السحب التي أمطرت ألمًا

فوز حمزة
2024 / 7 / 23

منظر الغيوم عبر نافذة الطّائرة، عادتْ بيّ إلى يومٍ تلقيت فيه خبرًا من مجهول يُعلمني من خلاله بمقتل زوجي!.
بعدَ مرورِ عدة أسابيع على حدوث الجريمة، لمْ تستدل الشرطة على الجاني ولم يتوصلوا إلى معرفة المرأة التي وجدوا صورتها في محفظة نقوده، فُحفظتْ القضية ضد مجهول.
بعد الحادثة بشهور، اخترت الرحيل لبلد آخر لأني وجدت في السفر السبيل الوحيد للخلاصِ من وطأة خوف تملكني وهواجس وحدة أخذت تقض عليّ مضجعي. تمنيتُ على ذاكرتي أنْ تفعل مثلما فعل رجال الشرطة، في الاحتفاظ بالذكريات، لكن دون ألم!.
لقد سعدتُ بسكني الجديد، الشقة في مكان هادئ لا تصلها أصوات المركبات المزدحمة بها الشوارع لأتمكن من العيش بنوع من راحة بال افتقده منذ زمن.
شعور ينتابني بأن هناك أصابع خفية تسيطر عليّ، لم أجدْ تفسيرًا مقنعًا لذلك الشعور الغريب، فبررت لنفسي أن سبب ذلك يكمن في ذكرياتي وأنا صغيرة. كنت طفلة خجولة لم تستطع الانسجام مع العالم المحيط بها، فاختارتْ العزلة لأنها وجدتْ فيها ملاذها الآمن.
عدتُ إلى بالونتي ثانية من خلال جلوسي في شرفتي الكبيرة المطلة على حديقة الحي أرتشف قهوتي السادة مع سيجارتي المسائية أترقب غياب الشمس خلف البنايات بعد أن تترك وراءها زرقة خفيفة تغطي سماء المدينة ومسحة حزن تخيم على أزقّتها الموحية كأنها معبر إلى عالم آخر!.
أثارتْ انتباهي سيدة في الشرفة المقابلة، جمال المرأة بدا منسجمًا مع جمال النباتات الغريبة، أما أقفاص الطّيور المختلطة ألوان ريشها مع ألوان الزهور فقد أضفت رونقًا للمكان وسِحرًا آخاذاً جعلني أتساءل بغرابة: هل أنا في حلم أم أن ما أراه وحي خيال؟!.
كل شيء يسير بشكل عادي حتى لحظة تلويح تلك المرأة لي.
حدقتُ فيها طويلًا، كأني أعرفها!.
حاولتُ إشغال نفسي عن التفكير فيها، فوجدت الرغبة في ذلك تلح عليّ.
بعد أيام قلائلـ، قابلتها قرب مدخل البناية، رحبت بيّ ودعتني بشكل صريح لزيارتها، أعلنتُ لها موافقتي بعد أن تركت داخلي إحساسًا مؤكدًا من أنني أعرف تلك السيدة.
مرت أربعة أيام قبل أن أراها ثانية في الشرفة. نور البدر المنعكس المتسلل عبر سحب الدخان المتشكلة فوق رأسها بفعل دخان سيجارتها، أشعرني كأني أقف عند حدود عالم غامض وسرّي.
لوحتْ ثانية تدعوني للذهاب إليها، فاستجبتْ في الحال..
فتحت لي الباب وعلى ثغرها ابتسامة كأنها الفجر تدعوني للدخول ..
روائح متداخلة انبعثت من جدران البيت وممراته الصّامتة . عبق ذكريات عتيقة أخذتني في رحلة لعالم مختلف. لا أعرف مكانًا أو زمانًا لهذا العالم الذي أقف فيه الآن ومزيد من الغروب يلفني. لم أتمكن من العودة إلى ذاتي إلا حينما أقبلتْ تحمل الفناجين ورائحة القهوة ملأت أركان البيت. دعتني لاتبعها إلى الشرفة.
ها أنا أخيرًا معها. أعيش نفس إحساسها وسط النباتات التي شغلني منظرها الرائع والعصافير التي بدت في هذه اللحظة غائبة عن الوجود. أصبحتُ جزءًا من اللوحة وشعور غريب لازمني منحني القدرة على فهم معنى أن تكون منجذبًا لشيء ما. وهي تسألني عن أشياء في حياتي. تذكرت أين شاهدتها من قبل، إنها المرأة التي وجدت الشرطة صورتها في محفظة زوجي!.
عدت لمنزلي وأنا أفكر بقصة حبها التي سردتها لي وسنتين من الزواج ذاقا فيها حلاوة الأيام وشهد العمر، لكن صدمتها لا توصف عندما عرفت أن مَنْ تتحدث عنه كان زوجي.
انتظرتُ مروريومين كي أعاود زيارتها لسبب لا أعرفه، لكني تراجعت في آخر لحظة لأنني تذكرت موعدي مع طبيبي النفسي الذي وبخني لأنقطاعي عنه الفترة الماضية وقال أن النتائج لن تكون في صالحي إن لم أواظب على أخذ الدواء.
مرت أيام ثم أسبوع لم أرَ فيها سيدة الزهور كما أطلقت عليها. كانت شرفتها خلال تلك الأيام مظلمة وعصافيرها توقفت عن الغناء أما زهورها الذابلة في الأصص فقد أكدت على أن شيئًا قد وقع لها!.
لقد استمررت في مراقبتها صباحًا ومساءً لعلي أحظى برؤيتها دون جدوى حتى جاء ذلك المساء عندما كنت أجلس في شرفتي أستنشق عبير أشجار الغاردينيا التي ملأت الحديقة وأستمع لشدو الطّيور القادم من شرفة سيدة الزهورالتي كانت تحتسي قهوتها مع سيجارتها المسائية، لكن هذه المرة بحضور رجل لم أتبين ملامحه، لكني متأكدة أنه زوجي.
سرعان ما لوحت لي للانضمام إليهما، خرجت مسرعة كي أواجه الخائن.
كفي لم تترك جرس الباب ثم بدأتُ أطرق بكفي وكلما مر الوقت ازدادت شدة الطّرقات وتزداد معها في كل ثانية نبضات قلبي، لكن يدًا لامستْ كتفي من الخلف، التفتُ، كانت اليد لامرأة عجوز أفزعتني وجعلت أنفاسي تتسارع بقوة، قالتْ لي:
- السيدة ليست في البيت.
- حقًا، ألا تعرفين أين هي؟.
- لقد غادرت مع زوجها إلى خارج البلاد قبل عام ولن يعودا قريبًا!.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي