لوحة عائلية

فوز حمزة
2024 / 8 / 23

بخطواتٍ بطيئة مترددة دخلت السيدة سوزان الأشقرعيادة الطبيبة النفسية ريم الأحمد.
توقعت أنها ستقابل طبيبة متقدمة في العمر بعد سماعها عن خبرتها في مجال العلاج النفسي من ضابط المباحث الجنائية حامد العلي الذي تربطه علاقة صداقة بعائلة سوزان وفي ذات الوقت كان قريبًا للدكتورة ريم. في النّهاية استسلمتْ لشعور الراحة عندما وجدت نفسها أمام شخصية تبدو من طراز خاص.
ابتسمتْ ريم وهي تنظر إلى سوزان التي كانت في بداية عقدها الخامس وما تزال تحتفظ بجمال ورقّة ربما ورثته من عائلتها الارستقراطية، بادرتها الطبيبة :
- هل أنتِ مستعدة لنبدأ الجلسة ؟.
- شيء يجب عليك معرفته أولًا، أنا هنا من أجل ابنتي !.
تقدمت الطبيبة بجسدها للأمام وشبكت يديها بعد تشغيلها جهاز التّسجيل قائلة :
- أخبرني قريبي حامد بذلك. ما المشكلة؟.
وفي نبرة صوت قلقة .. قالت :
- قبل شهور لاحظتُ أن ابنتي رهف تدخل في حالة غريبة، لا تتحدث ولا ترد على من يكلمها إلى أن حدث شيء غريب جعل قلقي يزداد وحيرتي تكبر!.
لم تعلق الدكتورة وواكتفت بهزرأسها بينما استأنفت السيدة سوزان:
- ذات نهار دخلتُ غرفتها. كانت شاردة.. لم تخرج من حالتها إلّا بعد أن هززتها بقوة !.
شيء أثار مخاوفي أكثر بعدما أكدتْ على أنها كلما تمسك فرشاة الرسم؛ ترى حلمًا وهذا الحلم يتكرر ذاته بين فترة وأخرى.
- تحلم وهي صاحية ؟!.
- هذا ما فهمته وبعد شرحي الأمر لحامد، أشار عليّ بزيارتك...
قاطعتها الطّبيبة :
- أحكي لي عن طفولة رهف.
- على الرغم من كونها ابنة مدللة إلّا أنها كانت تتسم بالهدوء، وحينما بلغت الخامسة بدأ حبها للرسم يظهر واضحًا..
سكتت لحظات بينما عيناها امتلأت ببريق الحزن!.
- يوجد شيء آخر، قبل أيام رسمت لوحة لرجل يرتدي معطفًا أسودًا و شالًا بنيًا ..
- ما الغريب في ذلك؟.
- الرجل الذي رسمته هو أخي وائل الذي هاجر مذ كان عمرها أربع سنوات ولا نملك له أية صورة تدل عليه ولم نتحدث عنه أبدًا أمامها.
- تقصدين أنها رسمت خالها دون معرفتها به؟.
- بالضبط .. رسمته بالهيئة التي كان عليها ليلة سفره!.
- ما الذي يمنعك من التحدث عن أخيك أمام ابنتك؟
- تلك قصة أخرى!
ودّعتْ الطبيبة السيدة سوزان بعد أن طلبت منها إحضار رهف في الجلسة الثانية.
.................................
مر أسبوع قبل حضور سوزان مصطحبة ابنتها مع أدوات الرسم. طلبت ريم من سوزان المغادرة على أن لا تعود إلا بعد اتصال تتلقاه منها.
أخذت ريم تتفحص الفتاة. كانت في الرابعة عشرة. ورثت الجمال والهدوء عن والدتها، لكن تُخبَّئ وراء نظراتها شيئا غريبًا!.
مضت نصف ساعة، كانت الطبيبة خلالها تتحدث مع رهف عن الرسم والألوان ثم سألتها :
- ما رأيكِ لو ترسمين لوحة لأشخاص تحبينهم؟.
هزتْ رأسها علامة الموافقة وبدأت بإخراج عدة الرسم.
احتاجت رهف لثلاث ساعات كي تنهي اللوحة التي كانت تضم ثمانية أشخاص وحينما سألتها عمن يكون هؤلاء، أجابت إن المرأة التي تجلس في الوسط هي والدتها مع جدها وجدتها ثم صورة عمتها رشا وعمها خالد مع والديهما وأخيرًا صورة رجل يرتدي معطفًا أسود وشالًا بنيًا وكان هو الوحيد الذي يبدو مبتسمًا. قالت إنها لا تعرف من هو!.
- أين والدكِ .. لماذا لا يظهر معهم في اللوحة ؟.
تغيرت ملامح رهف حينما سمعت السؤال .. فأجابت بصوت خافت :
- لقد نسيته!.
....................
- حدثيني عن أخيك وائل!.
بهذه السؤال بدأت الطبيبة حديثها مع سوزان.
- حدث الأمر قبل عشر سنوات. كان أبي يمتلك محلاً لبيع المجوهرات وكان شقيقي وائل من يديره. ذات مساء تلقى والدي إتصالا من رجال الشرطة بعد تعرض شقيقي لضربة على رأسه من قبل لص قام بسرقة المال والمجوهرات...
سكتت لحظة وهي تظهر تأثرًا واضحًا!.
- وماذا بعد؟.
القضية دونتْ ضد مجهول الذي وصفه أخي قائلًأ : كان اللّص يخفي وجهه ويحرص على عدم التحدث أمامي.
والدي كان رجلًا قويًا، استطاع النهوض من جديد بعد بيع بعضٍ من عقاراته ليعود ثانية للسوق...
توقفت سوزان قليلًا عن الحديث وأخذت نفسًا عميقًا قبل استئنافها:
- بعدها طلب والدي من شقيقي التهيأ للسّفر إلى رومانيا لأمور تخص العمل. اجتمعت العائلة على العشاء ذاك المساء لتوديع وائل الذي لم يحزنه شيء سوى فراق رهف، تلك كانت آخر ليلة نراه فيها إذ لم نسمع عنه شيئًا طوال شهور ثم وصلتْ رسالة منه يخبرنا أنه هو مَنْ سرق المجوهرات والمال، بعد هذا الخبر، أعلن أبي براءته من وائل وحذرنا من ذكر اسمه.
- ما كان ردة فعل رهف ؟.
- كانت في الرابعة والأطفال في هذا العمر ينسون بسهولة.
- سنرى إن كان ذلك صحيحًا!.
.........................................
كتبت ريم ملاحظة : رهف تملك ذاكرة قوية، لكنها انتقائية. ريم كانت ذكية في استدراج رهف لتسألها عما يراودها من أحلام.
سرحت رهف قليلًا ثم قالت :
- هناك حلم أراه مذ كنت طفلة، أحيانًا يخيل لي أنه ليس حلمًا!.
- أرويه لي بالتفصيل.
- أرى نفسي مع أبي في سيارة تسير في طريق مظلم و وإلى جانبه يجلس رجل. أوقف أبي سيارته وقال للرجل: انتظرني سأعود بعد لحظات، لكنه تأخر فلحق به الرجل الآخر بعد أن قال لي : حبيبتي رهف، سأذهب لأرى سبب تأخر والدك..
كأني الآن أسمع صوت المطر في تلك الليلة وأنا في السيارة. ما زلت أتذكر لون فرشها الأحمر. كنت صغيرة لهذا كان عليّ الوقوف فوقه والنظر عبر النافذة المليئة فرأيتُ أبي بيده آله كمن يدفن شيئًا في الأرض وحينما التفت ورأني أنظر إليه، ابتسم .
- هل تعرفين من يكون الرجل الآخر؟.
- أحيانًا أظن أني أعرفه و أحيانًا لا!.
...................................

لم تفهم سوزان ما علاقة ابنتها في التسجيل الذي سمعته قبل قليل، لكن ريم قالت لها :
- ستفهمين كل شيء بعد إجابتك عن أسئلتي: ليلة سفر وائل، هل كان الوقت شتاءً أم صيفًا ؟.
- كان شتاءً والليلة كانت ممطرة حتى أن زوجي ربيع عرض أن يوصل وائل بسيارته فوافق وائل على أن تكون رهف معهم.
- هل تأكدتم من وجود شقيقك وائل في رومانيا ؟.
ردّتْ سوزان مستغربة :
- كيف نتأكد ولماذا؟!.
أغلقتْ الطبيبة ريم جهاز التسجيل وهي تردد :
- الآن جاء دور الضابط حامد العلي!.
***
سأل الضابط حامد قريبته الطّبيبة مستغربًا :
- هل تطلبين فتح قضية جنائية مضى عليها أكثر من عشر سنوات بناءً على تخيلات فتاة صغيرة؟!.
أيّدتْ سوزان كلامه، لكن ريم طلبت منهما التريث وسماعها للآخر، التفتت نحو سوزان تسألها :
- مَنْ من العائلة في ذلك الوقت يملك سيارة لون فرشها الداخلي أحمر اللون؟.
قالت سوزان :
- إنها سيارة زوجي، استبدلها بعد ذلك بسيارة حديثة.
- سؤال أخير: هل تتذكرين حال ربيع عند عودته تلك اللّيلة؟
فقالت بصوت متلعثم:
- كانت ملابسه مبللة وعليها أثار طين، حينذاك سألته عن السبب قال إنه اضطر للنزول من السيارة لدقائق تحت المطر.
التفتت ريم نحو قريبها قائلة:
- ليس صعبًا معرفة إن كان وائل قد غادر البلاد أم لا .. تستطيع مخاطبة سفارتنا هناك للتأكد من ذلك، فلابد أن وائل احتاج لتجديد جواز سفره أو إقامته وغير ذلك. المهمة ليست مستحيلة!.
قالت سوزان :
- ماذا نفعل إن تأكدنا؟.
- حينها لكل حادث حديث.
ابتسم حامد معجبًا بذكاء قريبته!.
***
تلقت ريم من حامد اتصالًا يخبرها فيه أن هناك معلومات خطيرة قد تم كشفها بخصوص القضية تتطلب من الثلاثة الاجتماع فورًا. ذات المساء تم اللقاء بحضور سوزان التي نزل عليها الخبر كالصاعقة حينما عرفت أن وائل لا وجود له في رومانيا لأنه لم يغادر البلاد ليلتها وهذا ما أكدته كشوفات المسافرين في تاريخ ذلك اليوم.
نظر الثلاثة لبعضهم بصمت وكأنهم عرفوا كل شيء.
***
لم يقاوم ربيع كثيرًا أمام الاتهامات التي وجهت له من قبل النيابة العامة فاعترف قائلًا :
بعدما سرقت محل مجوهرات والد زوجتي، ظننت أنني بأمان لأن القضية سجلت ضد مجهول، بعد أسابيع فوجئت بوائل يطلب مني إرجاع المسروقات لأنه منذ البداية كان يعرف أنني الفاعل، لكنه أخفى الأمر من أجل شقيقته ورهف التي هي أغلى إنسانة على قلبه واعدًا ببقاء الأمر سرًا بيننا. وافقت على عرضه وطلبت مهلة لحين عودته من السفر وأنا في نيتي قتله وهذا ما حصل.
سأله الضابط حامد :
- والرّسالة التي وصلت منه؟.
- لقد كلفت صديق لي هناك بكتابتها.
***
دونتْ ريم في كراستها الخاصة:
لم يكن في بالي أن هذا سيحدث ..
لكنه وفي غفلة عجيبة من الزمن قد حدث ..
فأنا الآن أمام حدث لي ..
له الأثر في انعطاف حياتي بأكملها..
لقد تزوجت من قريبي الضابط حامد ..

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي