الثقافة بوصفها مشتركا مجتمعيا عند التحولات التاريخية

حاتم الجوهرى
2024 / 8 / 20

في أوقات معينة تحتاج الجماعات الإنسانية لإعادة تعريف مفاهيم أساسية تبدو لوهلة مفروغ منها ومستقرة، وتبدو هذه الحاجة ملحة أكثر في أوقات التحولات والتغيرات التاريخية العنيفة التي تمر بها الأمم، خاصة لو كانت تلك التحولات واسعة وتشمل التصورات والقوى الكبرى المهيمنة على العالم، تماما مثلما يحدث الآن في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
وتأتي الذات العربية في طليعة الجماعات البشرية التي تحتاج لإعادة تعريف مجموعة من المفاهيم ودورها في هذه المرحلة، وفي القلب من تلك المفاهيم يأتي مفهوم الثقافة وتعريفها ودورها في خضم كل التناقضات الهوياتية التي تفجرت قطريا وإقليميا ودوليا.
فالثقافة في مثل هذه المرحلة المزدحمة بالتناقضات والاستقطابات، يجب ان تتحول لتكون "مشتركا مجتمعيا" جامعا يلتف حوله الناس، والثقافة هنا تعني المشترك الغالب والأعم في "مستودع الهوية" بكافة مكوناته، إذ تتحول الثقافة ومكوناتها الأساسية المجردة إلى "الأساس الصلب" لاستعادة المجتمع ولحمته، من شتاته وتدافاعاته الداخلية والخارجية، ويصبح دورها هو استعادة "المشترك الوطني" الجامع بوصفها مشتركا مجتمعيا، يتحول لقارب نجاة لحظات التحول التاريخية وأوقات الاضطراب الحضاري.
من هنا يكون من المهم طرح مفهوم جديد ودور جديد للثقافة المصرية والعربية والسعي لتأسيس تلك الثقافة من جديد بوصفها "مشتركا مجتمعيا"، بعدما تنازعتها استقطابات القرن العشرين ومشاريعها الأيديولوجية بتمثلاتها الثقافية رد الفعل للمسألة الأوربية ومتلازماتها، فالمثقف الآن ليس مطلوب منه التشيع لجانب أيديولوجي تاريخي أو تصور فلسفي استقطابي ما، بقدر ما هو مطلوب منه التأكيد على المشترك الجامع في مستودع هوية الذات العربية، والبحث عن تمثلات وخطابات جديدة في الشأن العام تتجاوز إرث المسألة الأوربية يمينا ويسارا، لتصل في يوم ما –في المستقبل- لمرحلة طرح مفاهيم سياسية وفلسفية جديدة نابعة من واقعها وظرفيته الخاصة، وليست رد فعل أو امتداد هامشي للمركز الأوربي/ الغربي.
الثقافة أقوى من الأيديولوجيا؛ لأن الأيديولوجيا هي طبقة حديثة تبنتها الأمم والدول في مرحلة ما بعد الاستعمار تأثرا بالمسألة الأوربية، والصراع الثنائي بين الطبقية والمثالية (الهيجلية) وبين اللا طبقية والمادية (الماركسية)، تتبدى الثقافة ومستودع الهوية الخاص بكل أمة وجماعة بشرية، بوصفها محصلة الخبرات وطرق الحياة الطبيعية والفطرية التي توارثتها كل جماعة بشكل تلقائي وطبيعي.
في الأصل إن الثقافة ومستودع الهوية لها القدرة باستمرار على خلق تمثلات سياسية/ أيديولوجية معبرة عناه، الثقافة هي الباقي والأصل، والسياسة وتمثلاتها ومذاهبها تتغير كل عصر.
والآن يجب على نخبة ثقافية عربية مصرية متجذرة في واقعها ومستودع هويتها، أن تبادر بالتأكيد على إعادة تأسيس الثقافة العربية والمصرية ومنحها تعريفا جديدا ودورا محوريا فاعلا، بغرض أن تكون هي جزيرة الثقة في خضم الشك والتيه والتدافعات والاستقطابات التي ضربت الذات العربية، بأن تكون هي "المشترك الجامع" في ظل فُرقة وانتصار الكثيرين لتصورات جزئية وفرعية واستقطابية.
المبادرة وليس رد الفعل هذا هو الدور المنتظر من الثقافة العربية في خضم التدافع مع نظريات الصدام الحضاري التي يروج لها الغرب، مع الإشارة إلى أن الغرب يقدم مفهوم الجضارة هنا ليس بتمثلاته التقنية وعلومه المادية فقط، إنما يقدمه في تمثله الثقافي الناعم مستهدفا المبادرة بالصراع وسيناريوهاته مع حضارت/ ثقافات العالم، وتحديدا مع ثلاثية الحضارات الرئيسية: الحضارة الإسلامية العربية، والحضارة الروسية الأرثوذكسية، والحضارة الصينية الكونفشيوسية.
طورت الصين وروسيا مشاريعا ثقافية جديدة خاصة بهما في القرن العشرين استجابة ورد فعل لمشروع الصدام الثقافي الحضاري الأمريكي/ الغربي، روسيا طورت مشروع "الأوراسية الجديدة" الذي فكرته أن مركز العالم هو صراع تاريخي وأزلي بين قوى شرق أوربا البرية والصحراوية بثقافتها المحافظة التقليدية بطبيعتها، وبين غرب أوربا البحرية الأطلسية وامريكا بثقافتها المنفتحة سمة الشعوب البحرية بطبيعتها. الصين طورت مشروع الحزب الشيوعي الصيني ليتحول إلى طبقة حاكمة منفتحة على الاقتصاد الرأسمالي للأفراد، ومستعيدا الصلة التوظيفية لدور الثقافة الصينية التاريخية من خلال الشكل الاقتصادي لطريق الحرير القديم وإعادة إحيائه، حيث اعتبر الحضارة الصينية القديمة وسيلة للتمايز التوظيفي عن المشروع الغربي الليبرالي.. بينما بقيت الذات العربية أسيرة للتصورات الثقافية إرث القرن العشرين التي تكسرت في القومية العربية أو الخلافة العثمانية، أو حتى الشكل القديم للمسألة الأوربية عن الصراع بين الشرق الماركسي والغرب الرأسمالي الذي تجاوزه العالم كله.
إن الذات العربية تحتاج لبزوغ دور الثقافة القائم على "المشترك المجتمعي"، لتمثل "قوة ناعمة" داخلية تعيد تأسيس المتفرق في المجتمعات العربية داخليا، وتحتاج لهذا الفهم عن "المشترك الجامع" عربيا عند ممارسة الدبلوماسية الثقافية بينيا بين الدول العربية، وعلى المستوى الخارجي وممارسة الدبلوماسية الثقافية الدولية علينا أن نؤكد على "التعايش الجامع" بدلا من "الصراع الحضاري المفرق"، الذي يتحرك من خلاله الغرب وفي القلب من أمريكا.. نحتاج لدور وظيفي جديد للثقافة العربية في مواجهة التصورات الوظيفية الجديدة لها في أمريكا والغرب، وفي الصين وروسيا غربا.
التحولات التاريخية وأوقات الاضطراب العالمي تحتاج لمقاربات في الشأن العام تقوم على المبادرة والاستباق، ولا تنتظر أن تكون رد فعل متأخرة بخطوة أو خطوات عن تفجر التناقضات والاستقطابات على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية، ولا تنتظر أن يتم تفجير التناقضات في مستودع هويتها ومكوناته، لصالح جماعات بشرية أخرى متنافسة معها تسحب مكونات مستودع هويتها وتخصم منه، وتضيفه إلى مستودع هويتها، ويمكن النظر إلى المشاريع الإقليمية المتنافسة مع الذات العربية، وليس فقط ذيول المسألة الأوربية وتمثلاتها العربية الداخلية سواء في شكلها القديم أو أشكالها الحديثة.
قدم القرن العشرين مفهوما مركزيا مهما للسياسات العالمية واستراتيجياتها، وهو مفهوم "الجيوبولتيك" في علاقة قوية بين الأيديولوجيا أو السياسة وبين الجغرافيا، وسعى القوى الشيوعية والقوى الرأسمالية للهيمنة على جغرافيا العالم ومناطقه الحاكمة والمهمة وممراته التجارية، باسم الصراع على تلك الأيديولوجيا...
بينما يولد القرن العشرين من خضم مفهوم أرى أنه الحاكم وانه سيكون له السيادة في الفترة المقبلة، وهو مفهوم "الجيوثقافي" أو العلاقة بين الجغرافيا وبين الثقافة، حيث ستتنافس القوى العالمية الجديدة شرقا وغربا في الهيمنة على الجغرافيا باسم الثقافة ومحركاتها وتمثلاتها.
ومن لا يبادر بتكوين خزانة من السيناريوهات أو التصورات الجيوثقافية لمواجهة المستجدات والتحولات التاريخية الكبرى، ستفرمه عجلة التاريخ وسيتحول إلى بناء هامشي في المشاريع الجيوثقافية المركزية للآخرين إقليميا أو دوليا، وستتعرض تلك الجماعة الإنساية برمتها للغرق الحضاري وخطر الاضملاح والتآكل.
الثقافة بوصفها مشتركا مجتمعيا عند التحولات التاريخية؛ هي مشروع جيوثقافي عربي ومصري لاستعادة صلابة الجغرافيا العربية، المتآكلة لصالح تمددات جيوثقافية أخرى إقليمية تتوسع على حسابها، أهمها مشروع الجيوثقافية الخاصة بالأفروسنتريزم من أثيوبيا عبر السودان، وحصار الحضور الجيوثقافي العربي/ الإسلامي وتفجير التناقض مع بقية مكونات مستودع الهوية السوداني، ومشروع الجيوثقافية الشيعية والتمدد الإيراني عبر جغرافيا العراق وسوريا ولبنان واليمن، ومشروع الجيوثقافية الصهيونية وتفجير التناقض في "دول الطوق" للتوسع على حسابها، ومشروع الجيوثقافية العثمانية الجديدة والسعي للتمدد في ليبيا وسوريا والعراق وغيرهم.
الثقافة بوصفها مشتركا مجتمعيا عند التحولات التاريخية ستستطيع أن تمارس قوة ناعمة داخلية تستعيد لحمة مستودع الهوية العربي، وستمارس دبلوماسية ثقافية عربية بينية إقليمية تدير التناقضات مع المشاريع التي تنتمي للسردية الإسلامية التي تشترك معها في المكون الديني في الهوية (إيران وتركيا)، وستدير التناقضات كذلك وتؤكد على المتن العربي في مواجهة المشروع الأثيوبي والمشروع "الإسرائيلي".
إضافة إلى أنها على مستوى الدبلوماسية الثقافية الدولية ستؤكد على تمايز الحضور الجيوثقافي العربي، في مواجهة التصورات الجيوثقافية الأمريكية والروسية والصينية.. ليبقى مشروع "الثقافة بوصفها مشتركا مجتمعيا عند التحولات التاريخية" فكرة محورية مهمة لإعادة تأسيس الثقافة العربية في القرن الحادي والعشرين، وخروجها من تناقضاتها الراهنة، وفي الوقت نفسه ستكون أداة فعالة مهمة لتفعيل دبلوماسية ثقافية عربية وعالمية مشتركة وفعالة، قادرة على التمايز الجيوثقافي عن تصورات القرن الحادي والعشرين والجديدة.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي