|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
حاتم الجوهرى
2024 / 8 / 22
إذا كنت أرى أن مفهوم "الجيوثقافي" يصعد سريعا بوصفه محركا للسياسات العالمية واستراتيجياتها الكبرى في القرن الحادي والعشرين، وأن هناك حاجة ملحة وضرورية للدبلوماسية العامة التي تمارسها الدول لتحيط بهذا المفهوم ودوره وأهميته، فإن الدبلوماسية الثقافية يمكن أن تكون جسرا مهما للعلاقة بين الجيوثقافي وبين الدبلوماسية العامة والسياسات الخارجية للدول العربية.
مفهوم الجيوثقافي يعني باختصار دور الثقافة -و"مستودع الهوية" الحامل له- بصفتها المحرك الأكثر عمقا لسلوك الجماعات الإنسانية في تحديد سياستها الكلية واستراتيجيتها العامة عبر رسم حدودها الجغرافية والحضور فيها، سواء الحدود الفعلية القائمة، أو الحدود المفترضة التي ترتبط بالانتشار التاريخي للعناصر الثقافية في الفضاء الجغرافي لجماعة بشرية ما.
أما الدبلوماسية الثقافية فتعني في تاريخها مجموعة التبادلات والفعاليات التي تتم بين الدول استنادا إلى الفنون والآداب والمعارف والتراث... ألخ، والدبلوماسية الثقافية المطلوبة في القرن الحادي والعشرين تقوم على أن تقوم تلك التبادلات على المزيج الثقافي الخاص بكل دولة دون ارتباطه بالمقاييس المسبقة المرتبطة بالثقافة الأوربية، ودورها النمطي والشائع في التأسيس للدبلوماسية الثقافية الحديثة.
من ثم سيكون وعي الدبلوماسية الثقافية العربية والمصرية المطلوبة بمفهوم الجيوثقافي مهما في التحرك من خلال التبادلات الثقافية المشتركة إقليميا وعالميا، من خلال التأكيد على العناصر الثقافية التاريخية الطبيعية ودورها الراهن في بناء المشترك العربي العام، والتأسيس لهذا المشترك تجاوزا للتناقضات والاستقطابات التي تفجرت في مستودع الهوية العربي.
ليكون تحرك الدبلوماسية الثقافية المصرية والعربية بمثل هذا الوعي الجيوثقافي، رديفا وسندا وجسرا بل و"قلبا صلبا" للدبلوماسية العامة في ترسيخ أقدامها لتحقيق التكامل والتقارب واللحمة بين الذات العربية ودولها في القرن الحادي والعشرين، والخروج من مأزق تفكك الجيوساسي العربي والأيديولوجي وتمثلاته السياسية إرث القرن العشرين.
وكذلك الحركة للأمام في مواجهة التمدد الجيوثقافي الذي قامت به جماعات بشرية أخرى مجاورة ومتنافسة مع الذات العربية (الأثيوبيين بمشروع الفروسنتريزم- الإيرانيين بمشروع المذهبية الشيعية- الأتراك بمشروع العثمانية الجديدة- "إسرائيل" بمشروع الاتفاقيات الإبراهيمية وغيرها).
وفي الوقت نفسه تحرك الدبلوماسية الثقافية الجديدة في القرن الحادي والعشرين في ظل الوعي الجيوثقافي على المستوى العالمي، سينتج تمايزا عن الدبلوماسية الثقافية التي تمارسها أمريكا والغرب بالاستناد إلى نظريات الصدام الحضاري، والتي تمارسها روسيا والصين بالاستناد إلى نظرية "الأوراسية الجديدة" ومشروع "الحزام والطريق" على التوالي.
من ثم نكون أمام مقاربة عربية ومصرية جديدة وواضحة لحركة الدبلوماسية الثقافية ودورها، في رفد الدبلوماسية العامة العربية بالاستناد إلى الوعي العالمي بمفهوم الجيوثقافي ومكانته الصاعدة في القرن الحادي والعشرين.. ويصبح من المهم الإشارة إلى الفرص الكامنة وراء تغيير معظم المقاربات العاملة بها الدبلوماسية الثقافية العربية التقليدية، وتبنيها الوعي الجيوثقافي في حركتها رفدا للدبلوماسية العامة والسياسات الخارجية للذات العربية ودولها.
سيصبح عندنا تكاملا ثلاثيا وموضوعيا بين الوعي الجيوثقافي وخطورة الوضع الذي تتعرض له الذات العربية في القرن الحادي والعشرين فيما بعد الثورات العربية وحرب غزة وتبعاتها، وبين دور الدبلوماسية الثقافية واشتغالها في نطاقاتها البينية العربية والإقليمية والدولية وفق هذا الوعي، وبين الدبلوماسية العامة التي ستستفيد من جهود الدبلوماسية الثقافية وحرثها الأرض جيدا لتأتي الدبلوماسية العامة وتتوج ذلك الجهد، وتستجمع ما كان قد تفرق من الذات العربية لصالح مشاريع وتمددات إقليمية وعالمية أخرى.
إن الوعي الجيوثقافي في إطار عمل الدبلوماسية الثقافية سيتحرك وفق فرضية أن الجغرافيا الثقافية هي المادة اللاصقة التي تجعل الجغرافيا السياسية ومجال عمل الدبلوماسية العامة تدب فيها الحياة، وأنه في فترات التقهقر الحضاري تتراجع الجغرافيا الثقافية في الحواضن الجغرافية المعنية لصالح جغرافيا ثقافية متنافسة معها من أطرافها أو أجوارها، عبر المناطق الرخوة أو أبواب تلك الحواضن ونقاط اتصالها مع الحواضن المجاورة لها، أو من خلال المراكز المجاورة المتنافسة على الحاضنة الجغرافية نفسها والتي تعتبرها فرصة كامنة لها للتمدد والبزوغ.
فيمكن القول إن إهمال أو التغافل عن عوامل الجغرافيا الثقافية أو "الجيوثقافي" وعدم الالتفات لها في مجال الدبلوماسية الثقافية الجديدة؛ سيؤدي للتراجع –كما هو حاصل في كثير من الملفات- عند لحظة معينة لكي يحقق الطرف الآخر من الحواضن الأخرى الخارجية أو المراكز المتنافسة على الحاضنة العربية ذاتها، الصعود والتقدم في الجغرافيا السياسية ومجال عمل الدبلوماسية العامة، حيث افتقدت الدبلوماسية الثقافية القديمة اهتمامها بالوعي الجيوثقافي والجغرافيا الثقافية في القرن العشرين، مما ادى –في نهاية المطاف مع عوامل أخرى-لانفجار الجغرافيا السياسية ومجال عمل الدبلوماسية العامة.
ليصبح من المهم والأساسي في ممارسات الدبلوماسية الثقافية في القرن الحادي والعشرين؛ وعيها بالحضور الجيوثقافي ودور "الجغرافيا الثقافية" وأولويتها في الحركة دعما للدبلوماسية العامة، وسعيا لاستعادة الأمن القومي للذات العربية في القرن الحادي والعشرين، مع الإشارة للإمكانيات الكامنة والممكنة للحاضنة المصرية بتنوع مستوع هويتها وخصوصيته في قدرته على الجمع والتوفيق بين أكبر قدر من مستويات الهوية الإقليمية والدولية، حيث يمكن أن تتحرك الدبلوماسية الثقافية المصرية في دائرة من الجغرافيا الثقافية الداعمة للدبلوماسية العامة، تشمل الطبقة العربية والإسلامية والأفريقية بداية، مع إمكانية توسعها لتجد المشترك مع أمريكا اللاتينية والدول الآسيوية خارج الاستقطاب الروسي الصيني الأمريكي.
إذ لابد أن تتحرك الدبلوماسية الثقافية بوعيها الجيوثقافي دعما للدبلوماسية العامة لكي تتجاوز الانسدادات التي وصلت لها سرديات القرن الماضي وتجاوز أثرها على الذات العربية، بعد تفكك سردية الخلافة الإسلامية وسردية القومية العربية وأزمة دولة ما الاستقلال.
ويكمن الطرح البديل للدبلوماسية الثقافية بوعيها الجيوثقافي الداعم للدبلوماسية العامة، في تبني مقاربة تقوم على أولوية الجغرافيا الثقافية الرافعة في الحاضنة العربية، مع توسعة نطاقها الجغرافي عبر مستودع هويتها الناعم لتشمل البعد الإسلامي والأفريقي، لتحتوي التناقضات مع تركيا العثمانية الجديدة وإيران الشيعية، وتحرر "البان أفريقانيزم" أو حركة "عموم أفريقيا" التاريخية العظيمة من الأفروسنتريزم أو "المركزية العنصرية السوداء"، لتكون مصر قلبا نابضا لحاضنة ووحدة جغرافية جديدة وفاعلة في القرن الحادي والعشرين.