النتائج النهائية للباكلوريا: تواصل نفس العوائق الهيكلية للمنظومة التربوية.

علي الجلولي
2024 / 8 / 2

أفصحت النتائج النهائية للباكلوريا عن أسرارها، فبعد تقدم 140213 تلميذا لهذا الامتحان الوطني،تمكن 37974 مترشحا من النجاح في الدورتين أي ما يعادل نسبة 55,6°/°. و قد علق العديد من المتابعين بمن فيهم فاعلين تربويين على هذه النتائج قراءة وتحليلا واستنتاجا، و اتفق جزء مهم منهم على توصيف الظروف والسياق الذي تجري فيه أهم مناسبة علمية/اجتماعية في بلادنا، كما اتفقت أغلب القراءات على ملامسة أهم سمات منظومة التعليم والتربية عموما بما يؤكد تأزمها وضعفها وانحدارها على أكثر من مستوى، كما واصل العديد رنّ ناقوس الخطر الذي تؤشر اليه كل مؤشرات وضع التعليم العمومي في بلادنا.
*امتحانات ذات رهانات كمية دعائية.
ظلت الباكلوريا منذ عهد بورقيبة و بن علي وصولا إلى اليوم من أهم مناسبات الدعاية لنظام الحكم والإشادة بمكاسبه خاصة التي تهم التمدرس وانعكاساته على حياة الناس في المدن والأرياف، ولما كان التعليم مصعدا اجتماعيا إلى حدود منتصف الثمانينات تقريبا كانت دعاية الحاكم تجد هوى لدى الجمهور الواسع في الداخل والخارج، لكن هذه الدعاية فقدت بريقها بتراجع آفاق التعليم العمومي ثم اندثارها تقريبا بسيادة التوجهات النيوليبرالية مع منظومة "الإصلاح الهيكلي" المستمرة منذ أواسط الثمانينات والتي عرفت معها الخدمات الاجتماعية تفكيكا ممنهجا على مختلف الأصعدة، وهو ما يعرف اليوم ذروته، فحال المدرسة العمومية بائس وهي التي أصبحت تفتقد لأبسط مقومات وجودها، حتى وصل الأمر فقدان الماء الصالح للشرب والإنارة في عدد كبير من المؤسسات، ولا تسل في هذا الصدد عن القاعات ووسائل العمل الدنيا ولا حالة الأبواب والشبابيك صيفا وشتاء، ولا حال دورات المياه وفضاءات الرياضة ومخابر الاختصاص، وأصبح مدير المدرسة والمعهد مثل رئيس العائلة الذي يجب أن يتدبر قوت يومه وغذاء عياله، فهو مطالب بتدبر الطباشير والأقلام ومواد التنظيف والدهن وجوائز نهاية العام. لقد أصبحت المدرسة منفرة وهي التي لا تحوز الشروط الدنيا للاشتغال، وهو ما غذى نزعة التوجه إلى القطاع الخاص الذي لم يعد يستقطب التلاميذ المخفقين أو الأوساط المرفهة والثرية، لقد أصبح اليوم يستقطب جزء متصاعدا من بنات وأبناء الطبقات الوسطى التي زلت العمود الفقري للتعليم العمومي طيلة عقود.
لقد برز في السنوات الأخيرة قطاع خاص يستمر من رياض الأطفال والتعليم الأساسي إلى التعليم العالي، وأصبح يستقطب هذا العام 13°/° من مترشحي الباكلوريا أي 17398 تلميذا، وهو رقم كبير يعكس تحولا في جغرافية التمدرس ، وإذ يعرف التعليم الخاص التقليدي والقديم التراجع كما وكيفا، فان التعليم الخاص الموجه لنخبة التلاميذ، النخبة المعرفية وأيضا المادية أصبح ذي حضور لافت في اهتمامات العائلة التونسية التي تضحي العديد منها من أجل التحاق أبنائها بهذه المؤسسات وخاصة في المرحلة الجامعية مع انسداد الآفاق التشغيلية وأيضا تقلص فرص الالتحاق ببعض الشعب ذات "المستقبل" مثل الشعب الطبية وشبه الطبية،والشعب الهندسية...، فأقصر الذرق من أجل بلوغ ذلك اصبحت التعليم الخاص والقدرة على الدفع.
إن هذا الخلل الهيكلي الذي أصبح ميزة التعليم في بلادنا يؤكد أزمة الخيارات المتبعة، فرغم الخطاب الديماغوجي خاصة منذ صعود سعيد إلى الحم ثم استفراده به، والذي تشكل الوزيرة الحالية للتربية نموذجا مصغرا للشعبوية في مجال التعليم، فان التدهور المريع للوضع التربوي يتعمق. إن الخطاب الرسمي حول نتائج الباكلوريا يستبعد معطيات أساسية لابد من استحضارها حتى لا تنحرف الرؤية للنسب والأرقام ويتجه التحليل اتجاهات مضادة للعلم والمنطق والتفكير السليم، انه لا معنى لقراءة نتائج امتحان السنة النهائية من التعليم الثانوي دون استعراض نسب الانقطاع والتسرب المدرسي، ونسب الإخفاق ما قبل الباكلوريا، فاعتماد هذه النسب سيعيد ترتيب الإحصائيات الجهوية وحسب الشعب. أما الأرقام المجردة لعدد الناجحين والراسبين فإنها تعطي صورة غير مكتملة عن حقيقة الأوضاع، صحيح أن ذيل الترتيب في النتائج محجوز منذ سنوات إلى الجهات الأكثر فقرا وحرمانا مثل القصرين وقفصة وقبلي والقيروان، لن قفزة جهات مدنين والمهدية إلى المراتب الأولى لا يعني البتة تحسنا في مؤشرات التنمية الاجتماعية والبشرية، فحقيقة الأرقام والإحصائيات تتدخل في صياغتها تفاصيل محلية واجتماعية تهم أوساطا محددة ظلت مرتبطة بالمستوى المادي للعائلات أساسا.
* الوجه الآخر للباكلوريا: تبعية الدولة وطبقية التعليم.
أما الوجه الآخر لنتائج الباكلوريا فهو معضلة التوجيه الجامعي، فالعديد لا يعلمون إن الناجحين غير متساوين في التمتع بالتوجيه، فقبل الدورة الأولى للتوجيه التي تنجز بعد نتائج دورة التدارك، هناك دورة تسمى "دورة المتفوقين" وهي دورة الحاصلين أكثر من 16 معدلا في الدورة الرئيسية للامتحان، والأغلبية الساحقة من هؤلاء هم تلاميذ المعاهد النموذجية المنتصبة في كل الولايات. إن أغلب الموجهين وخاصة صفوتهم أي "نخبة النخبة" من الحائزين على أكثر من 18 معدلا هو حصولهم على توجيه إلى الجامعات الأجنبية وخاصة الألمانية في أحدث الاختصاصات العلمية والتقنية مع تمتعهم بالمنح الجامعية. إن هؤلاء من "الأدمغة" يعززون مبكرا الجامعات ومراكز البحث والمؤسسات الأجنبية وقلة قليلة منهم من تعود لا حقا إلى تونس، وحتى أن عادوا فان مستقبلهم المعرفي والعلمي مهدد جديا في غياب أي رؤية و أي إستراتيجية للحفاظ عليهم. إن قناعة عميقة لدى وسط مهم من الفاعلين التربويين تعتبر المؤسسات التربوية النموذجية التي يصرف عليها من دم الشعب وعلى حساب بقية المؤسسات، إنما هي خدمة مجانية لصالح الدول والمؤسسات الاحتكارية الأجنبية، ولن يستفيد الشعب ولا البلاد من علم هؤلاء ومن نبوغهم شيئا.
إن هذا الوجه الآخر للباكلوريا إنما يكشف حقيقة منظومة التعليم التي هي مجرد جزء من منظومة الحكم القائمة والتي هي منظومة الطبقات السائدة والمهيمنة والتي قلصت أقصى ما تستطيع على الشعب وبناته وأبنائه من المفقرين إمكانية تسلق السلم الاجتماعي عبر مصعد التعليم، فالأغلبية الساحقة من هؤلاء محرومة من الحق في تعليم لائق وفي مستقبل واعد مع انسداد الآفاق التشغيلية التي أصبح معضلة فعلية من خلال عشرات الآلاف من خرجي الجامعة المعطلين عن العمل والذين ينتمون بتمامهم وكمالهم إلى الطبقات الفقيرة والكادحة والمهمشة.

25 جويلية 2024

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي