مصر ما بعد معركة رفح: فيلادلفيا وعنتيبي والصومال والدولتين والسودان

حاتم الجوهرى
2024 / 7 / 19

(هناك لحظات في التاريخ تتطلب إرادة وبصيرة ومواجهة من نوع خاص، وأبعد ما تحتاجه تلك اللحظات هو المزايدون الذين يتمترسون حول استقطابت فرعية وجزئية، ويتركون الصورة الكبيرة عرضة للغرق والتفكك والاضمحلال)

قبل فترة ليست بالبعيدة اشتد الجدال حول الأطراف المتداخلة في عملية "طوفان الأقصى" وحرب غزة، ودور كل منها التاريخي والآني الممكن والمستقبلي، خاصة في ظل التدافع على صدارة السردية الإسلامية بين مصر وتركيا وإيران ودول الخليج الصاعدة، والإرث السياسي من التعالقات الذي تحمله كل منهم مع أمريكا/ الغرب.. وكان المشهد المصري في قلب تلك التدافعات خاصة عندما اقتربت المواجهة داخل قطاع غزة من عملية رفح العسكرية منذ مدة.

رجال كل العصور
كان بعضهم تم استقطابه على خلفية تناقضات ما بعد الثورات العربية ومرحلة ما بعد 2013م وإزاحة الإخوان، ولم يكن في جعبته سوى "المزايدة" والاصطفاف المجاني في جبهات الاستقطاب التي نشأت جراء تلك المرحلة، في خلفية هذا البعض لن تجد سوى "رجال كل العصور" الذين يأكلون على كل الموائد، مع اليمين ومع اليسار، مع الذين سافروا لأمريكا فترة تمويلات ما عرف بـ"حقوق الإنسان" أو "الصحافة المستقلة"، وغيرها... في مشهد اختلط فيه الحابل بالنابل.
ذلك في لحظة تاريخية لم تكن تتطلب سوى قدرة على التجرد من أثر التدافعات المحلية داخل مصر، والقدرة على النظر بهدوء وثبات واتزان إلى متغيرات المشهد العالمي، وانعكاسها على حرب غزة والاحتمالات الممكنة لمصر في مواجهة اقتراب النيران من معركة رفح العسكرية.

رفح آخر معارك جسر النبض
وقتها قلت أن رفح هي آخر معارك جس النبض لمصر بعدها سوف يدخل الأمر في مرحلة التفكيك والحصار المباشر، وأن التراشق المحتمل مع "إسرائيل" لابد أن يلتزم بعدة محددات ومقاربات تعتمد على "صعود المكانة" و"استشراف ما بعد الشرق أوسطية"، والاستباق في عموم المجال الجيوثقافي المصري وإعادة توظيف الموارد الناعمة قبل الخشنة لنشر تصور جيوثقافي مصري في كافة مجالاتها الحيوية يدعم بعضه بعضا، ويستشرف مقاربات الشرق والغرب ويؤسس لنفسه سردية خاصة، لأن البديل سيكون مرحلة الحصار والتفكيك المباشر.

الحصار جملة وليس فرادى
ثم فجاة؛ في غضون عدة أيام وأسابيع متوالية بعد عملية فح العسكرية وتدمير المعبر البري واحتلال محور فيلادلفيا؛ ظهرت البشائر جملة وليس فرادى، جنوب السودان توقع على اتفاقية عنتيبي لتصبح جاهزة للاعتماد ويتم إزاحة مصر من حقوقها التاريخية بإيداعها في الاتحاد الأفريقي، الرئيس الصومالي يغير من خطابه تجاه أثيوبيا ويعلن أنه لا يمانع من وصولها للبحر الأحمر لكنه يختلف مع أساليبها! بعدما كان رافضا تماما لتواجدها على الأرض الصومالية الموحدة، السودان يتطور فيه حضور اللاعب الإماراتي علانية، ويتطور حضور الدعم السريع في تحالف بين الدعم وأثيوبيا وجنوب السودان، ثم يصوت الكنيست على قانون برفض إقامة دولة فلسطينية، وأخيرا نتانياهو يتباهى بحضوره منذ أيام في محور فيلادلفيا ومراقبة المنطقة من فوق نقطة مراقبة على الحدود مع مصر، وما خفي كان أعظم.
كل هذا الأحداث جرت دفعة واحدة في جنوب أفريقيا والصومال والسودان والكنيست إضافة إلى ملفات تتعلق بالقروض والاقتصاد المصري والتضييق عليها، ولم يكن تزامنها مع مآلات معركة رفح صدفة أو أمرا عفويا، ولم يكن كذلك نبوءة مني أو كشفا للغيب، إنما ببساطة كان قراءة لمسار التدافعات الإقليمية والدولية في العشر سنوات الماضية ومحدداتها.

المشترك المجتمعي/ الثقافي
والمهم والأهم الآن؛ هو ما الممكن عمله في هذه اللحظة التاريخية، وما البديل الذي مازال ممكنا القيام به، وحقيقة إن جوهر النموذج والبديل المطلوب هو الالتزام بتحقيق عدة مبادئ أساسية على المستوى الداخلي والإقليمي والدولي، كي تستطيع أن توقف النزيف وتدحرج الكرة... داخليا يجب أن تحقق مصر مبدأ "المشترك المجتمعي" و"المشترك الثقافي"، بمعنى ضرورة بزوغ أو تبنى حقبة سياسية جديدة تتجاوز إرث الاستقطابات المجتمعية والثقافية، وتؤسس لخطاب مصري مجتمي/ ثقافي جديد يقوم على استعادة "مستودع الهوية" المصري بكافة مكوناته وطبقاته المتصالحة والمتعايشة، ويتجاوز أيضا الخطابات السياسية التقليدية المصرية التي فشلت حتى في طرح بديل وأرضية مشتركة في مرحلة ما بعد 25 يناير، حيث تكون "الجغرافيا الثقافية" ومستودع الهوية المصري العام والشامل هي الإطار النظري الحامل هنا، بعد عجز التمثلات السياسية والأيديولوجية الموروثة يمينا ويسارا عن التعبير عن اللحظة التاريخية ومتطلباتها.

القوة الناعمة قبل القوة الخشنة
على المستوى الإقليمي يجب أن تتحرك مصر وفق مبدأ تفعيل خريطة القوة الناعمة ومصادر تفوقها، ورسم مسارتها قبل الموارد الصلبة أو القوة الخشنة، لأن الموارد الخشنة بكافة مكوناتها لا يمكن أن تحقق استباقا إلا إذا كانت تسير وفق خريطة جيوثقافية ناعمة، ترسم لها نطاق الحركة وتضبطه وسوى ذلك سوف تظل الديلوماسية المصرية الناعمة والخشنة بكافة مكوناتها ومستوياتها مجرد رد فعل متأخر للأحداث، ويستمر الحصار والتفكيك.

السردية البديلة والكتلة الجديدة
على المستوى الدولي؛ يجب أن تتحرك مصروفق مبدأ السردية البديلة والكتلة الجديدة، بمعنى أنه على المستوى الجيوبولوتيكي الدولي تسعى روسيا بمشروع "الأوراسية الجديدة"، ومعها الصين بمشروع "الحزام والطريق" إلى إعادة إنتاج المركزية الأوربية القديمة، عبر إعادة بناء الاستقطاب بين الشرق والغرب على أساس جيوثقافي هذه المرة وليس على أساس جيوأيديولجي، وإذا لم تتبنى مصر سردية بديلة وطموحة على المستوى الدولي، ترتبط بمبدأ إمكانية ظهور كتلة جيوثقافية جديدة فلا فرصة استراتيجية أمامها مطلقا، لكي تجبر القوى العالمية على احترام وجودها الجيوبولوتيكي أو الجيوثقافي.

ختاما: ما العائق الأساسي لبزوغ المقاربة السياسية الجديدة؟
لابد من تبنى أو بزوغ مقاربة سياسية جديدة تماما في مصر؛ تعتمد على ثلاثة مبادئ محلية وإقليمية ودولية هي: مبدأ المشترك المجتمعي/ الثقافي – مبدأ القوة الناعمة قبل القوة الخشنة – مبدأ السردية البديلة والكتلة الجديدة، لإمكانية وقف الحصار ووقف تفكيك الفضاء التاريخي للحاضنة المصرية ومقوماتها الوجودية.
هناك سبب بسيط يمنع مصر من تبني هذه المقاربة وهو بكل وضوح الركون للاستسهال والموروث المؤسسي والبيروقراطي ومكوناته التقليدية، كل دولايب العمل المحلية والإقليمية والدولية التي تعمل بها مصر حتى هذه اللحظة، لها عقل مركزي وأبنية فرعية تتوزع على أجهزة الدولة المصرية ومؤسساتها، وتغيير هذا العقل المركزي يطلب عملا ذهنيا وفكريا وونفسيا شاقا للغاية، لأنك تحتاج إلى إعادة فرز المجتمع المصري وتغيير الكوادر المختارة وتغيير قواعد التصعيد الاجتماعي، تحتاج إلى ثورة ناعمة وتحول طوعي وذاتي شامل.
لكن إذا لم تأخذ مصر الطريق الصعب لبزوغ مقاربة سياسية جديدة وتتحمل كافة الصعاب والمتطلبات والمسئوليات، ستكون الجماعة المصرية برمتها في خطر وجودي شديد لم تقابله على مستوى التاريخ، خطر الاضمحلال الصامت والغرق الجماعي، والتفكك على العديد من المستويات..

إنما يبقى الأمل حاضرا قويا وعفيا
في كل الاحتمالات والمآلات

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي