مأزق الانتخابات في تونس/انتقام التّاريخ من ثورة مغدورة

الطايع الهراغي
2024 / 8 / 21

ا

"يأتي على النّاس زمان تكون الدّولة فيه للحمقى"
(بشر بن الحارث)
"عندما يلبس الظّلم رداء التّقوى تولد أعظم فاجعة"
(علي شريعتي)
"حتّى لا يكون المستقبل أسوأ ما في الحاضر"
(فلوبير)

01/ عندما ينتقم التّاريخ
رحم الله الجاحظ، كان سابقا لعصره.أدرك أنّ "البلاء كلّ البلاء أن يكون الرّأي لمن يملكه دون من يبصره".
تاريخنا نحن العرب العاربة مع الاستبداد - تمثّلا واستبطانا واستمناء- والتّفنّن في تبريرعجرفة الحكاّم المستبديّن -أمراء وملوكا وسلاطين- والتّسويق لنزواتهم وشطحاتهم وخلق الأرضيّة الملائمة لإنعاشها مسألة تكاد تكون ملازمة لسائر الحقب في تاريخنا –القديم منه والحديث- منذ حادثة يوم السّقيفة(بعدها بات لكلّ عصر"سقيفته")،عجرفة حكّامنا بعضها أقرب إلى النّوادر السّمجة وفي بعدها الخرافيّ، وبعضها خلطة عجيبة، مزيج من الدّراما والكوميديا والملهاة والمأساة المضحكة تختلط فيها الخرافة بعالم السّحر، وبعضها الآخر هي من المضحكات المبكيات حتّى باتت إرثا لا شكّ أنّ المؤرّخين يجدون كثيرا من الحرج ويستبدّ بهم كثير من الاشمئزاز وهم يطوون صفحاته. الحقّ كلّ الحق مع شيخ الهجّائين المتنبّي وهو يصرخ :
"وماذا بمصر [وباقي أمصارنا] من المضحكات **ولكنه ضحك كالبكا؟؟".
ولعله دون أن يدري كان بلسان عصرنا وحالنا ينطق. الاستبداد صناعة. كان دوما فعلا بشريّا تحكمه وتتحكّم فيه النّزوات، ولم يكن أبدا حكما سماويّا.
"تولّى الحجّاج العراق وهو عاقل كيّس. فما زال النّاس يمدحونه حتّى صار أحمق طائشا سفيها"(الحسن البصري).كان ذلك منذ ثلاثة عشر قرنا.انظرْ ماذا يقول في النّصف الأوّل من القرن العشرين أحد شعراء مصر في مدح الملك فاروق متمثّلا أبياتا لبشّار بن برد:
"يا واحد العـرب الذي** أمسى وليس له نظير/
لو كان مثلك آخر** ماكان في الدّنيا فقير".
وأكثر منه غرابة وسفالة تطويع الكوارث وتحويلها إلى مناسبات للاستهتار والاسترزاق من/ وبآلام النّاس في ضرب من التّزّلف غريب عجيب: أصيبت مصر بزلزال في عهد المماليك. فلم يجد أحد الشّعراء(محمّد بن عاصم) بدّا من مدح حاكمها والثّناء عليه في مناسبة تملي آليّا احترام قداسة الموت وحرمة الموتى وتقديم التّعازي والمواساة كأبسط واجب :
" وما زُلزِلت مصر من كيد ألمّ بها// ولكنّها رقصت من عدلكم طربا".
تلك هي ضريبة الاحتفال بمذبحة العقل وتقديمه قربانا في معابد الجهل ووأد الفكر، مذبحة الغربة عن العصر والاغتراب عن متطلّبات الآن والقبوع في ذيل آخر عربة من عربات ما قبل التّاريخ، مذبحة الاعتداء بالفاحشة على المفاهيم وسحل القيم في الطّريق العامّ والتّلهّي بها على قارعة الطّريق واستبدالها بمديح مريح، مديح بلا موجب،بلا طعم وبلا رائحة. يرذّل الذّات ويقـزّمها ويجرّدها من كلّ بعد إنسانيّ قبل أن يكون تزلّفا لحاكم ما إن اعتلى الكرسيّ حتّى توحّد الكرسيّ بالعرش وانتشى كلاهما واستبدّ. يتغيّر الزّمان، يتبدّل الحال والأحوال امتثالا لقانون العصر والسّرديّة البائدة المتهالكة باقية يراد لها أن لا تتغيّر. قد تتلوّن بتلوّن ما تتطلّبه أحداث العصر وتتطبّع بموجبات ما يمليه الحدث. ولكنّها تظلّ ثابتة كلعنة تلاحق الشّعوب ووصمة عار تلطّخ جبين التّاريخ.
الانتخابات الرّئاسيّة في تونس ليست حكاية من حكايات ذاك الزّمان بل "هرطقة" من هرطقات آخر الزّمان .
في ظلّ حكم منغلق على نفسه،غير متصالح مع أحد، وفي ظلّ غياب كلّي للدّولة في ما يتعلّق بالخدمات المحمولة عليها مقابل حضور طاغ في ما يتعلّق بتبعيّتها للرّئيس وتعقّبها لمن قرّر الرّئيس بجرّة قلم أن يعتبرهم أعداء أصبحت الاستحقاقات الانتخابيّة – وتحديدا رئاسيّة 2024 - بدعة البدع بكلّ ما في كلمة بدعة في معناها الفقهيّ من حمولة سلبيّة. اعتدوا عليها بالفاحشة في واضحة النّهار وأُدخلوها غرفة الإنعاش عنوة، وألزموها بالخضوع إلى عمليّة جراحيّة قيصريّة.فحكموا عليها أن تفشل قبل موعد إجرائها. تلك هي التّكلفة الفادحة عندما يعاقب التّاريخ الشّعوب بأن توكل أمور حكمها وإدارة شأنها العامّ إلى الوافدين إلى/ وعلى عالم السّياسة من كوكب الهواية البدائيّة.وذلك هو انتقام التّاريخ من النّخب(يحلو للبعض تسميّتها اصطلاحا بالطّبقة السّياسيّة)عندما تتوهّم الفرح، وفي غير موعده، فتستعجله، تتخمّر ويتمكّن منها الصّرع ويفيض عليها الوعي المقلوب على قفاه فتحضر السّكرة دوما وتهيمن، وتغيب الفكرة أصلا وتضمحلّ. تسكنها أوهام لا تعمي فقط الأبصار وإنّما تعمي القلوب التي في الصّدور فتتعامى(لكي لا نتّهمها بالعمى)عن التّفريق بين خاصّيّات قاموس السّياسة وخاصّيّات قاموس الأخلاق، عالم بهرج الخطابة وسحرها وعالم إكراهات السّياسة ومفاجآتها وضريبتها.نخبة دخلب في غيبوبة فأعلنت إضرابا لامتناهيّا عن التّفكير .استعدته واستعاضت عن إنتاج الأفكار بإنتاج الفتاوى والمدائح والأذكار.غلبها كسلها الذّهنيّ واستعداؤها للمفاهيم فارتمت في أحضان من تكرّم عليها بالانقلاب (لحسابه الخاصّ)على غريمه ممّن تقاسم وإيّاه الحكم، حركة النّهضة(حاملة لواء الإسلام السّياسيّ والنّاطق الرّسميّ باسمه) لمّا بات التّعايش بينهما أعسر من تعايش الضّرائر وتنافرالأضداد، وغريمها هي كنخبة تحلم بالتّحرّر من سلطان الاحتكام للمقدّس، وفي عرفها أنّ شرور اليمين الدّينيّ أفظع بما لا يقاس من شرّ اليمين المسمّى مدنيّا. على قاعدة هذه المسلّمة، التّسليم بقبول السّيّئ درءا لمخاطر الأسوإ، أبرِم زواج المتعة وتمّت مبايعة قيس سعيّد علنا من خليط يُفترض أن لا رابط بينه وببعض الاحتشام من جهات اعتمدت التّقيّة سبيلا لأنّها تخجل من أن يرى الآخرون في مساندتها النّقديّة مبايعة . ما كان لقيس سعيّد،وهو يستنجد ببيروقراطيّة الدّولة بجناحيها العسكريّ والأمنيّ، أن يستسهل التّسريع بتعليب الأبدان والإذهان وباحتكار كلّ السّلطات(التّنفيذيّة والتّشريعيّة والقضائيّة)في حيّز زمنيّ قياسيّ وتعطيل العمل المؤسّساتيّ بتقنين المؤقّت وتحويله إلى حالة دائمة جعلت المؤسّسسات مجرّد واجهة وظيفتها تلميع ما يخطر ببال الرّئيس وتسويقه،ما كان ذلك ليحدث لولا الصّمت –صمت المقابر- الذي لازمته المعارضات يمينها ويسارها والمنظّمات مهنيّها وحقوقيّها.دعك من التّقيّة التي مارسها البعض بارتداء جبّة المساندة النّقديّة التي سرعان ما تبيّن أنّها اسم بلا مسمّى،جلبابها لا يتّسع لغير الذّوبان في مسار 25 جويلية والثّناء على الرّئيس في كلّ ما يأتيه مقابل التّشنيع بمعارضيه وخصومه ومنافسيه، أحيانا بدون موجب. ذلك هو الطّريق إلى الكذب على الذّات وعلى التّاريخ.
ما كان مطروحا كإمكانيّة لتجاوز خيبات السّنوات العجاف لعشريّة النّحس التي ابتلي بها التّونسيّون منذ 2011 في ظلّ حكم التّرويكات المتلاحقة والمتناسلة واكتووا بنيرانها في ظلّ حكم قيس سعيّد بعد 2019 وأساسا بعد تسونامي 25 جويلية 2021 تحوّل إلى كوابيس مرعبة.مسلسل آل على نفسه أن لا يحتفل بغير الخيبات، حلقاته بداياتها معلومة ونهاياتها دوما ملغومة.اعتداء على أبسط قواعد الذّوق السّياسيّ وهيبة الحكم( بقطع النّظر عن نوعه وعن الموقف من طبيعته).

02/ الولادة الميّتة
بكلّ المقايس- أبسط المقاييس التي لا يمكن إلاّ أن تتوفّر حتّى في البلدان التي لايزال عود الدّيمقراطيّة فيها طريّا- ستظلّ انتخابات 06 أكتوبر 2024 علامة مميّزة في تاريخ الاستهتار بالتّوانسة والتّعاطي معهم على أنّهم رعايا وليسوا مواطنين، بمكوّنات المجتمع المتنوّعة، بابجديات الحدّ الأدنى المطلوب في أيّة محطّة انتخابيّة.انتكاسة،إن لم تكن ارتدادا موصوفا، حتّى بالمقارنة مع سالفاتها التّى أجريت زمن ما نُعت بالعشريّة السّوداء.
كلّ الدّلائل تجزم بأنّ قيس سعيّد (بقطع النّظر عن وعيه بذلك من عدمه)عبّد الطّريق السّيّارة للعودة إلى العهد النّوفمبري (بدون بن علي). الخروقات(وما أكثرها) التي لازمت انتخابات الاستحقاق الرّئاسيّ نسخة وفيّة لما طبع الاستشارات والاستفتاء وأمينة لما كان يأتيه نظام بن علي(بأكثر إتقان بالتّأكيد)،مع فارق جوهري هو أنّ بن علي- وبطانته- ،وكذلك سلفه البونابارت بورقيبة،ما كان على لسانه مصطلح الثّورةـ وما كان يلهج باستحقاقاتها، وما كان مولعا بزقفونة وأضحى التّنائي ولا متيّما بالدّستور الطّغرانيّ ولا بغربة النّبيّ صالح بين قومه ثمود. الانتخابات حسِم أمرها بشكل باتّ، مأساويّ وكاريكاتوريّ أشهرا قبل الإعلان عن موعدها دون الحاجة إلى الاستنجاد بأبسط بروتوكول.حُكم عليها أن تبوح بنتائجها بعملية إجهاض قبل الأوان.تلك هي الحقيقة المرّة التي ترقى إلى مستوى الفضيحة. 06 أكتوبر أراده الرّئيس تحدّيّا ورهانا من الوزن الثّقيل. اختيار التّاريخ ليس بالأمر العشوائيّ. أليس إحالة مباشرة إلى أوّل عبور حقّقه العرب في صراعهم مع عدوّهم القوميّ (06 أكتوبر 1973)؟؟ألا تذكّر بحروب التّحرير الوطنيّة وما تتطلّبه من الاحتراس من العملاء والخونة والاحتياط للأمر قبل وقوعه ؟؟وما دام الاستحقاق الرّئاسيّ رهانا شخصيّا أوّلا وأخيرا وليس رهانا مجتمعيّا فلا بدّ من جملة من الاحتياطات لتكون النّتيجة مضمونة قبل الأوان ويكون إخراجها على المقاس والقياس. 06 أكتوبر لن يكون إلاّ ترسيما وإقرارا بما فرضه الواقع السّابق للانتخابات وما أملاه المناخ السّياسيّ والاجتماعيّ من فرض للعبة جُرّدت من أبسط ما يجب أن يتوفّر من قوانين اللّعبة. كلّ ما حفّ بالانتخابات من إعداد وإجراءات ومراسيم وقرارات كانت،وأريد لها أن تبقى تفاصيل. فهي ترجمة عمليّة لما يعتقد الرّئيس أنّه فلسفة جديدة في الحكم ونوعيّة في إدارة الشّأن العامّ وتبصّر شؤون الدّولة.ذلك هو جوهر ما صرّح به الرّئيس في لحظة بوح ومكاشفة، وهو تصريح من تلك التّصريحات التي تفيض على اللّحظة ويكون فيها المتحدّث منتشيا،مأخوذا بحالة صفاء، وفيّا لما يعتمل في ذهنه = "لن أسلّم وطني لمن لا وطنيّة له".قد تكون الجملة أملتها طبيعة المناسبة(قـد).وقد تكون ردّ فعل حتّمه سياق فرضته نزعة التّجريم والثّأر والاستعداء لكلّ من ليس على مذهب شيخ الفرقة النّاجية.ولكنّها تحوّلت بسرعة برقيّة إلى قناعة وسياسة ملزمة لمن تلفّظ بها في لحظة زهو فتمثّلها حتّى بات لها أسيرا.
"لن أسلّم وطني لمن لا وطنيّة له":
** تصريح جزميّ يعكس بكامل الوضوح وبشكل مباشر وبدون مواربة مدى هوس الرّئيس بكرسيّ الرئاسة للتّحكّم في دواليب سقيفة قرطاج ويكشف درجة توجّسه من الجميع أنصارا وخصوما ومنافسين. رغبة جموح وقرار تتطلّب ترجمته الوفيّة لروح القرار تخوين الجميع بدءا بمن راهنوا عليه يوما ما كعصفور نادر وانتهاء بمن لم يترك بابا إلاّ وطرقه للتّبشير بتلك الحكومة الغريبة التى اتّفق أبناء الحلال على تسميّتها "حكومة الرّئيس".
**تصريح حتّم آليّا وبصورة ما قبليّة فتح أبواب السّجون واسعة لاستقبال من يرتئي الرّئيس تأديبهم ما داموا أعداء الوطن.
**تصريح يعكس ذهنيّة تشدّها وشائج حميمة إلى تصوّر نظام الملالي وفلسفته في اصطفاء رئيس الجمهورية في ما يُعرف بدولة الفقيه.فالرئيس ظل الله في الارض وليس من سقط المتاع.وعليه فمهمّة الحوزات العلميّة( الفقهاء) تدبّر شؤون الأمّة كفرض كفاية وليس كفرض عين.شعب الأئمّة المختار يختار من يحكمه ممّن اصطفاهم "العلماء".
الإشكال كلّ الإشكال تختزله الذّهنيّة التي تحكم سلوكيّات وأمزجة الرّئيس وتتحكّم فيها. مزيج من التّناقضات: رئيس أريد له أن يكون بلا تاريخ. سِجلّه المدنيّ يجزم بأن المعنيّ لا سوابق سياسيّة له حتّى بمعناها السّلبيّ/ علاقته مع/ وبالشّان المجتمعيّ معدومة إن لم تكن علاقة تنافر. حالة مأساويّة من اليتم التّاريخيّ والسّياسيّ والمجتمعيّ تملي على صاحبها أن يكون مفتونا بتسويق صورة افتراضيّة عن نفسه واختلاق سرديّة مسكونة برغبة ردم الهوّة. ولن يبخل عليه أبناء الحلال ممّن يستطيبون التقاط فضلة أيّ حاكم بقولبة ما يحتاج قولبة وتسويقه بكثير من الوقاحة الهرمة = نظيف/ عفيف / وافد من كوكب آخر/غريب كصالح في ثمود/خارج عن السّيستام كما يلهج بذلك مريدوه وشيعته ومناصروه من مجاميع المساندة النّقديّة .صورة هي في الأصل انعكاس لعقدة. والعقد غالبا ما تطبع سلوكات الاشخاص وتتحكّم فيها= قيس سعيد لم يكن يوما معنيّا بالشّأن العامّ ولا علاقة له بتاريخ بلاده (حتّى السّلبيّ منه)، حضور باهت وثانويّ جدا في بعض فعاليّات فروع الحزب الحاكم أيّام بن علي.
ما الحل؟؟ الانتقام من التّاريخ الذي يشبه حبل المشنقة المتدلّي في غرفة المحكوم بالإعدام. يذكّر الحبل المحكوم بساعة التّفيذ ويذكّر التّاريخ رجل السّياسة بحجمه الحقيقيّ. يخجل من نفسه فيعتدي على التّاريخ ويلوي عنقه. وفي هذا الإطار يكون موعد 06 أكتوبر أفظع عمليّة تحيّل .

03/وآخـر الكـلام
انتخابات 06 أكتوبر ستكون كأن لم تكن .
**عندما تتحوّل المواعيد الانتخابيّة إلى لعبة يكون فيها الحاكم هو الخصم والحكم فاقرأ على السّياسة صلاة الغائب وصلاة الاستغفار وصلاة الجنازة.
**انتخابات نتائجها معلومة سلفا أتعس من الولادة الميّتة.
** المقارنة بين عدد من كانوا معنيّين بالسّباق ومن وُضعت موانع حالت دون تمكّنهم من حقّ التّرشّح وما أفرزه غربال الهيئة "المستقلّة جدّا" يجزم بأنّ الأمر يتعلّق فعلا بتحويل وجهة.














1

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي