الجدار

فوز حمزة
2024 / 7 / 20

بينما كنت أقود سيارتي نحو بيتي في ولاية كاليفورنيا، وردتني رسالة صوتية من أمي تخبرني بدخول أبي العناية المركزة، ختمتها بتلك العبارة التي بقيت ترّن في خيالي كالجرس: ربما ستكون النهاية!.
كانت كلماتها المرتجفة تؤكد الرجاء بحضوري إلى بغداد.. صوت أمي له القدرة ليتلاعب في مشاعري.
سحبتُ نفسَا عميقًا وزفرته بعد غلقي الهاتف. عند المساء، وجدت نفسي أبحث عن بقايا مشاعر تدفعني للسفر آلاف الكيلو مترات لأشهد وفاة أبي!.
استلقيتُ على فراشي محدقًا في سقف غرفتي الأبيض أفكر في أمي، ومتذكرًا جدار بيتنا، الذي استندتُ إليه ذات نهار صيفي بينما أبي كان يترنح من السُّكرِ أمام المارة، بعضهم كان يبتسم ويقول كلمات لم أفهمها في حينها أما جارنا اللصيق، فقد كان يهز رأسه بأسف وهو يرى صديقه بهذا المنظر!.
كان إحساسي وقتها أبكم، فلم أتمكن من القول أن قلبي الصغير هو الآخر كان يترنح من الخجل والعار وسط ضحكات الأطفال وسخريتهم من أبي وهو يسقط في الوحل وساقاه لا تقدر على حمله للوقوف مرة ثانية.
- هل هذا أبوك؟.
سألني أحد الأطفال وكأنه لا يعرف. دفعته بكل العنف، الذي ولد داخلي لحظتها لأسقطه في الوحل إلى جانب أبي!.
كوابيس غريبة هاجمتْ نومي ليلتها.. أغربها حينما رأيتُ نفسي مدفونًا تحت الجدار!.
رسالة من أمي أيقظتني، استمعتُ إليها بينما عيناي مغمضتان:
- الطبيب يقول أن بقاء والدك على قيد الحياة مع كبده التالف أشبه بالمعجزة وأنه قد...
أغلقتُ الهاتف قبل انتهاء الرسالة. انتفضتُ بقوة، وجلست على حافة السرير متذكرًا ليلة هروبي من المنزل وأنا في عمر السابعة عشرة بعد الضرب المبرح، الذي تلقيته من أبي، وتلك كانت عادته كلما لعبت الخمر برأسه. ولولا خالي، الذي يقطن في أميركا، لكنت أواجه مصيرًا مختلفًا. منذ ليلتها وأنا أعاني الفقد وإذا ما فكرت في الرجوع، أجد الجسور قد تحطمتْ مخلفة وراءها ركامًا من ذكريات تقف بيني وبين تنفيذ رغبتي.
استمعتُ إلى بقية الرسالة: وجودكَ معي يعني لي الكثير، لا تجعل الأيام القادمة أكثر قسوة عليّ!.
لا أدري عدد المرات، التي استمعت فيها لهذا الرسالة التي فجرتْ فيّ سيلًا من تساؤلات لم أتمكن من إيقافه، أو السيطرة عليه.
كتبتُ لها: عن أي قسوة تتحدثين يا أمي و...
غصة في القلب وقفتْ بيني وبين الكلمات، التي أبتْ الخروج، فلم أرسل لها أي كلمة.
بصمة صوتية وردتْ منها بعد نصف ساعة تقريبًا وبصوت متحشرج قالت: اثنتان وعشرون سنة لم أركَ فيها، ألا يكفيك ذلك؟!.
جلست على حافة السرير، أحاول إيجاد طريقة أطرد بها كتل جاثمة فوق صدري، لم أجد سوى صورتها أتأمل فيها، أمرر أصابعي فوق ملامحها الحزينة، آه لو تعرفين يا أمي أن افتقادكِ هو هزيمتي المستمرة، بل أنتِ المعركة الوحيدة، التي أخوضها مع نفسي وأرجو ألا أنتصر فيها، غيابكِ جعلني لقمة صغيرة بين فكي حنين قاس!.
قد تستغربين لو أخبرتك أن فنجان شاي من يدُكِ كاف ليعيد ترتيب النبض داخلي!.
أفكار مختلفة صالتْ و جالتْ في رأسي، ولّدتْ لدي رغبة في رؤية أبي ضعيفًا مريضًا ربما لاستبدل صورة له أحتفظتُ بها طوال سنوات. غالبًا ما كنت أتساءل مع نفسي: لماذا أنجبني؟. استجمعت شجاعتي لأنفذ رغبتي طالبًا فتح الكاميرا كي أراه، ومثل كل مرة تخونني الشجاعة، فيعود الحزن مهدهدًا روحي لا يتركني إلّا بعد أن يًسلمني للندم!.
وأنا أقود سيارتي ذاهبًا إلى عملي، بينما غيوم حبلى بالمطر ملأت وجه السماء، استمعتُ إلى أول رسالة من أبي يخبرني فيها بوفاة أمي.
الحلم كان مختلفًا هذه المرة، لقد تهاوى الجدار فوق رأسي!.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي