح الشخصية والأهواء.
عندما نقارن بين نور الدين زنكي وعبد الناصر، نجد فجوة هائلة. عبد الناصر، رغم شعاراته الطنانة، لم يكن قائداً يستحق أن يكون قدوة في ظل وجود قادة مثل نور الدين، الذين جمعوا بين القوة والعدل والتواضع الحقيقي. عبد الناصر سعى وراء السلطة وبنى مجده على أكتاف البسطاء، بينما نور الدين خدم شعبه بعدالة ورحمة، واستمد قوته من التزامه بالقيم الإسلامية واختيار أفضل الرجال ليكونوا في بطانته.
وبينما كنت أتابع مسيرتي الفكرية، وجدت نفسي في مواجهة مع بريق الأفكار الباطنية والفلسفات التي تبدو وكأنها تحمل في طياتها سر الحياة، تبحث في داخل النفس البشرية عن معنى أبدي. لكن مع مرور الزمن، بدأت أدرك أن هذا العالم الباطني كان يخفي وراءه فراغًا أكبر من فراغ الحياة المادية نفسها. كان يغرق في الغلو والتطرف الذي يُضيع البوصلة ويغرق الإنسان في تفاصيل تجره بعيدًا عن النور.
وهنا تذكرت كيف كنت أجد في الموسيقى، خصوصًا موسيقى فيروز وأم كلثوم، ما يشبه السمو الروحي؛ نغمات تأسر القلوب وتلهب المشاعر، وتجعلنا نشعر وكأننا نعيش في عالم مثالي مليء بالأحاسيس النبيلة. ولكن في العمق، ماذا كانت تقدم هذه الموسيقى؟ كانت تقدم شعورًا زائفًا بالراحة، تغلف الواقع بعباءة من الجمال الموسيقي، لكنها في النهاية تُخفي الحقيقة أو تُحرفها. هل يمكن حقًا أن نثق في هذا السمو الظاهري؟ ألم يكن هذا الشعور نوعًا من الخداع الذي يلهينا عن حقائق الحياة الصارخة؟ تذكرت كيف كانت كلمات بعض أغاني فرانك سيناترا أو خوليو إغليسياس تحملنا إلى عوالم من الرومانسية والخيال، لكنها كانت في النهاية مجرد أوهام تبتعد بنا عن الحقيقة. تمامًا كما كان بريق خطابات عبد الناصر يخفي وراءه عالماً من الاستبداد والتضليل.
في تلك اللحظات الحاسمة، وجدت نفسي أستعيد ذكرياتي عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الذي قدم لنا في خطبة الوداع خلاصة الرسالة المحمدية: "لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى". تلك الكلمات التي تحمل في طياتها عدالة وكرامة لا يضاهيها أي فكر بشري. إنها دعوة واضحة للتخلص من كل أنواع الغلو والباطنية التي تفرق بين الناس وتُغرقهم في دوامة لا تنتهي.
عندما أتأمل في كلمات المسيح عليه السلام في موعظة الجبل، أجد نفس الدعوة للتسامح والمحبة الصافية، تلك التي لا تعرف التمييز ولا الانغلاق. فالمحبة هي التي تجمع ولا تفرق، وهي التي توجه الإنسان نحو فهم أعمق لمعنى الحياة.
وفي النهاية، أستخلص من رحلتي هذه درسًا عميقًا: الحقيقة لا تُعرف بالأسماء والشعارات، بل بموازين العدل والتقوى. إن نور الدين زنكي، بصلابته وتقواه، كان يشكل النموذج الحقيقي للقائد الذي يوازن بين الدنيا والآخرة، بين القوة والرحمة. أما عبد الناصر، فقد كان مثالاً على التناقض بين ما يُقال وما يُفعل. واليوم، أجد نفسي محررًا من أغلال الإعجاب الخاطئ، متجهًا نحو نور الحقيقة الذي أضاء لي درب الحياة من جديد.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |