قبل المحو

فوز حمزة
2024 / 8 / 19

وأخيرًا، لوحتْ لي من نافذة حجرتها!.
أملٌ أزهرَ في قلبي وجعلني ألّوحُ ليس بيدي فحسب وإنما بجسدي كله. قفزتُ في الهواء فاتحًا ذراعي، أرسلتُ قبلة إلى السماء. كنتُ فرحًا، لكن في اللحظة التالية شعرتُ بالقلق!.
تلفتُ يمينًا و شمالًا خشية أن يراني أحد من أهلي أو أهلها، حمدتُ الله بعد تأكدي من عدم وجود أيّ شخص .. ربما العاشرة صباحًا وقت جيد للتلويح .
انتبهتْ لي بعد ستة أشهر من المراقبة، فعلتُ في هذه الفترة كل شيء، ساعدتُ فلاح حديقتنا الذي استغرب لأننّي لم أكنْ أهتم لتوسلاته من قبل. توليتُ مهمة تنظيف المرآب بدلًا من أختي الصّغرى. قلبي يتقطع وأنا أراها منشغلة بمشاهدة التلفاز بينما أقفُ في الحرِ تلسعني الشمس بلهيبها!.
بدأتُ أهتم بإطعام الطّيور وتنظيف أقفاصها، ارتابتْ أمي في أمري، لكنها فضلتْ الصمت ما دام الموضوع يصب في مصلحة الجميع . أخي الأكبر الوحيد الذي أدرك أن ثمة سرّ وراء تغير حالي إذ لاحظ أنني بدأت أذاكر عند عتبة الدار، فبدأ بالسخرية و إلقاء التلميحات! .
قلبي أصبح معلقًا بتلك النافذة التي تطل منها حبيبتي لتنظر إلى الزقاق أو تسقي الورود والنباتات المعلقة بحافتها. هذه المرة سأكون إيجابيًا كما سمعتُ في أحد البرامج فأحضرتُ ورقة وقلمًا وبدأت أكتب :
لقد أحببتكِ مذ رأيتكِ أول مرة، كنتِ تقفين خلف النافذة تشربين البيبسي كولا. بدأت أراقبك كل صباح أما في الليل وبعد أن أطفئ ضوء حجرتي، أختبئ خلف الستارة أختلس النظر إليكِ. أحيانًا ألمحكِ تتحدثين في الهاتف أو تذاكرين دروسكِ أو توضبين حاجياتكِ... في إحدى المرات رأيتكِ ترتدين ملابسكِ بعد خروجكِ من الحمام و...
ما هذا الجنون الذي أكتبه؟!.
سأمحو ما كتبته من ( في الليل... إلى الحمام ).
كتبتُ على سطر جديد :
كنت أتبعكِ كل صباح و أنتِ في طريق المدرسة لأحميكِ من الشباب الذين لا هم لهم سوى اصطياد الفتيات وأحذركِ من صديقتكِ البدينة ذات الشعر الأحمر التي ترسل صورها عبر الواتس آب إلى صديقي، وكنت أتفرج معه على تلك الصور واقرأ الرسائل المتبادلة بينهما و...
من أين لي هذه الأفكار السخيفة؟!.
سأمحو ما كتبته من ( أحذركِ... إلى بينهما ).
الأفضل أن أكتب :
لقد كنت أساعد والدكِ في حمل أكياس التسوق وهو عائد إلى المنزل، وكذلك قدمت له المساعدة في دهان سياج بيتكم وذهبت مع أخيكِ لشراء الكلب الذي أسمع صوته الآن. في إحدى المرات حاولت إصلاح مقبض باب المطبخ. أعترف بفشلي في إصلاحه، لكن فعلتُ كل ذلك كي أراكِ ولو مرة واحدة.
والآن، ما رأيكِ في الخروج معي لتناول الغداء، سأطلب لكِ شطائر الدجاج مع البيبسي كولا، ستسأليني مندهشة : كيف عرفت أنّي أفضل الدجاج ؟!. سأخبرك أنا من جلب لكِ الشطيرة الخميس الماضي بناءً على طلب أخوكِ، ستبتسمين بخجل، وأحاول لمس يدكِ الناعمة، بعدها أقتربُ منكِ أكثر فاحتضنك وأقوم بتقبيلك ، لا ضير من قبلة واحدة تشعركِ بلهيب قلبي و...
ما هذا الغباء الغارق فيه كمن مصاب بالهذيان؟!. سأمحو ما كتبته من ( سأحاول.... إلى قلبي ).
سنتبادل أرقام الهواتف وأقبلُ طلب صداقتها على الفيس بوك والانستغرام وتويتر. سأقول لها :
احذفي كل الشباب من صفحتكِ، جميعهم كاذبون، لا يؤتمنون على سرّ، خذي حذركِ من جاركِ الوسيم ذي العينين الخضراوتين الذي يرتدي قلادة ذهبية وسوارًا من الجلد الأسود. هذا المغرور يقضي المساء في كتابة الرسائل الغرامية وإرسالها لجميع الصديقات مع صورته وهو عاري الصدر، لذا عليكِ غلق الهاتف والأهم غلق النافذة.
يمكن للناس العيش دون نوافذ!.
ما الذي كتبته؟!.
كيف أطلب منها غلق النافذة والهاتف؟!.
يالغبائي !! سأمحو من (احذفي... إلى النافذة ).
ليبق الأمر على ما هو عليه في الوقت الحالي. في المستقبل سأجد حلًا للنافذة وستائرها البيضاء الشفافة.
عدتُ للورقة ثانية وكتبتُ : ما رأيكِ في الذهابِ معي إلى الكورنيش لنأكلَ فطائر الدجاج ونشرب البيبسي كولا؟.
هناك، سآمرها بارتداء الحجاب و عدم لبس البنطلون. الشيء الذي لا أقبل النقاش فيه هو وضع مساحيق التجميل على وجهها. أنا متأكد من قدرتي على إقناعها، وإذا لم ترضخ ستكون القوة الحل الوحيد لحسم الموقف.
ماذا .. القوة؟!. يبدو أننّي تسرعت في قراري، سأمحو من ( ارتداء... إلى وجهها ).
كتبتُ في أسفلِ الصفحة مجموعة من الأوامر وطلبت منها الالتزام بها : لا تخرجي لشراء البيبسي كولا، ليقم شقيقكِ الصغير بهذه المهمة، الامتناع عن زيارة الصديقات، موضوع الجامعة لن نتجادل فيه بعد حسم أمري بشأنه، ما حاجتك للدراسة حينما تتزوجيني؟. أنا وأولادي أولى بالرعاية. المرأة لم تخلق إلا للبيت، ومنعًا لتدخل أهلكِ في حياتنا فعليكِ الاختيار بيني وبينهم .
بعد لحظات من التفكير العميق جدًا وبعد إعادتي قراءة ما كتبتُ، محوتُ السّطور الأخيرة كلها.
سأقول لها بدلا عن ذلك : لقد قررتُ الزواج منكِ بعد سنتين، أي بعد تخرجي من الثانوية.
كم أنا أحمق؟!. سنتان فقط؟! . سأضع نفسي في ورطة كبيرة مع أهلي! .
سأكتب لها: أمامي سنوات طويلة لبناء مستقبلي، أما أن تنتظريني وإلّا لنفترق الآن.
محوتْ بغضب كل ما كتبته ونظرتُ إلى الورقة الملوثة بفعل ما كتبت ومحوت، ليس فيها سِوى أربع كلمات: شطائر الدجاج والبيبسي كولا.
رفعت رأسي صوب النافذة لأنظر إليها ثانية.
ما هذا الذي أراه؟!.
من فرط غبائي ظننتها تلوح لي .. إنها تمسح زجاج نافذتها!.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي