وعدٌ مُلزمٌ أم حبرٌ على ورق؟ دوافع انضمام الدول لمعاهدات حقوق الإنسان

خليل إبراهيم كاظم الحمداني
2024 / 8 / 28

تُشكّل معاهدات حقوق الإنسان حجر الزاوية في النظام الدولي لحماية وتعزيز حقوق الإنسان، فهي تُلزم الدول الأطراف قانونيًا باحترام وحماية وإعمال مجموعة واسعة من الحقوق والحريات الأساسية. لكن يبقى السؤال المُلّح: ما الذي يدفع الدول للانضمام طواعيةً لقيودٍ قانونيةٍ دوليةٍ تُحدّ من سيادتها المطلقة؟
قد تبدو الإجابة واضحة للوهلة الأولى: فالالتزام بحقوق الإنسان واجبٌ أخلاقيٌ وإنسانيٌ. لكن الواقع أكثر تعقيدًا من ذلك، حيث تتداخل مجموعةٌ من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتشكيل قرار الدول بالانضمام لمعاهدات حقوق الإنسان.
ويمكن تصنيف هذه الدوافع إلى ثلاثة محاور رئيسية:
أولاً: ضغوطٌ خارجيةٌ تستهدف مُدخلاتِ النظام:
• الضغط الدولي: تمارس المنظمات الدولية غير الحكومية والحكومية، كمنظمة العفو الدولية ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ضغوطًا على الدول من خلال إصدار التقارير وتنظيم الحملات والمرافعات الدولية لحثّها على الانضمام للاتفاقيات وتطبيقها. (يمكن الإشارة إلى تقرير منظمة العفو الدولية لعام 2022 حول حالة حقوق الإنسان في العالم كمثال).
• دبلوماسية حقوق الإنسان: تُوظّف بعض الدول قوة "القوة الناعمة" للدفع باتجاه انضمام دولٍ أخرى لاتفاقيات حقوق الإنسان بهدف تعزيز قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في النظام الدولي. (مثال: دور الولايات المتحدة في الترويج لاتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري).
• شرعنة النظام السياسي: تلجأ بعض الدول، لا سيّما تلك التي تمر بمرحلة انتقالية أو تُواجه انتقاداتٍ دوليةً بشأن سِجلّها في مجال حقوق الإنسان، إلى الانضمام للإتفاقيات كوسيلةٍ لإضفاء الشرعية على نظامها السياسي وتحسين صورتها في المحافل الدولية. (مثال: انضمام العديد من الدول لمجموعة من المعاهدات بعد موجة الحراكات الجماهيرية بعد 1968 وبعد عام 2011 .
• المساعدات الدولية: قد تُقرن الدول المانحة أو المؤسسات المالية الدولية تقديم المساعدات بالتزام الدولة المُستفيدة بمعايير حقوق الإنسان وتصديقها على اتفاقيات مُحدّدة. (مثال: اشتراط البنك الدولي على الدول المُقترضة الالتزام بمعايير العمل اللائق).
ثانيًا: دوافع داخلية تنبع من صُلبِ النظام ذاتهِ:
• الالتزام بالقيم والمبادئ: تُمثّل حقوق الإنسان قيمًا عالميةً تُؤمن بها بعض الدول وتسعى لتكريسها في تشريعاتها وممارساتها. (مثال: التزام الدول الإسكندنافية بتعزيز حقوق الإنسان كجزءٍ من هويتها وقيمها).
ولا يقتصر هذا الدافع على التزام الدول بمبادئ حقوق الإنسان من ناحية نظرية، بل يتعدّاه إلى وجود رغبةٍ حقيقيةٍ لدى النُخب الحاكمة والمجتمع المدني في ترسيخ ثقافة احترام حقوق الإنسان في المجتمع. (مثال: دور المجتمع المدني في كوستاريكا في تعزيز حقوق الإنسان وحلّ النزاعات سلميًا).
• حماية المواطنين: قد تنضم بعض الدول للإتفاقيات بهدف توفير آلياتٍ دوليةٍ لحماية مواطنيها من الانتهاكات، لا سيّما في ظلّ وجود ضعفٍ في النظام القضائي أو الرقابي الداخلي. (مثال: انضمام دول أمريكا اللاتينية لاتفاقية منع التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المُهينة. ولا تقتصر حماية المواطنين على توفير آليات المُساءلة والتعويض، بل تشمل أيضًا ضمان تمتّعهم بحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كالحق في الصحة والتعليم والسكن اللائق. (مثال: الانضمام واسع النطاق لاتفاقية حقوق الطفل بهدف تحسين وضع الأطفال وحمايتهم من الاستغلال).
• تعزيز الديمقراطية وسيادة القانون: تُساهم الإتفاقيات الدولية في ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وتُعزّز من مبادئ الديمقراطية وحكم القانون داخل الدول. (مثال: دور العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في تعزيز الحريات الأساسية والمُشاركة السياسية كما تُساهم معاهدات حقوق الإنسان في تعزيز المُساءلة والشفافية ومُشاركة المواطنين في صنع القرار، مما يُعزّز من مبادئ الديمقراطية ويُرسّخ دولة القانون. (مثال: دور ذات العهد في دعم حرية التعبير والتجمّع وتشكيل الجمعيات
ثالثًا: دوافعٌ أخرى تُشكّلُ بيئةَ النظامِ وتُؤثّرُ في فعاليّتهِ:
• التأثير الإقليمي: قد تُؤثّر الديناميات الإقليمية على قرار الدول بالانضمام للإتفاقيات، فانضمام دولةٍ ما قد يشجّع دولًا أخرى في الإقليم على القيام بالخطوة ذاتها. (مثال: انضمام دول الاتحاد الأوروبي لاتفاقية الأمم المتحدة بشأن حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة).
• المصالح الاقتصادية: قد تُدرك بعض الدول أن الانضمام لاتفاقيات معيّنة، كالعهود الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أو اتفاقيات منظمة العمل الدولية، قد يُحسّن من مناخ الاستثمار ويُعزّز من التنمية الاقتصادية.
وهنا لابد من الاشارة الى أن الانضمام للاتفاقيات لا يعني بالضرورة تطبيقها على أرض الواقع، حيث تواجه الدول العديد من التحديات في تنفيذ بنود هذه الاتفاقيات، كالافتقار للإرادة السياسية أو الموارد الكافية، أو وجود ثغراتٍ في التشريعات الوطنية. لذا، يبقى من الضروري مُتابعة أداء الدول وتقييم مدى التزامها بالتعهّدات التي أعلنتها أمام المجتمع الدولي.
فهل ستكون معاهدات حقوق الإنسان مجرد "حبرٍ على ورق" أم أنها ستُشكّل خطوةً حقيقيةً نحو بناء عالمٍ أكثر عدلاً واحترامًا لكرامة الإنسان؟
بين مطرقة الضغوط وسندان المخاوف: لماذا تتردد الدول في الانضمام لمعاهدات حقوق الإنسان؟
لا شك أن معاهدات حقوق الإنسان تُشكّل أداةً قانونيةً ورمزيةً هامةً لحماية وتعزيز كرامة الإنسان، لكن الطريق نحو الانضمام لهذه الاتفاقيات لا يخلو من المطبات والتحدّيات، حيث تجد الدول نفسها أمام مُعضلةً بين الالتزام بالتعهّدات الدولية والحفاظ على مصالحها الخاصة.
فإلى جانب الدوافع التي تُشجّع الدول على الانضمام، تبرز مجموعةٌ من الموانع والصعوبات تجعلها مترددةً في اتخاذ هذه الخطوة، منها:
أولاً: المخاوف المتعلّقة بالسيادة الوطنية:
• التدخل في الشؤون الداخلية: تخشى بعض الدول أن يُشكّل الانضمام للإتفاقيات الدولية بابًا للتدخل في شؤونها الداخلية، خاصةً من قبل المنظمات الدولية أو الدول الكبرى. (مثال: موقف بعض الدول من انتقادات لجنة القضاء على التمييز العنصري لسياساتها الداخلية).
• تقييد حرية التشريع: قد تُبدي بعض الدول تحفّظاتٍ على بعض بنود الاتفاقيات التي ترى أنها تتعارض مع تشريعاتها الوطنية أو ثقافتها ومعتقداتها، مما قد يُشكّل قيودًا على حريتها في سنّ القوانين. (مثال: تحفّظات بعض الدول الإسلامية على بعض بنود اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة المتعلّقة بالأحوال الشخصية).
ثانيًا: التحديات المتعلّقة بالتنفيذ:
• النقص في الموارد: قد تفتقر بعض الدول، لا سيّما النامية منها، للإمكانيات المادية والبشرية اللازمة لتنفيذ التزاماتها بموجب الاتفاقيات، كإجراء التعديلات التشريعية وإنشاء آليات المُراقبة والتنفيذ.
• الفساد وضعف سيادة القانون: قد يُشكّل انتشار الفساد وغياب المُساءلة وضعّف النظام القضائي عقباتٍ حقيقيةً أمام تنفيذ بنود الاتفاقيات على أرض الواقع.
ثالثًا: أسبابٌ سياسية وايديولوجية:
• المصالح الجيوسياسية: قد تُؤثّر التحالفات والتوترات السياسية على موقف الدول من الانضمام للإتفاقيات، فقد تمتنع بعض الدول عن التصديق على اتفاقية معيّنة لغايات سياسية أو لمنع مُنافسٍ لها من تحقيق مكاسبَ دبلوماسية.
• الأيديولوجيا والمعتقدات: قد تُشكّل الأيديولوجيا الرسمية للدولة أو المعتقدات الدينية أو الثقافية السائدة عاملًا مُؤثّرًا في موقفها من بعض حقوق الإنسان، مما قد يُعيق انضمامها لاتفاقيات مُحدّدة. (مثال: موقف بعض الدول من حقوق المثليين).

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي