مكالمة بعد منتصف الليل

فوز حمزة
2024 / 9 / 2

لم يكن المطر وحده من أغراني بالوقوف قرب النّافذة،إنما هي محاولة بائسة مني لتأمل الحياة التي وجدتُ نفسي فيها بين حاضر مزيف وماض تئن ذاكرتي من وطأة ألمه وبين مستقبل انقشع الضّباب عنه فإذا به يحمل في يده سكينًا صدئة لقطع كل خيط للأمل قد أتشبث به.
الصّدفةُ وحدها من قادتني للعثور على رسائل حبيبي الأول في حوزة زوجي وهو يخبئها في درج مكتبه مع أشياء قديمة مصفرة اللون وكراسات ممزقة تساقطتْ أوراقها عندما حاولت فتحها وأشياء أخرى لم يعد يحتاجها كمحبرة قديمة وألبوم صور فارغ ومرآة قديمة عكست لي ملامح وجهي الذابلة.
هل قلت رسائل حبيبي؟.
يا لسخرية القدر!.
إنها تلك التي عشت بها أخطر أيام من مشاعري وأنوثتي وعطوري وذكرياتي المعبقة بأحلامي وآهاتي الصغيرة المخفية لذلك الحبيب الذي كان لي كشرطي مرور ينظم لي سير حياتي برضا مني وبحب.
نظرت ثانية للرسائل التي بدت كأن يدًا لم تلمسها .. وذلك الشّريط الذي ربطت به قد غطاه الغبار كما غطى أسطح حياتي.
وأنا أزيل الغبار، ظهر اللون الأزرق الذي كثيرًا ما كان يعشقه حبيبي. شعرت كأن الأرض أخذت بابتلاعي، بحثت عن مفردات لأبرر وبكل ما أمتلك من دهشة، استغربت، كأننّي عثرتُ على نفسي في هذا الدرج!.
نظرت إلى العالم الورقي المبعثر أمامي.
حاولتُ فتح الرّسائل، كأن حبالًا قيدت يديّ وعينيّ تماهي الموت في صمته ورعبه!.
وأنا ما أزال أمسك بحزمة الرسائل، مر شريط الماضي أمامي....
أحبّبنا بعضنا منذ سني الدّراسة الأولى، منذ تفتحَ ربيعي الثامن عشر ومزيد من العنفوان يتناسل داخلي ليمنحني القوة والإيمان من أن هذا الحب هو مملكتي التي سأحميها ما حييت، معه فقط أتمكن من قراءة روحي وبصحبته أعود طفلة لا تحذر من شيء.
لمْ تكن لقاءاتنا عابرة، بل من خلالها رسمنا صورًا لنا بتقاطيع جديدة، كنا ننظر للحياة بعيون أخرى.
سير الأيام البطيء خط لنا مستقبلًا جميلًا ونحن نحلم باليوم الذي نشعل فيه النيران بجبروت الأنوثة وكؤوس من النّبيذ الأحمر.
انتهتْ أعوام الدراسة الأربعة، فإذا بالأيام ترمي أمامنا حجرًا كبيرًا يصعب زحزحته عندما اضطر حبيبي للسفر خارج البلاد للبحث عن فرصة عمل بعد فشله في إيجادها في الداخل.
بلغني صوته مرتعشًا واعدًا إياي في وصول رسالة منه كل أسبوع و يزودني برقم هاتفه، فثمة صديق لنا سيتم من خلاله ذلك وهو زميلنا المقرب في الجامعة، الشّاهد الوحيد على قصتنا.
رحل فارسي وتركني أصارع الوحدة، أتجرع كؤوس الصّبر بمرارة. أرقب النّهارات وهي تعانق أشيائي مودعة إياها بينما الصّمت يعيد ترتيب ذكرياتي، أما جسدي فقد تحولَ لمقبرة صماء لتلك الذّكريات.
لمئات المرات أعدت قراءة الرّسالة التي وصلتني منه بعد أسابيع عدة من رحيله عن طريق الصّديق المشترك، وفي كل مرة أجد فيها كلمات جديدة ومعاني للحب مختلفة كأن قلبي يعلم أنها ستكون الذّكرى الوحيدة ثم رسالة أخرى تلتها بعد شهور طويلة يطلب مني محاولة نسيانه ولم يكن يعلم أنه كمن حكم عليَّ بالموت بكلمات لم أعهدها منه يومًا.
ياترى هل علم أنه بفعلته هذه أطلق النار عليّ ؟!.
مقتضبة كلمات الرّسالة، لكن يُعتصر الألم من بين حروفها.
سلمت نفسي للقضاء والقدر!.
وأنا أقف وحيدة على شاطئ الذكريات، فإذا بقارب يدعوني للعبور... عرض للزواج يأتيني من الصّديق الذي شهد معي دفن جثمان حبي، وبيده هال التراب عليه.
عَبرتُ بجسدي بينما بقيت روحي تنتظر بلا أمل على الضّفة البعيدة.
تشابهتْ التّقاويم والسّاعات عندي حتى عصر ذلك اليوم الذي عثرت فيه على حزمة رسائل حبيبي التي بعثها لي عن طريق الصديق الذي تزوجني فيما بعد.
في إحدى هذهِ الرسائل يطلب مني الاستعداد لملاقاته لأنه عائد بعد أيام، ويتساءل بغرابة عن انقطاعِ أخباري عنه هو الذي ظنّ أنني لن أنساه. التاّريخ أسفل الورقة يقول إنها أرسلت قبل أربعة أعوام، ومعها رقم هاتفه يطلب مني الاتصال به.
لحظة رؤيتي لحبيبي بعد اتصال تلقاه مني لملاقاته تشبه لحظة شروق الشّمس بعد ليلة ممطرة. الدهشةُ وصوت تدفق الدم في القلب وبضع قطرات من الحب كَانت كافية لإنعاش ذاكرتنا.
النار التي أضرمتها فعلة زوجي حينما عرفنا ما دبره لنا لم تستطع حلاوة اللقاء إطفاءها. عرفنا أيّة لعبةً دبرها الخائن ليفرق بيننا، فقد أخفى الرّسائل عني إلّا واحدة كتبها بخط يده وفيها رسم بمهارة نهاية قصة الحب التي ولدت على يديه.لا أدري كيف لم أميز بين خطيهما؟!. ما مكتوب في الرّسالة ربما هو الذي توهني عن أي شيء آخر.
ألف شمس لن تستطيع تبديد اللون الرّمادي الذي اكتست به أيامنا.
تيقنا أننا وراء أحزاننا عندما منحنا ثقتنا لمن لا يستحقها.
أنا ما أزال متعلقًا بكِ!.
بهذه الكلمات ودعني.
حاولت استرداد أنفاسي بعد المعركة التي وجدتني أقاتل فيها رغمًا عني. الأسلاك الشّائكة التي أحاطت بأفكاري سدت عليّ أيّ فرصة للنجاة. أصبحت حبيسة فكرة أنني خدعت وتمت خيانتي!.
بينما الوقت يمر قلت لنفسي: لقد أتت اللحظة التي سأواجه بها حاضري ومستقبلي.
نظرت بعمق في عينيه وبصوت عرف حين سمعه أنه في ورطة كبيرة، قلت له:
- ما الذي دعاك للاحتفاظ بها .. ألم يكن من الأجدر التّخلص منها بعد نجاح ما خططت له ؟.
- لا أدري حقًا لم فعلت ذلك .. ربما الغباء أو القدر .. تعالي نغلق هذا الباب وسيتكفل النّسيان بالباقي، فعلت ذلك بدافع الحب. كنت أمنيتي التي ادخرتها لي الأيام، أقسمت أنني سأطاردها مهما كلف الأمر، لا تنسِ الأوقات السّعيدة التي قضيناها معًا .. تذكري أنا من بقيت إلى جانبكِ بينما هو رحل ليلحق بأحلامه.
لذت بالصمت وأنا أستمع إليه، اختفت ملامحه وتلاشى شيئًا فشيئًا خلف الكذب بعد ارتدائها رداء الخيانة. هناك أشياء لا يمكن إصلاحها.
أنا ما أزال متعلقة به، وما فعلته بيّ جعلني أزداد تعلقًا به.
بهذهِ الكلمات واجهت زوجي وأنا أحمل في يديّ الرّسائلَ التي بها تزوجني وهي ذاتها التي أغلقت كل باب للعودة حاول طرقه.
غادرت البيت بصحبة طفليّ وشعور بأنني خرجت من حرب أنا الخاسرة فيها وفي ذات الوقت المنتصرة، أو هكذا خيل لي.
تهيأت للطيران ولا أجنحة لدي!.
بعد شهور من حصولي على الطّلاق ..
مكالمة بعد منتصف ليلة باردة أتلقاها من حبيبي، بصوت متحشرج وكلمات حروفها مقطعة يخبرني بعدم انتظاره، فقد تزوج من امرأة أخرى.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي