مصر والمستقبل: بين الوظيفية الإقليمية والقطبية الجيوثقافية

حاتم الجوهرى
2024 / 7 / 24

في غضوان أعوام قليلة تعرض العالم لعدة متغيرات متتالية في القرن الحادي والعشرين تحديدا منذ العقد الثاني من القرن الجديد؛ من تلك المتغيرات: الثورات العربية التي فشلت في تجديد دماء المشروع العربي لأسباب عدة، وصعود الروس مجددا بمشروع "الأوراسية الجديدة" وصعود الصين بمشروع "الحزام والطريق"، وتطبيق أمريكا لنظريات "الصدام الحضاري" وأفكاره في أوكرانيا وفلسطين وتايوان، وكذلك صعود مشروع "المركزية الأفريقية العنصرية السوداء" وتوظيف أثيوبيا له لتخترق السودان وتسعى لعزل مصر أفريقيا، والترويج العنصري لكراهية الإسلام والشمال الأفريقي العربي عموما...
إضافة إلى جائحة كورونا والصراعات الاقتصادية والسياسية المرتبطة بتلك التغيرات خاصة ظهور "البريكس" مرتبطا بالصين وروسيا، وتطور الصراع المائي في القارة بين مصر ودُعاة الأفروسنتريزم وبناء سد النهضة، وتفجر حرب غزة بعد مشروع "صفقة القرن" و"الاتفاقيات الإبراهيمية" لتصفية القضية الفلسطينية، وكذلك تفجر عدة صراعات في قارة أفريقيا استنادا للصعود الروسي الصيني والتناقضات مع الحضور الغربي.
في ظل كل هذا الخضم يسعى الجميع للبحث عن موطأ قدم في عالم القرن الحادي والعشرين، ومصر والذات العربية في قلب هذا الخضم لأنهما في قلب محور جيوبولتيكي مهم من محاور ميلاد القرن الحادي والعشرين، وهو محور فلسطين والمنطقة العربية والشرق الأوسط (الذي يضم دور الجوار الأفريقي وإسرائيل وتركيا وإيران وباكستان).
وتقف مصر -والعرب- إجمالا في موضع شديد الحساسية لأن المرحلة الانتقالية ما بين صعود الروس والصين مجددا في القرن الجديد، شهدت جمود المشروع العربي مع "دولة ما بعد الاستقلال" في مصر والوطن العربي وتوقفه عند سياقات القرن العشرين نفسها، فلم تفلح الثورات العربية في تقديم تصور جيوثقافي أو جيوسياسي جديد ووقعت في فخ التناقضات الداخلية والإقليمية والدولية، من ثم إجمالا تعيش الدول العربية في تراتبات القرن العشرين القديمة ودولة ما بعد الاستقلال سواء في شكلها الجمهوري الديمقراطي أو شكلها الملكي الوراثي.
لم تفهم دولة ما قبل 2011 في مصر الرسائل السياسية التي مارسها الغرب ضدها تحديدا منذ اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000م، حين حاولت مصر إمساك العصى من المنتصف دعما للانتفاضة ومحافظة على علاقتها مع "إسرائيل" وأمريكا، وتلك كانت بداية التدهور الاستراتيجي العام في مصر، حين أصر قطاع مؤسسي كبير في البنية التاريخية لدولة ما بعد الاستقلال في مصر، على تلك الثنائية الاستراتيجية في الجمع بين الأضداد، وكبح كل الأصوات التي كانت تنادي بضرورة تطوير مصر لاستراتيجية بديلة للتحالف مع أمريكا، بعد انتفاضة الأٌقصى وبعد فشل اتفاقيات أوسلو مع اغتيال إسحاق رابين عام 1996م، وأصرت مصر على دور الدولة الوظيفية أو "الدولة حارسة التناقضات" الإقليمية.
في حين كان الغرب و"إسرائيل" قد حصلا على كل ما يريداه من مصر واتفافية السلام الموقعة عام 1979م، وشيئا فشيئا مع اتفاقية السلام خسرت مصر أفريقيا والقرن الأفريقي، وخسرت المكانة الرمزية في المخيلة العربية، وتعمدت أمريكا والمؤسسات الدولية توجيه الاقتصاد المصري بعيدا عن التصنيع والزراعة والإنتاج، وجعلته اقتصادا هامشيا استهلاكيا يعتمد على المساعدات، وكانت الفكرة المسيطرة على دولة ما قبل 2011م هي أن دورها الوظيفي يجعلها أثمن من أن يتم إثارة حفيظتها وغضبها، ولكن المشكلة كانت تراجع مصادر القوة الذاتية وتآكل محصلتها باستمرار عند مصر، ذلك على المستوى الناعم وحضورها في مستودع هويتها الجيوثقافي وفضائه، وعلى المستوى الخشن ومواردها الاقتصادية والعسكرية والبشرية وتوظيفها وفرزها.
والمعضلة الآن؛ أن هناك تيار مؤسسي تكاد تكون له الهيمنة على دولة ما بعد 2013م وإزاحة الإخوان، مازال يعيش في مرحلة الدولة الوظيفية حارسة التناقضات إرث القرن العشرين المنتهي، ولا يريد أن يغادر مواقعه المعرفية التي يتخندق فيها مزايدا، لينظر في الواقع العالمي شديد القسوة الذي أصبحت فيه مصر!
هذا التيار المؤسسي منطقه المعرفي يقوم على فكرة التفسير والتبرير والتعليق على المشهد العالمي، وكأنه مجرد مشاهد في مبارة لا لاعب فيها، وحجته أن مصر هي اللاعب التاريخي الوظيفي الإقليمي الأول! دون أن يملك الجرأة –ولا الحلول أو البدائل- ليدرك أنه يعيش في عالم انتهى منذ تسعينيات القرن الماضي، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وموت إسحاق رابين وفشل اتفاقيات أوسلو واندلاع انتفاضة الأقصى.
هذا التيار المؤسسي استنفد كل أوراقه وانتهت صلاحيته تماما مع معركة رفح العسكرية، ومحاولته استخدام كافة أوراقه للتأكيد على دور مصر المتخيل، وواهما أن إسرائيل –وأمريكا- لن تكسر قواعد الاشتباك السياسي والعسكري مع مصر، والمحصلة لا تخفى على البعيد أو القريب..
في واقع الأمر مصر أمام اختيارين؛ الأول هو استمرار الوهم وخرافة "الدولة حارسة التناقضات" الدولة الوظيفية الإقليمية التي انتهى دورها تماما بالنسبة إلى إسرائيل وأمريكا، والثاني هو اختيار "القطبية الجيوثقافية" وتبني مصر لمشروع جيوثقافي جديد، يعيد ترتيب "مستودع الهوية" ومكوناته العامة بما يسمح لمصر ببناء كتلة جيوثقافية جديدة، تقف الند للند مع "الأوراس الجدد" ودعاة "الحزام والطريق" شرقا، ومع نظريات "الصدام الحضاري" غربا.
مصر ليست في حاجة إلى صدمة مدوية أكبر مما أوصلها له تيار الدولة الوظيفية الإقليمية واتفاقية عام 1979م، كي تستيقظ وتأخذ قرار بالتغيير الجذري.. ليست في حاجة إلى أكثر مما وصل لها الحال الآن.
هل دولة ما بعد 2013م مسئولة سياسيا عما وصلت له البلاد ومفهوم الدولة الوظيفية الإقليمية! أعتقد أنها مسئولة بمقدار قدرتها على تحمل المسئولية السياسية لرؤية المسار التاريخي لدولة ما بعد الاستقلال ومستقبله، وحاجته الجذرية للتحول الطوعي والذاتي لمقاربات جيوثقافية جديدة.
المسئولية السياسية هي قرار بتحمل تبعات موقف وجودي عام؛ مصر الآن تتعرض للتآكل الشديد وانتهت صلاحية النظريات الجيواستراتيجية التي تحكمها إرث القرن العشرين ومخلفاته، وإما أن تكون هناك قدرة على تحمل المسئولية والقيام بالتغيير المطلوب وتبني مشروع "القطبية الجيوثقافية"، أو قد تكون مصر –بكل أسف- عرضة للمزيد ولكل ما تتعرض لها الأمم والجماعات الإنسانية حينما لا تلتفت إلى واقعها، ولا تعترف بالمأزق التي هي فيه، ولا تحسم أمر قراراتها المصيرية.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي