خاصرة الورد

فوز حمزة
2024 / 7 / 19

كانت صديقة افتراضية على الفيس بوك، اقرأ دائمًا ما تنشرُ من قصائد وقصص عن بعد، لكني لم أترك لها يومًا تعليقًا، وبماذا أعلق وأنا أجد أن ما تكتبه يشبه النجوم المنثورة على صفحة السماء في ليلة صيف، تأخذك إلى عالم مواز لتجد نفسك واقفًا عند ناصية حلم!.
صمتي لم يكن إلا كلامًا، مواسم عشقي رسائل لم تكتب بعد .. اعترافاتي عواصف لم تأخذني أبعد من لهفة عشق أخطأت طريق الحب!
لا شيء يوحي أننا سنلتقي ونصبح أكثر استثناءً، فالصدفة الأولى كانت كأول ارتباك لأولِ قبلة،
كفارق بين زمنين، كعذوبة أشعارها التي تكتبها ..
بيت شعرها الذي استوقفني ذات صباح تقول فيه:
حظورك عيدي
اُكبّرُ فيه كل صباح
لصلاة الاشتياق..
الضاد هنا كتبتها ظاء، قلت إنها فرصتي لأحادثها على الخاص:
- صباح الخير.
ردت بسرعة:
- صباح الخير.
- أنا أحد قراءكِ ومن المتابعين لكل ما تكتبين.
- يشرفني ذلك واعتز باهتمامك!
- لاحظت أنكِ كتبت حضورك بالظاء في آخر منشور لك.
- أرجوك انتظر، كيف حدث ذلك؟!
- لا عليكِ فأننا نُخطئ أحيانًا.
- إنه خطأ لايغتفر. فالأنظار لا ترحم خصوصًا من بعض المتصيدين. شكرًا لأنك نبهتني.
- شكرًا لأنكِ أسعدتني.
أثارني استرسالها معي بالكلام فطمعت في طرق الباب الثاني تقربًا منها، لملمتُ أول نسمة وربطتها بشريط معطر من خيالاتي، فقلت:
- كيف إسطنبول، وهل فعلًا أجواءها باردة؟
- هههه .. إنه مجرد مكان كتبته على صفحتي، فأكثر المتابعين فضوليين، يسألون عن سكني.
- إذًا أنتِ في بغداد؟
- نعم.
ما أسعدني والأرض تنحني لدعواتي... قالت بعد لحظة:
- أدعوك بهذه المناسبة لحضور حفل توقيع روايتي.
دخلت الباب الثالث بثقة، سألتها وكلي لهفة:
- أين ومتى؟
- في قاعة جواد سليم في المتنبي، الساعة العاشرة صباحًا.
- سنلتقي إذًا.
- أتشرف بك.
أكره الفرح المستبق لأشياء لم تحدث بعد ،أردتها أن تنساب كنهر من الورد فانحني لأشمها...
- ولكن كيف ستعرفينني؟
- لندعها للحدس فأنا امتلكه!
يقولون الكيمياء تبدأ من الرؤية والنبض شاهد. مذ تواعدنا، ماعادت الحرائق تنطفئ، وأجزم ليلتها، أن الشغف كاد يهذيني!
أربع عشرة ساعة تفصل بين اليقين وعين اليقين، كيف لضاد أن تربكني وتلقي القبض عليّ متلبسا؟
لم يكن المتنبي يستهويني ولا علاقة لي برواده، إلا إن أقدامي كانت تسير بسرعة ذلك الصباح أبحث عن قاعة جواد سليم. كانت القاعة مكتظة بالحضور، إلا من مكان في آخر صف.
أكاد أجزم أن الجنة لاتتسع إلا لاثنين وأن للعشق مواسم غير فصل الدفء .
موقعي سمح لي بالتقاط صورًا لها من زوايا متعددة وهي جالسة بجانب محاورها وأمام معجبيها ساعة كاملة.
وهنا كانت المفارقة التي عجزت فراستها أن تعلم بوجودي ولو من قريب حين احتاجت إلى قلم لتوقع روايتها للحاضرين، مددت يدي لها بالقلم ودون أن أعرفها بنفسي وهي لم تشكرني في زحمة ما كانت فيه.
غادرتُ القاعة وقبل الخروج، التفتُ إليها وقلت كأني أحدثها: لا تراهني على حدسك!.
في المساء وجدت رسالة منها، كتبت فيها:
- لِمَ لم تأتِ، حجزت لك نسخة من روايتي موقعة باسمي!.
أرسلت لها الصور التي التقطتها في القاعة.
أجابت وبسرعة:
- أكنت حاضرًا؟!
- حدسكِ خسرك الرهان!
- كم أنا غبية حين راهنت على شيء لا أمتلكه!.
- لا عليك.
- غدًا سأكون في معرض الكتاب ليحتفى بي لنيلي جائزة عن الرواية عند الساعة الرابعة عصرًا، ما رأيك في الحضور؟ ولكن بالله عليك عرفني عليك!
- سأحمل في يدي باقة ورد حول خصرها شريط بنفسجي.
كل الحضور من الأدباء والشخصيات كانوا يحيطون بها. تبتسم لهذا وتصافح ذاك.
اتخذتُ من إحدى الطاولات مكانًا لي ودون علمها بدأت أرسل لها صورًا التقطتها ، فتحتْ الموبايل وراحت تبحث عني بشوق. للمرة الأولى، أسمع نبضات قلبي وأدركت أن زلزالًا بتسع درجات على مقياس قلبي سيحدث فضيحة ...
كنت أريد حبًا أسعد فيه فوجدت عشقًا أحسد عليه!
كنت مكتفيًا بصورتها الشخصية أحدق فيها لأروي ظمئي من تلك العينين الناعستين ولم يخطر ببالي أن القدر على الضفة الأخرى، يحيك بصمت قصة أخرى سأكون أنا بطلها أما هي، ستكتب بحروفها نهاية تلك القصة.
بوابة الأحلام ما عادت تحتاج إلى قلب فنجان قهوتي، فهي الآن قاب حلم أعانقه، هي خطوات ما بيننا ولا سماء تفصلنا.
أيها الجالسون أوقدوا الشموع، فاليوم عيد مولدي، هي لم تكن محض صدفة، كانت قدرًا نزل عليّ مثل نيزك ليغازل قلبي، قديسة بنت قمر!
أهكذا يباغتنا الحب؟ أم تلك مكيدة؟
منذ اليوم، سأرسم خارطة لوطني، فأنا أكره العتمة وأنصاف الحلول. كل شيء يبدأ بفرصة وسأحسن قراءتها.
انتهى الحضور من محاورت عروس القاعة وبدأت توقع للمعجبين روايتها وأنا منهم.
اقتربت منها، قلت:
- مرحبا. لقد وفيت بوعدي.
ابتسمت ومدت يدها قبل أن تقول:
- مرحبا.
هربت الكلمات مني فوشت بيّ جوارحي، وأكثرهن ثرثرة، دهشة عيني وحمرة وجهي ما تسبب بوقوعي متلبسًا أمام ابتسامة أشرقتْ بها وجنتيها!.
ترددتُ ما بين أمد يدي لرد السلام أو أقدم لها باقة الورد التي كانت شاهدة وساخرة من اضطرابي أمامها.
- كلك ذوق!.
قالت وهي تأخذ مني باقة الورد التي نالت حسدي تلك اللحظة وهي تغفو في حضنها، ليتها تعلم أن الشريط الذي لفً خاصرة الورد قد لملم بداخله خاصرة أشوقي!
- كل الشرف بالتعرف عليك ولقاءك!
- كان من المفترض أن أقدم لكِ شيئًا بهذه المناسبة!
- لا عليك، الورد أدى الواجب.
ولكن ليس هذا ما كان في بالي، توقعت أن نجلس معًا، فلدي الكثير الكثير أحادثك به! هذا ما دار في خاطري قبل أن تقول لي: هيا لنحتفل معًا!
هل أدخل عالمها لأكون جزء من يومياتها؟
- لكن هل لي بطلب، بل أمنية!
- في هذا اليوم بالذات ستتحقق جميع الأمنيات. ردت بضحكة أشرق بعدها قلبي!
- أحتفل معكِ في يوم آخر تختارينه .
ترددتْ قليلًا قبل أن تقول: لِمَ تكلف نفسك؟ صدقًا حضوركَ اليوم يكفيني!
- ساعة واحد. قلت لها ونظرات رجاء لاحظتها في عينيّ!
- حسنًا، سنلتقي غدًا في مقهى المعرض لأنني سأسافر إلى إسطنبول بعد غد.
قاطعتها: ونذهب بعدها..
نظرت إليّ ثوان قبل أن تقول: طيب كما تحب!
سارت معي باتجاه أصدقاءها تحمل باقة الورد الملصق بها ظرف أنيق.
قرأتْ ما كُتِبَ فيه (معكِ سأهجر بوصلتي ) لتقول وهي تعرفني عليهم:
- مرحبا، أعرفكم بصديق جديد.
- لي الشرف أن أكون واحدًا منكم. مبارك منجز مبدعتنا!
- هؤلاء إمبراطوريتي والأكثر دعمًا لي، بإمكانكِ الانضمام إليهم.
شعرت كأن الأبواب تفتح أمامي، وكأنها علقت وسام الثقة فوق صدري دون أن تعرف من أكون؟ هل هي الكيمياء أم أضغاث أحلام؟
مشيت خلفها كأنها تعبر بيّ عوالم لا أدركها، تمتطي مراكب معدة لتخطي السحب الزرقاء وأنا ما زلت أتنفس مبتدأ طريقي معها. كلانا يرقص على إيقاع نوتته.
كل الوجوه مبتسمة وخلفها عشرات الأسئلة. مرت ساعة والوجوه أمامي، لا أرى شيئًا من ملامحها فأنا الغريب بينهم، ما همني إلا هي، بمعنوياتها التي تحلق بجناحين، ولم لا وهي المتوجة بطوق الفوز بجائزتها الأولى.
تفرق الجمع واحدًا بعد الآخر،هي ذهبت مع أحدهم ليوصلها إلى البيت وبهمسة قالت: موعدنا غدًا.
دليني على حل شيفرتك، فلكلانا تراتيل قمر يأبى التواري خلف الصباح. حبل مودتكِ لم يزل يلتف حول نبضات قلبي، كأجنحة السنونو أحلق خلفك، سأجلس هذه المرة أمامكِ لأكتنزمن فردوسكِ بارقة دهشة وألا سأبقى معكِ كعلامة استفهام!.
باقي ثلاثة أمتار قبل أن أقابلها ، سألقي في موقدي أول قطعة حطب لأيام الشتاء. كانت تجلس في مقهى المعرض لوحدها، قمر يرتدي زهوا.
- مرحبا، تأخرت عليكِ؟
- لا. أبدًا!
ساد صمت بيننا لأقول بعدها:
- سعيد بالتحدث إليكِ، كنت أتمنى هذه اللحظة...
قاطعتني بنبرة دعابة:
- يبدو أن لديك أمان كثيرة!
- ومن منا لا يمتلك الأماني؟
توقعت أن يكون الحوار بيننا شاهق، لكنها كانت بمزاج سمح ساعد على إطفاء الإرباك لدي.
- شكرًا على الورد، كانت التفاتة لطيفة منك!
- ودعوتك للانضمام إلى أمبراطويتكِ أجمل، مجموعة راقية ووفية، كانوا أكثر من خلية نحل حولك ما بين مصور وداعم معنوي وابتساماتهم تصل إليك من هنا وهناك.
- أنا مدينة لك بالاعتذار بسبب تحدي الحدس!.
- أو لعلك مدينة لي بلقاء بعد عودتك من السفر.
- لك ذلك.
لأول مرة كان للقهوة مذاق آخر، الوقت برفقتها يمر كعقارب ساعات لا تعرف الضجر.
- سأذهب الآن.
متى موعد السفر ومن يقلك إلى المطار وكم يوم ستمكثين في إسطنبول، كلها أسئلة لم تجب عليها لأني لم ألقها عليها.
قلت مع نفسي وأنا أودعها: سيبقى وهج الشوق متقدًا إلى أن تعودي.
يا أنتَ، أدهشني إصراركَ، إيها الموزون برغم عصف الفصول التي لم تهزمني، إيها الماثل تحت جفوني، أجدكَ تستفز مشاعري وتورق لي من وحشة الأيام برعمًا أخضر.اليوم بت ما بين وبين، أشاؤك ولا أشاء، لن اعلقكَ بعقلي ولن أوقد الشموع، فأنا مشبعة بمواكب عزاءات لا تفقه جسدها مهما شرحتها لك، عذرًا يا أنا، يعزعليّ أنينكِ وقرع طبولكِ وأجراس كنائسكِ، كوني شاهدةً على عطشي!
باغتتني كلماتها تلك حينما فتحت الفيس بوك. اتصلت بها من الماسنجر:
- صباح الخير، هل لي بإيصالكِ إلى المطار؟
- صباح الخير، لا شكرًا. زوج أختي سوف يقوم بإيصالنا أنا ووالدي.
- مابال صوتكِ متعب؟
- لم أنم ليلة أمس لحظة واحدة.
- لماذا؟! قلت بدهشة
- مجرد قلق وسيزول.
- في أي ساعة ستكونين في المطار؟
- تقريبًا الساعة الرابعة!
- سأكون هناك ولو من بعيد.
- بالله عليك، يكفيني اتصالك!
ثلاثة أيام مرت،جاءتني رسالة منها فيها صور لها وهي تتقلد ميدالية وشهادة تقديرية، كتبت لي بعد ذلك:
- إسطنبول مدينة جميلة. أشعر أني فراشة تعرفت على الكثير من الأدباء، سأعود يوم الجمعة الساعة الواحدة ظهرًا، زوج أختي سيكون بانتظارنا، اشتقت لوطني وامبراطوريتي.
جف ظمأي وأنتِ غيثه النازل، فما بين شفتيّ الشوق أفتح رئتي لمقدمكِ، لست أطلب نجاة بل أريد بكِ الغرق، أنتِ لستِ فكرة، أنتِ أشعة شمس تسربتْ من خلال كثافة الأيام لتنجبكِ لي كقوس قزح.
وجدتها واقفة حائرة وبجانبها حقيبتها، كفراشة بيضاء ترتدي ثوب الحلم.
- الحمدلله على سلامتكِ!
بابتسامتها الزاهرة ردت: لماذا تكلف نفسك؟
- هذا زوج أختي حضر.
كم تمنيت لو لم يحضر لأهرب بها!
- أعرفك على صديقي، قالت لزوج أختها الذي قال: تشرفنا
أخذ الحقيبة التي تمنيت لو أخذتها أنا، كانت كفيلة بإطفاء حرائق شوق وإرواء لباقة ورد أحضرتها معي والتي عادت معي كرفيقة تواسي رفيقها!
قد يتساقط الظل عندما تغيب الشمس وتفر الأماني ويمضي الحلم وتتجرع الخيبة بكأس الحسرة.
- صباح الخير ..
رسالتها كانت صعقة كهربائية لقلب فارق نبضه قبل يومين من رؤياها.
- لك هدية حتى تعرف أني لم أنسكَ. اليوم نلتقي مع الامبراطورية.
- سأكون بانتظاركِ!
استمر حالنا لأكثر من ثماني أشهر، كنا كمن يعزف على وتر قيثارة ترتل تمتمات هامسة، كبر ما بداخلنا داخل غرفة مغلقة ليس لها باب ولا نافذة، لا يفقه ما بداخلها إلا نحن، حتى تلك الأسئلة الحائرة من أفراد إمبراطوريتها لن تحصل على جواب واحد، طلاسمها رسمت في مدن التيه مغلقة الأقدار ليس لها إلا تخاطر بالأرواح، أشجارها لم تكن عارية ولا شمسها بخيلة بأشعتها، لكن القدر ما أراد للعصافير أن تحلق بأحلامنا لتبقى في غفوة قابعة تحب أهداب السهاد.
- بعد شهر سأنتقل أنا وعائلتي إلى تركيا، أبي اشترى لنا شقة في بورصا. قالتها ونحن نسير فطلبتْ مني التوقف.
جلستْ على الرصيف ورمتْ بحقيبتها جانبًا كأنها جبل ثلج إنهار من أسفله وكأنها ترقن قيدي والنوارس فوق رأسي تعزف قداس الفراق. حلم يمطر تعزفه أنامل الوفاء، كماء طاهر أتوضأ به كل يوم لأصلي في محرابها!
- انهضي لأخذكِ إلى البيت.
- لا. خذني أولاً إلى بيت صديقتي، وبعدها إلى البيت.
انتظرتها عشرين دقيقة، حينها كتبتُ لها كلمة في ورقة لأعطيها لها، لكني أخفيتها كما أخفيت الكثير من الصور التي التقطتها لها والتي ما زالت محفورة في روحي.رحلتْ بعد أن وعدتني أن تعود،ولكنها لن تعود. أخبرتني بذلك المسافات.
نشرتْ على متصفحها الفيسبوكي: يا لهذا الرجل، كل يوم يضع نقاطًا على حروفي ليزهرني!
للمرة الأولى كتبتُ تعليقًا تحت منشورها : يافكرة علقت بعقلي ويا سفرًا استعذب صمتي، سأقد قميصي وأصرخ على ضوء نبعها ظمأ عشقي!.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي